مسؤولو استخبارات وخبراء: متاهة من شركات الواجهة والعملاء والوسطاء لمساعدة صدام في الحصول على مواد محظورة

TT

في ظهيرة يوم في مارس (آذار) 2001 قام حراس الحدود الأردنيون بإجراء فحص سريع لرزمة من وثائق التصدير، ثم أشاروا لثلاث شاحنات كبيرة تحمل مئات من لفائف الأقمشة الملونة بألوان زاهية كي تدخل العراق. وداخل هذه الشاحنات كانت هناك كتل ضخمة من مواد عسكرية ممنوعة وفق قوانين العقوبات الاقتصادية الدولية بضمنها أجهزة للرؤية الليلية وأجهزة تحديد الموقع في شتى أنحاء العالم وعدة الكترونية للاتصالات وأجهزة الكترونية لاغراض خاصة من كوريا الجنوبية.

تمكن أحد المهربين العراقيين من شراء وثائق مزورة خاصة بالموافقة على تصدير هذه المواد من مسؤولين أردنيين بمبلغ خمسة آلاف دولار. فبفضل وثائق كهذه وتوقيع مزور وختم أزرق مزور يمكن خرق العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الأمم المتحدة على حكم الرئيس صدام حسين. وقال المهرب العراقي الذي وافق على الكلام شرط عدم كشف هويته «أنا اشتري الرخصة. ومن المفترض أن تكون الرخصة من الأمم المتحدة كي يسمح لي حراس الحدود بالعبور». واضاف المهرب ، 39 سنة، إنه بهذه الوثائق تمكن من شحن ما لا يقل عن 25 حمولة مقابل عمولة كبيرة. وبين هذه الحمولات هناك 2500 إطار عجلة لناقلات جنود مدرعة من أوكرانيا، وشاحنتان تحملان اجهزة مختبرات متطورة من ألمانيا وكومبيوترات من كوريا الجنوبية وضعها داخل ثلاجات شُحنت من دبي. وأضاف هذا المهرب الذي هو مهندس في الأساس وانتقل إلى لندن في الفترة الأخيرة «يستطيع صدام أن يحصل على أي شيء يريده، خصوصا أنه على استعداد لأي شيء».

وتُعتبر قصة هذا المهرِّب وأخرى شبيهة لها شائعة ومصدرا للضيق بالنسبة للمسؤولين الأميركيين والأوروبيين ومسؤولي الأمم المتحدة. وحاول العديد من هؤلاء أن يكشفوا عن شبكات التهريب التي تستخدمها بغداد منذ أن فرضت العقوبات الدولية على النظام العراقي عقب احتلاله للكويت سنة .1990 وعادت عمليات التهريب إلى السطح مرة أخرى مع عودة مفتشي الأسلحة على العراق ومع استعداد واشنطن للحرب. والقضية المطروحة الآن هو تحديد ما عمله صدام حسين كي يكون قادرا على صناعة غازات سامة وإنتاج جراثيم فتاكة وتطوير قنابل نووية وصناعة صواريخ بالستية بعيدة المدى تمكنه من إطلاق هذه الأسلحة بها.

لكن هذه المهمة لن تكون سهلة فصدام اعتمد على متاهة دولية تدخل فيها شركات ومصارف وتجار سلاح مجهولون وأصحاب مصانع غير مشهورة، إضافة إلى وسطاء ومضاربين محتالين ومسؤولين وحرس حدود فاسدين. وعلى الحدود العراقية لا يتم فحص إلا جزء صغير من السلع ولم يتم إلقاء القبض حتى الآن إلا على حفنة صغيرة من الناس المتواطئين. وعن هذا الجانب قال مصطفى العاني الخبير في شؤون العراق في المعهد الملكي للدراسات الدفاعية «في ما يتعلق بالتهريب، لن يزوَّد مفتشو الأسلحة بالكثير من الوثائق التي تكشف أن هذه السلعة أو تلك قد دخلت البلد. ليس هناك تقريبا أي دليل قوي. هناك غالبا افتراضات». وهذا ناجم بشكل جزئي عن أن الكثير من المواد التي تدخل في صناعة الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية هي ذات استعمالات مزدوجة، وهذا ما يجعل دخولها مشروعا إلى العراق كي تُستخدم في الصناعات البتروكيماوية والمستشفيات ومكافحة الحشرات أو في استخدامات مدنية أخرى. فحسب العقوبات الدولية المفروضة على العراق، يُفترض أن يوافق مسؤولو الأمم المتحدة على كل السلع بما فيها تلك التي يمكن استعمالها استعمالا مزدوجا. وشخص مفتشو الأسلحة ما يقرب من مائة عقد منذ ديسمبر (كانون الاول) 1999 وهم يفحصون أيضا عددا من الوثائق التي سلمها العراق للأمم المتحدة في الاول من أكتوبر (تشرين الاول) الماضي في العاصمة النمساوية فيينا. وقال عضو من فريق مفتشي الأسلحة الحاليين إنه «ليس هناك أي جهاز خاص لإنتاج أسلحة كيماوية. فكل الأجهزة ذات استعمال مزدوج». وحالة عدم اليقين ناجمة أيضا عن أن صدام أعاد تنظيم شبكة التهريب بعد مغادرة مفتشي الأسلحة للعراق سنة .1998 ومنذ ذلك الوقت وضِعت «هيئة التصنيع العسكري» في موضع المسؤولية الكاملة كي تعيد تنسيق الجهود. وقد تم تحري عملاء يعملون لصالح هذه الهيئة ويحملون جوازات سفر مزورة في مناطق كثيرة من العالم ابتداء من الكونغو وكينيا إلى ماليزيا واندونيسيا ومن الصين وتايلاند إلى النمسا وألمانيا.

