موناكو بدأت محاكمة قاتل الملياردير اليهودي اللبناني إدمون صفرا

محامي الدفاع عن الممرض الأميركي تيد ماهر يزعم أن الخوف حمل صفرا على «الانتحار» حين اختبأ في الحمام هربا من النار

TT

بدأت أمس في امارة موناكو، المتمتعة بالحكم الذاتي في الجنوب الفرنسي، محاكمة ممرض أميركي سجين منذ اتهامه قبل 3 سنوات بقتل مستخدمه، الملياردير اللبناني اليهودي ادمون صفرا، باضرام النار في شقته المطلة على مرفأ مونتي كارلو، مفتعلا الحادث بطريقة ينال فيها رضاه ومكافأته، بحيث يبدو معها كبطل قاوم محاولة من ملثمين تسللا الى الشقة لاغتيال رجل ترك ثروة تزيد على 3 مليارات دولار.

وكان الممرض تيد ماهر، البالغ من العمر 44 سنة الآن، أخطأ في الحسابات وارتبك عند اشعال حريق صغير في سلة للمهملات بالشقة التي تزيد مساحتها على ألف متر مربع، فقضى صفرا بعمر 67 سنة فجر 4 ديسمبر (كانون الأول) 1999 مختنقا هو وممرضته الأميركية الفلبينية الأصل، فيفيان تورين، داخل حمام فرا اليه وسط ما تسرب من دخان الحريق الذي بدأ بشرارة صغيرة من عود ثقاب بسيط وانتهى بالقضاء على محتويات شقة تحتل طابقين علويين من مبنى «بيل إيبوك» الذي اشتراه صفرا بـ 42 مليون دولار. وقضى الحريق على صاحب الشقة، أو الرجل الذي كان يخشى الخطف والاغتيال، ويتصور أن مافيات روسية تسعى وراءه منذ سنوات، لذلك أقام في ما كان يشبه قلعة حصينة، لم تكن تدخلها صغيرة أو كبيرة الا وترصدها الكاميرات وأجهزة المراقبة والانذار.

وبدأت محاكمة ماهر أمس بشكل مثير، وفق ما بثه التلفزيون المحلي في موناكو، لأن محامي الدفاع عن الممرض الأميركي ذكر أن صفرا، الذي حضرت أرملته الجلسة مع أقرباء وأصدقاء للممرض الأميركي، دعا القضاة الى اعتبار ما حدث نوعا من «الانتحار» مارسه صفرا على نفسه وممرضته بأثر من الخوف، حين رفض الخروج من الحمام بعد تطمينات رجال الاطفاء له بأن كل شيء كان على ما يرام. وركز الادعاء العام على أن الممرض ماهر اعترف باشعاله الحريق، ولو لم يكن يقصد من ورائه القتل، بل رضى رجل تعرف اليه قبل الحادثة بنصف عام في مستشفى في نيويورك عندما كان صفرا يجري فيه فحوصات، كشفت في ابريل (نيسان) 1999 عن اصابته بمرض الباركنسون، المعروف بالرجف الرعّاش، فباع معظم ما كان يملك، وراح يعيش حياة المريض الساعي وراء العلاج، وسط القلق من القتل والاغتيال والباحث في الجنوب الفرنسي عن الأمن والأمان.

وكانت عائلة ماهر، الأب لثلاثة أطفال، أعدت الدفاع بمساندة محامين أميركيين، ممن بثوا قبل أسبوع دفاعهم على صفحة خاصة بماهر على الانترنت، تبث منها زوجته، هايدي، الكثير من النداءات كل يوم، وكرروها أمس عبر محامي الدفاع في المحكمة، حين ألقى التبعة في موت صفرا على جهازي الشرطة والاطفاء بالمدينة بشكل خاص، قائلا إن تقاعسهما في السيطرة على حريق بسيط أشعله ماهر في الشقة، وكذلك بطء التوصل الى المكان الذي اختبأ فيه صفرا وخادمته بعد أن بدأ ماهر يصرخ، زاعما أن ملثمين مجهولين تسللوا اليها، هو الذي أدى الى قتل واحد من أغنى الأثرياء في العالم «وليس الحريق الذي كان يمكن السيطرة عليه بسهولة، لولا الاهمال». وقال المحامي، إن صفرا كان على قيد الحياة حين وصل رجال الاطفاء، ممن أسرعوا ينادونه وسط اللهب البسيط والدخان، ويدعونه للخروج من حيث اختبأ مع الممرضة في الحمام، الا أنه كان في وضع لم يكن واثقا فيه من هويتهم تماما، بحيث ظن أنهم يحتالون لاخراجه ليقتلوه، فبقي مختبئا الى أن اختنق بفعل الدخان، خصوصا أن زوجته، البرازيلية ليللي مونتيفيردي، اتصلت به الى هاتفه النقال من حيث اختبأت بدورها مع حفيدة لها بالتبني في الطابق السفلي من الشقة، فأخبرها انه في الحمام مع الممرضة، وأمرها بالبقاء في الغرفة.

