واشنطن تتخلى عن فكرة تعيين حاكم عسكري أميركي في العراق وتقترح بدلا من ذلك وضعه تحت انتداب الأمم المتحدة

TT

في تحول مهم في سياسة واشنطن، راح المسؤولون الاميركيون يتحدثون مع حلفائهم حول نظام الحكم في العراق بعد اطاحة صدام حسين ويطرحون فكرة وضعه تحت انتداب الأمم المتحدة أو ائتلاف مدني دولي. وبهذا تكون الادارة الاميركية قد تخلت عن فكرة فرض حكم عسكري أميركي مباشر على العراق خلال فترة انتقالية تستمر عامين تعود بعدها ادارة السلطة للعراقيين، حسب ما قاله بعض المسؤولين الكبار في الادارة الأميركية.

وكنموذج لهذه العملية، قال هؤلاء المسؤولون ان الولايات المتحدة أصبحت مهمة بالادارة المدنية الدولية التي أنشئت في كوسوفو بعد سنة 1999، أكثر من الحكم العسكري المباشر الذي فرض على اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. فبدلا من تحمل المسؤولية الكاملة تجاه العراق، تريد واشنطن أن تساهم مؤسسات ومصادر دولية أخرى في المشاركة بالأعباء ـ والمنافع المحتملة ـ الناجمة عن التكفل بالمرحلة الانتقالية المعقدة والحساسة للعراق الذي يعد واحدا من أثرى البلدان النفطية في العالم. وقال مسؤول في الخارجية الأميركية إن «المناقشات بين الوكالات ما زالت قائمة لكن فكرة الحكم العسكري الأميركي للعراق ـ مثلما حكم الجنرال دوغلاس ماك آرثر اليابان بعد الحرب العالمية الثانية ـ ما عادت قابلة للتحقق». وأضاف المسؤول الأميركي أن «هناك تزايدا في الاعتراف بالحاجة الى موافقة دولية أو دعم من الأمم المتحدة أو من ائتلاف لمجموعة بلدان متوافقة في الرأي ـ ودائما متناغمة مع العراقيين أنفسهم». ومع الاتصالات التي تقوم بها الولايات المتحدة مع ما يقرب من 50 دولة سعيا للحصول على دعم ما منها يصب في أي هجوم عسكري محتمل يهدف الى اسقاط صدام حسين، قال المسؤولون الأميركيون انهم يدرسون حاليا الدور الذي يمكن أن تلعبه عشرات الدول في عراق ما بعد صدام. وحول هذا الجانب، قال مسؤول أميركي مقرّب رفض أن تُكشف هويته «الجزء الأكبر من رسالتنا هي أن عليكم أن تبدأوا بالتفكير في فترة ما بعد صدام، والآن حان الوقت لأن تكونوا طرفا في المسؤولية. انه أمر طارئ في هذه المرحلة فقط ولم يتم اتفاق نهائي بخصوصه، لكنهم بدأوا يستجيبون لاقتراحاتنا».

ومثلما هو الحال مع التخطيط الهادف لوضع استراتيجية تتعلق بالدخول في حرب محتملة مع العراق فان الولايات المتحدة راحت تضع الخطط لمواجهة الفترة ما بعد الحرب، وذلك قبل أن تبدأ الأمم المتحدة بتنفيذ قرارها الجديد المتعلق بنزع أسلحة الدمار الشامل عن العراق. وهذا التخطيط ينطلق من افتراض أن نظام صدام لن يتعاون كليا مع الأمم المتحدة، وهذا ما سيطلق شرارة الهجوم العسكري الأميركي وحلفاء الولايات المتحدة. لكن مسؤولين أميركيين قالوا ان الخطط المتعلقة بعراق ما بعد الحرب ما زالت بعيدة عن الصياغة النهائية، وان الجيش الأميركي سيلعب دورا قياديا في أول مرحلة من الفترة الانتقالية، وهدف الولايات المتحدة الحالي هو جعل هذه الفترة أقصر ما يمكن، ومن المتوقع أن يسود قدر من الفوضى في هذا الفترة بعد مرور عقود من الحكم الاستبدادي المطلق على العراق، لكن واشنطن ستسعى الى التمهيد خلال أقصر فترة ممكنة لتولي ادارة دولية الحكم في العراق.

