الحدود البرية المغربية ـ الجزائرية أغلقتها السياسة وبقيت مفتوحة في وجه الموتى والرسائل البريدية والأغنام الضالة

TT

الطريق الرابطة بين مدينة وجدة (شرق المغرب) ونقطة «زوج بغال» الحدودية مع الجزائر، تبدو فارغة في النهار لا يستعملها سكان المدينة الا عندما تراودهم فكرة التنزه بين حقول الزيتون التي تحيط بها، لكن كلما ارخى الليل سدوله تصبح هذه الطريق خطرة لمستعمليها، إذ يحولها المهربون بسياراتهم الى حلبة سباق «رالي» جنوني.

شهدت هذه الطريق التي يبلغ طولها 10 كيلومترات ابهى فترات نشاطها ما بين عام 1989 عام فتح الحدود بين المغرب والجزائر، وعام 1994، تاريخ اغلاق هذه الحدود. وخلال هذه الفترة القصيرة تحولت هذه الطريق الى شريان حياة حقيقي بالنسبة لمنطقة المغرب الشرقي، كانت تعبرها قوافل التجار والمهربين من كل دول المغرب العربي أي من ليبيا وتونس والجزائر، واغرى هذا التدفق البشري الكبير سكان مدينة وجدة لبناء مقاهي ومطاعم وفنادق على هذه الطريق التي ما زالت تسمى اليوم بطريق الحدود رغم ان هذه الحدود مغلقة منذ نحو 10 سنوات. واليوم تحولت تلك المشاريع التي كان اصحابها يحلمون من ورائها تحويل نقطة الحدود الى منطقة حرة، الى مجرد اطلال نادرا ما يؤمها عشاق المدينة للاختلاء بها بعيدا عن اعين الناس.

ورغم مضي السنوات الطويلة على اغلاق الحدود فان السلطات المغربية حافظت على صيانة هذه الطريق، اذ يبدو لمستعمليها انها احدثت للتو. وعند نقطة الحدود «زوج بغال» قبل عبور الحاجز الذي تضعه شرطة الحدود المغربية يوجد مركز صغير للهاتف ومتجر ، وغير بعيد منهما يوجد مركب سياحي كبير طواه الاهمال، كان صاحبه تعيس الحظ لان الحدود اغلقت بمجرد ما انتهى من بنائه عام .1994 يتذكر محمد المير احد المستثمرين الشباب من مدينة وجدة سنة اغلاق الحدود بمرارة، ويقول «كان وقع اغلاق الحدود علينا مثل الصاعقة، او مثل الاعصار الذي عندما يضرب منطقة ما لا يخلف وراءه سوى الدمار».

ويضيف المير «اتذكر في تلك السنة وقبل ايام من اغلاق الحدود ان صديقا لي اشترى دكانا بقرية بني ادرار الحدودية بمبلغ قدره 130 الف دولار، وفي اليوم التالي بعد اغلاق الحدود لم يعد سعره يتجاوز 30 الف دولار وهو اليوم اقل بذلك بكثير». ويكاد وضع المير لا يختلف عن وضع صديقه، فهو الآخر صاحب مشروع استثماري صغير يديره بنفسه، ورغم ما يعرفه مشروعه من رواج كل صيف عندما يعود سكان المنطقة من المهاجرين اليها، فان حالة الركود التي تعيشها المنطقة خارج فصل الصيف وموسم الاجازات، دفعت محمد الى التفكير في بيع مشروعه والتوجه الى احدى المدن الداخلية «مكناس» او «مراكش» لاطلاق مشروع جديد.

الحياة في هذه المنطقة التي طالب بعض نوابها في البرلمان السابق باعتبارها «منطقة منكوبة»، لا تشجع حتى على «التخلص» من المشاريع المفلسة بأقل الاضرار، لذلك وكل مساء عندما يخرج محمد برفقة اصحابه للتنزه على الطريق الحدودية يرفع صوته مرددا دعاءه «اللهم افرجها علينا».

وعندما سئل محمد عن أمنيته بمناسبة رأس السنة الميلادية الجديدة قال بدون تردد «اذا فتحت الحدود، افرجت، افرجت، افرجت».

وحال محمد هي حال معظم سكان المنطقة البالغ عددهم اكثر من مليون ونصف مليون نسمة، ففتح الحدود المغربية ـ الجزائرية هي امنية الجميع بمناسبة العام الجديد. ومما زاد في انعاش هذه الامنية، فتح الحدود أخيرا امام شاحنات الغاز الجزائرية في اطار المساعدات التي قررت الجزائر تقديمها للمغرب على اثر نشوب حريق في اكبر مصفاة للنفط بالمغرب في رمضان الماضي. ومنذ ذلك التاريخ عبرت الحدود نحو 127 شاحنة جزائرية محملة بالغاز السائل، وحملت معها الامل الى قلوب سكان المنطقة الشرقية.

في «زوج بغال» بدأت معالم حياة جديدة تدب مبشرة ببزوغ فجر جديد. وتحت الاعلام الكبيرة المغربية والجزائرية المرفوعة على الجانب المغربي من الحدود تبدو حركة نشيطة لرجال الشرطة والجمارك المغاربة وهم يتحركون بين مكاتبهم الفارغة.