وهو ما أكدته تحقيقات توصلت الى أنه اتصل 9 مرات من الحمام خلال ساعة من وجوده فيه برجال الشرطة والاطفاء، ممن هرعوا ليقتحموا الشقة بصعوبة بعد ذلك، نظرا لما فيها من موانع الدخول عنوة، لكنهم ظلوا يطرقون باب الحمام بعد الدخول اليها ويدعونه للخروج، وهو صامت مع ممرضته فيه، لأنه خشي أن يكون الطارقون هم الذين صرخ الممرض ماهر حين أيقظ الجميع فجر ذلك اليوم بأنهم رجال ملثمون تسللوا الى الشقة التي أقام فيها صفرا منذ اختار مونتي كارلو كمركز اقامة وعمل قبل 22 سنة، حتى لفظ أنفاسه مختنقا مع ممرضة لم يكن يزيد عمرها على 52 سنة.

وكانت زوجة صفرا اتصلت به وحاولت بدورها اقناعه بأن من يطرقون باب الحمام لاخراجه هم من الشرطة ورجال الاطفاء بالذات، وليسوا كما يظن، الا أن الخط انقطع في هذا الاتصال الأخير، ومن بعدها مات صفرا اختناقا من حريق تعاملت معه التحقيقات طوال 3 أيام على انه اغتيال مدبر، بعد الظن بأنه كان عملية سطو عادية، الى درجة منعت الشرطة معها أرملته من مغادرة الامارة، حتى ولو لحضور الدفن الذي تم بعد أسبوع في جنيف، بدلا من القدس التي قيل يومها ان صفرا أوصى بدفنه فيها الى جانب شقيقه إيلي الذي توفي بسان باولو منذ 9 سنوات.

الا أن الارملة حضرت الدفن بعدها، لأن التحقيقات انتهت باعتراف تيد ماهر بعد أن وقع فيما قاله من تناقضات للشرطة، مقرا أنه أشعل الحريق ليحدث بلبلة في الشقة، التي زعم أن اثنين من الملثمين تسللا اليها بطريقة ما فقاومهما، الى درجة أن أحدهما طعنه بسكين، راغبا بذلك أن ينال حظوة ما لدى صفرا، الذي هرع مختبئا في الحمام، لظنه أن ما زعمه ماهر من تسلل المجهولين كان حقيقة.

وما دفع الشرطة للاعتقاد بأن العملية كانت للاغتيال، لا للسرقة، هو اكتشافها بأن الملثمين، اللذين قال الممرض ماهر بأنهما تسللا الى الشقة، لم يقوما بأي سرقة فيها، بالاضافة الى ما دلت اليه التحقيقات أيضا عن معرفتهما بخريطة الشقة ونجاحهما في تجنب ما فيها من أجهزة رصد وانذار، بالاضافة الى أنه لم يكن هناك خلع وكسر بهدف الدخول عنوة، خصوصا بعد مساءلة الحارس الشخصي لادمون صفرا، الاسرائيلي صامويل كوهين، الذي أمضى الليلة السابقة لما حدث خارج المدينة.. يومها سألوه أيضا عما دفعه لعدم النوم بالشقة تلك الليلة، فقال ان صفرا الذي كان يعتبر موناكو الأكثر أمانا بالعالم، اعتاد السماح له بالمبيت خارجا أحيانا «فكنت أفعل ذلك مطمئنا» على حد تعبيره.

من بعدها ركزت التحقيقات اهتمامها على الممرض الأميركي، الذي كان يتقاضى 5 آلاف دولار راتبا شهريا من صفرا، للعمل كممرض شخصي يقيم معه في الشقة الحصينة، التي كان ينام فيها 9 من الخدم والممرضين، اذ زاره المحققون حيث كانت تتم معالجته في مستشفى «الأميرة غريس» بموناكو، من طعن نفسه بسكين طولها 10 سنتيمترات للايحاء بأنها طعنة أحد الملثمين طعنه في الفخذ والذراع اليمنيين، ووجدوا فيما قال تناقضات واضحة، منها انه تلقى الطعنتين في الساعة الخامسة والنصف تماما من فجر ذلك اليوم الذي اقتحم فيه المجهولان الشقة، فنزل الى حيث البواب في الطابق الأرضي ليبلغه بما يحدث، ولم يجد أحدا هناك، الا أن كاميرات موضوعة في السلالم وعند المدخل لم تلتقط أي صورة له، في حين أن احدى الطعنتين كانت في أسفل فخذه اليمنى، وليس في بطنه كعادة المهاجمين بالسكين لشخص آخر، بالاضافة الى اكتشاف المحققين أن صفرا قام بالاتصال بزوجته من الحمام مرتين عبر هاتفه النقال بين السادسة الا ربعا والسادسة والنصف، بينما ذكر الممرض انه نزل السلالم لابلاغ البواب بعد طعنه مرتين عند الخامسة والنصف تماما، مما يعني أن المتسللين دخلا الشقة قبل هذا الوقت، في حين أن زوجة صفرا أفادت بأن التسلل بدأ في الخامسة و40 دقيقة تقريبا، وفي هذا فرق مدته 10 دقائق بين افادتها وافادة الممرض.