كذلك يتقصى العراق آثار عملائه أيضا. ففي يوليو (تموز) الماضي قال مسؤول عراقي إن 10 من المهندسين العاملين في مشروع بدر لصنع قطع الصواريخ قد تم اعتقالهم بعد عودتهم من زيارات رسمية قاموا بها إلى الهند وروسيا وأوكرانيا. ويواجه هؤلاء المهندسون عقوبة الإعدام لتسريبهم معلومات معينة إلى حكومات أجنبية. وكان عملاء الاستخبارات العراقية يرافقون كل هذه الزيارات في فترة التسعينات، واستُخدمت وحدة استخبارية عراقية تعرف باسم «إم ـ 19» لبناء شركات الواجهة التي من خلالها يتم إنجاز الاتفاقات الحساسة. وقال سكوت ريتر مفتش الأسلحة السابق الذي حقق في العديد من قضايا الاتفاقات التجارية ان «إم ـ 19» قد «وُضعت كخط أمامي في عمان. ثم هم أنشأوا شركة أردنية موازية لها يديرها فلسطيني. وبنوا فرعا لهم في سويسرا ثم في فرنسا. ثم سيفتحون فروعا في ماليزيا أو سنغافورة، لشراء أي شيء يريده صدام من تايوان. فلا أحد ينتبه إن قامت شركة سنغافورية بشراء أدوات للمكائن من تايوان، والفاتورة ستذهب إلى جنيف والمستعمل الأخير مقره في الأردن، عدا أنها في تلك المرحلة سيتم شحنها إلى العراق».

ويقول المسؤولون إن نظام التهريب يعمل حاليا بنفس الطريقة السابقة، والشيء الجديد أن سورية ودبي حلتا لدرجة كبيرة محل الأردن. وهناك شركات كبيرة مسجلة حاليا في ليختنشتاين وقبرص وبنما. وهذه المتاهة من الشركات تدار عادة من قبل أفراد لا يمكن تقصي هوياتهم، وهم يساعدون بتغطية كل عملية لها علاقة بصناعة أسلحة الدمار الشامل. وفي هذا الصدد قال مسؤول غربي «هناك شركة واحدة للنقل، وواحدة لدفع فاتورات الحساب، وواحدة للتعامل مع مجهزي المواد التي تدخل في صنع أسلحة الدمار الشامل، وواحدة تتعامل مع المجهزين للسلع المشروعة مثل الأغذية والأدوية. والمثال الكلاسيكي لهذه الشركات هو رجل واحد وفاكس واحد وتبادل تجاري واحد».

وفي بعض الحالات سمحت السلطات الغربية لهذه الشركات الواجهة والتابعة لصدام بأن تظل مفتوحة كي يمكنها من جمع معلومات استخبارية، وكانت النتيجة هي وضع أجهزة الكترونية للتنصت داخل شحنات السلع المهربة إلى العراق لمعرفة أين سيؤول بها المطاف. وعلى الرغم من ان العملاء العراقيين زاروا الكثير من البلدان الأفريقية الـ13 التي تمتلك مناجم لليورانيوم، لكن لم يثبت أنهم نجحوا في الحصول على أية كمية منه، حسبما قال مسؤول استخبارات أميركي. بل حتى الصفقات غير النووية كانت تفشل غالبا. ففي التسعينات وجد مفتشو الأسلحة أن ثلاثا من كل أربع صفقات لتهريب مواد محرمة قد فشلت. لذلك حذر مسؤول حكومي غربي «كلما قرأت عن محاولة قام بها العراقيون لشراء هذه السلعة أو تلك فإنك لا تعرف إن كان الخبر صحيحا حقا». ففي بعض الحالات كان المجهزون يتراجعون وفي حالات أخرى لا يصادق العراق على الصفقة أو ينتاب الخوف أحد العاملين ضمن الشبكة. وهناك سبب واحد: ليس كل من يعمل في التهريب هو متطوع.

من جانبها، تقدر وكالة الاستخبارات المركزية «سي آي ايه» ما سيحصل عليه العراق من بيع النفط بطريقة غير مشروعة بما يقرب من 3 مليارات دولار، وهذا أكثر بأربع مرات مما حصل العراق عليه سنة 1998 من عمليات تهريب النفط. وستساعد هذه الأموال بغداد «على تحسين قدراتها لتموين مشروع تطوير أسلحة الدمار الشامل» حسبما قالت «سي آي ايه». ويقول الخبراء إن معظم ما يدخل من موارد مالية متأتية عن بيع النفط بطرق غير شرعية يغطي كميات كبيرة من السلع المستوردة بشكل غير شرعي مثل سجائر مالبورو وكومبيوترات آي بي إم. وشجع صدام بشكل علني هذا النمط من التهريب المنظم عن طريق إلغاء الضرائب الجمركية على السلع المستوردة بطريق غير شرعي. وهذا المبدأ متبع منذ عام 1996، حينما بدء العمل بنظام «النفط مقابل الغذاء»، وكانت النتائج درامية.

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»