وكان القصف الجوي الذي قادته الولايات المتحدة ضد يوغوسلافيا قد أجبر الجيش اليوغوسلافي على الانسحاب من كوسوفو سنة 1999، ثم وُضع الاقليم تحت اشراف الأمم المتحدة حيث أصبحت تحكمه ادارة مؤقتة تدعمها قوة عسكرية تتكون بالدرجة الأولى من بلدان حلف شمال الاطلسي (ناتو)، وهذا ساعد على وضع خطة اعادة اعمار كوسوفو يشرف عليها الاتحاد الأوروبي وتشارك فيها المؤسسات الخيرية الدولية، وكل ذلك تحت اشراف «منظمة الأمن والتعاون في أوروبا». وقال مسؤول في الادارة الأميركية «نحن نستخدم كوسوفو نموذجا. نحن نريد موظفا اداريا مدنيا لا شخصا عسكريا. ونحن نفضل أن يكون شخصا غير أميركي، على سبيل المثال أن يكون دبلوماسيا أوروبيا». وفي كوسوفو تتكون لجنة الأمم المتحدة الحاكمة من اداريين فرنسيين ودنماركيين وألمان. وهذا ما جعل المسؤول الأميركي يقول «نحن على استعداد كامل كي نرى العراق تحت انتداب الأمم المتحدة أيضا. هذا الأمر ممكن تحقيقه اذا شنت الحرب بتفويض من مجلس الأمن الدولي».

ويأتي هذا الاجماع الجديد داخل الادارة الأميركية بعد أشهر من النقاش حول وضع العراق ما بعد صدام ويعكس تحفظات اميركا على بقاء قواتها في العراق فترة طويلة مثلما هي حالها في أفغانستان. وقال المسؤول الاميركي نفسه «خذ المشكلة التي ما زالت تواجهنا في أفغانستان واضربها في 30، آنذاك ستحصل على الوضع في العراق ما بعد صدام». كذلك توصلت الولايات المتحدة الى استنتاج حذر مفاده أن القيادة التي ستتزعم العراق بعد سقوط النظام الحالي ستأتي على الأكثر من الداخل لا من بين منظمات المعارضة المقيمة في المنفى والتي تدعمها واشنطن حاليا. وهذه القناعة الجديدة ناجمة عن مشاعر الخيبة المتزايدة التي تحس بها الادارة الأميركية تجاه تشكيلات المعارضة العراقية في المنفى، التي من المتوقع أن تبدأ مؤتمرا (ظلت تؤجل عقده لفترة طويلة) في لندن هذا الأسبوع. وعشية انعقاد هذه المؤتمر الذي من المفترض أن يمثل الكيانات الاثنية والدينية الرئيسية داخل العراق ما زالت منظمات المعارضة العراقية منقسمة بشأن عدة قضايا. وهذا ما جعل مسؤولاً كبيراً في وزارة الخارجية الأميركية يقول: «من وجهة نظري الشخصية الزعيم المقبل للعراق سيكون شخصا موجودا في داخل البلد. ويبدو أن الاحتمال ضئيل جدا لأن يكون شخصا من خارج البلاد بعد قضائه 30 عاما في المنفى».

ويتحدد أكبر خلاف بين المعارضة العراقية باصرار أحمد الجلبي، رئيس «المؤتمر الوطني العراقي»، على ضرورة أن تقوم تنظيمات المعارضة الآن بتشكيل حكومة منفى أو كيان مشابه لها، وهذا الاقتراح تعارضه الادارة الأميركية بشدة. وكان العديد من المسؤولين الأميركيين قد التقوا قادة المعارضة الأسبوع الماضي في محاولة منهم لازالة أي تنافس داخل المؤتمر لاحتلال المناصب العليا في فترة ما بعد صدام. وكان البيت الأبيض قد عين الأسبوع الماضي مبعوث الرئيس جورج بوش الخاص الى افغانستان زلماي خليل زاد ليكون سفيرا لدى «العراقيين الأحرار» كي ينسق عن قرب بين جهودهم. وتتوقع واشنطن أن يخرج مؤتمر المعارضة في لندن بـ« كيان استشاري» أو بـ«لجنة تنفيذية» اضافة الى بعض المبادئ العامة بخصوص شكل الحكومة المقبلة في العراق، حسب ما قالته مصادر الادارة الأميركية.

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»