وكان المعتقد أن هناك «عقداً واتفاقاً» بين جهات مجهولة بهدف تصفية صفرا، كرغبة المافيا الروسية بالانتقام من مؤسس ومالك 29 في المائة من «ربابليك ناشونال بنك أوف نيويورك»، لأنه زود مكتب المباحث الفيدرالي الاميركي (إف.بي.آي) وكذلك السلطات المالية الاميركية قبل عام من الحادث بمعلومات حساسة، ساعدت على التوصل الى نتائج حاسمة بعد تحقيقات بعمليات تبييض مالي لحوالي 10 مليارات دولارات قام بها نافذون في روسيا عبر مصارف أميركية، ومن بينهم 6 يهود يحملون الجنسية الاسرائيلية، وأن صفرا أقفل حسابات كثيرة كانت عائدة لبعض المشتبه بمشاركتهم في تبييض الأموال بمصرفه الذي أسسه قبل 39 سنة «لذلك كان يتسلم الكثير من التهديدات» على حد ما قاله جيرار كوهين، مدير فرع البنك بموناكو، خلال مؤتمر صحافي عقده بعد مقتل صفرا.

لكن جوزف صفرا، وهو الأخ الأصغر للملياردير اليهودي، الحامل الجنسيات الاسرائيلية والاميركية والبرازيلية واللبنانية مثله، صرح حين وصل مع شقيقه مويزيس الى موناكو بعد يومين من الجريمة، قادمين من حيث يقيمان ويعملان بسان باولو كشريكين في «بنك صفرا» المعتبر رابع بنك بين مصارف البرازيل بحجم الودائع، إنه لا يعتقد بنظرية الاغتيال المنظم «ولا أراها سوى عملية سطو منظمة، لكن فشلها على صعيد السرقة أدى الى نجاحها على صعيد الاغتيال» كما قال.

وتساءل جوزف بعد نفيه أن يكون شقيقه تلقى تهديدات بالقتل، كيف يخطط أحدهم لاغتيال رجل أعمال كان بين أوائل الأغنياء في العالم، بسكين عادية «وهو الذي يعرف بأن ادمون كان محاطا بحرس متمرس، ويعيش في شقة حصينة مزودة بكافة أجهزة الاتصال السريع مع مخافر الشرطة في موناكو». وقال ان شقيقه كان يخشى الخطف أكثر من الاغتيال «شأنه في ذلك شأن أي رجل أعمال متمول» وفق تعبيره عن أخيه الذي لم يرزق بأبناء، بل تزوج من البرازيلية ليللي مونتيفيردي في 1976 بسويسرا، ولها ابنان من زواجها الأول، هما: البرازيليان ادواردو وأدريانا، التي لم تنجب بنات بعد زواجها، فتبنت ابنة، كانت مع جدتها حين هرعت الاثنتان الى الطابق السفلي بعد ضجيج افتعله الممرض الأميركي في الشقة ليعزز زعمه بأن مجهولين اقتحماها.

أمام هذه التصريحات، بالاضافة الى الوقائع والحيثيات التي ألمت بها شرطة موناكو في التحقيقات الأولية، لم يجد الممرض الأميركي سوى الاعتراف بأنه مشعل النار، لكنه أصر وهو يوقع على الاعتراف، وكذلك أصر محاميه أمس أنه لم يكن ينوي قتل الملياردير اليهودي اللبناني، بل كان يريد أن يصبح بطلا في نظره ومنقذا لحياته، وهو ما تحاول مجموعة من المحامين اثباته أمام محكمة موناكو الكبرى بدءا من أمس، ليحصل تيد ماهر على أقل العقوبات، وهي على الأكثر 3 سنوات، أمضاها الى الآن بلا محاكمة وراء القضبان، ولم يبق له للخروج سوى أقل من شهرين على الأكثر. أما اذا أثبت الادعاء العام تعمده قتل صفرا، فان تيد ماهر، وهو لبناني الأصل أيضا كما يقولون، لن يخرج من السجن المركزي بموناكو الا بعد 20 عاما على الأقل، أي عندما يصبح عمره 64 سنة.