سألنا رئيس الشرطة الحدودية المغربي «ألا تشعر بالملل من العمل في نقطة حدود مغلقة؟»، فكان رده «نحن نعمل بوتيرة عادية وكأن الحدود مفتوحة، انظر الى كومة الاقلام الموجودة على مكتبي، والى اكوام الملفات التي تمر من مكتبي يوميا». وعندما سألناه عن طبيعة تلك «الملفات» رد ممتعضا «لا يمكن ان افصح عن كل شيء، ولا تنس اننا شرطة حدود ، ومهمتنا هي حراسة الحدود».

وحول طبيعة العلاقات التي توجد بين شرطة الحدود المغربية ونظيرتها الجزائرية قال رئيس مركز الشرطة الحدودي المغربي الذي فضل عدم ذكر اسمه، إن هذه العلاقات ظلت دائما موجودة، والاتصال بينهما ظل دائما قائما سواء عبر الهاتف او الفاكس او التلكس.

وبشأن طبيعة المواضيع التي تحتاج الى مثل هذا الاتصال الرسمي يقول المسؤول الامني المغربي «ان هناك امورا تحتم علينا الاتصال المباشر لتسويتها مثل اعادة تسليم الجزائريين الذين يدخلون الى المغرب بطريقة غير شرعية، او تسليم او تسلم الاغنام التي تعبر الحدود خطأ في الاتجاهين عندنا او عند الجزائريين» قبل ان يتذكر «ثم هناك الاجراءات التي يتطلبها تسليم رفات رعايا البلدين المتوفين عندنا او عندهم».

وتجدر الاشارة الى انه منذ اغلاق الحدود عام 1994 على اثر احداث فندق «اطلس اسني» في مراكش، لم تعد الحدود بين اكبر بلدين مغاربيين تفتح إلا في وجه الموتى والاغنام، اما المهربون فقد اختاروا مواقع نشاطهم بعيدا عن اعين الشرطة، واغرقوا الاسواق المغربية بالمواد الغذائية الجزائرية مثل التمور والجبن والحليب المجفف، واطارات السيارات والشاحنات والادوية، اما البنزين الجزائري فبات يعرض على جنبات الطرق.

ومع عودة الدفء الى العلاقات المغربية ـ الجزائرية على اثر الفيضانات الاخيرة التي شهدها المغرب، عاد امل فتح الحدود ينتعش من جديد لدى سكان المنطقة. اما على الجانب الرسمي فان تطبيع العلاقات يتم بهدوء بعيدا عن مشاعر الناس الذين لا يضعون اي اعتبار لحسابات السياسة، رغم ان حالة التطبيع التي تشهدها العلاقات الجزائرية ـ المغربية اليوم تتم تحت غطاء «انساني» .فالجزائريون يعتبرون المساعدات، التي يقدمونها للمغرب بأنها تدخل في اطار التضامن الذي يفرضه الواجب الانساني. وباتت الشاحنات الضخمة التي تعبر مدينة وجدة بصفة شبه يومية مؤشر خير قرب فتح الحدود بين البلدين. وقال العياشي حسني ، وهو سائق جزائري لاحدى تلك الشاحنات التي تحمل رمز شركة «نفطال» الجزائرية، لـ«الشرق الأوسط»، ان رؤساءه قالوا له ان مهمته تدخل في اطار الصداقة المغربية ـ الجزائرية، قبل ان يضيف «أنا لا افهم في السياسة، ولا أفهم لماذا الحدود مغلقة بين بلدينا، فالمغرب بلد جميل ورغم قربه منا لم يسبق لي ان زرته، ومهمتي هذه جعلتني اكتشف بلدا كنت اجهل عنه كل شيء رغم انه بلد جار وصديق».

اما منير عبد اللاوي رئيس مركز شركة «سلام غاز» المغربية التي تستقبل يوميا المساعدات الجزائرية من الغاز السائل فقال ان بغدادي ابادجي، رئيس البعثة، التي ارسلتها الجزائر الى المغرب عشية اندلاع الحريق في مصفاة «لاسامير» المغربية، زار مركز «سلام غاز» في وجدة ووقف عن كثب على الخصاص الذي تسبب فيه الحريق لتمويل المنطقة الشرقية المغربية من مادة الغاز السائل. واضاف عبد اللاوي ان رئيس البعثة الجزائرية يزورهم كل اسبوع لمعرفة حاجياتهم من مادة الغاز السائل، وحتى الآن توصلت شركة «سلام غاز» باكثر من مائة شاحنة غاز جزائرية، وتنتظر تسلم نحو 30 الف طن اخرى من الغاز السائل وهو ما يكفي لتغطية نحو 5 الى 6 اشهر من استهلاك المنطقة الشرقية المغربية من هذه المادة الاساسية.

وباستثناء شاحنات الغاز الجزائرية التي باتت اليوم هي قنطرة التواصل الوحيدة بين الجزائر والمغرب عبر نقطة الحدود الرئيسية بين البلدين، فان السيارات الوحيدة التي حافظت على شعرة معاوية في الحدود، هي سيارات بريد البلدين، حيث تصل سيارة البريد المغربية الى الحاجز الجديد الذي يفصل شرطة حدود البلدين ويظل موظف البريد ينتظر داخل سياراته حتى تظهر له سيارة زميله الجزائري على الجهة الاخرى من الحاجز فينزل الرجلان من سيارتيهما ويتبادلان التحيات، وبشكل روتيني يتبادلان اكياس الرسائل المحملة بمشاعر سكان البلدين، وبنفس الطريقة الروتينية يتم التوقيع وقوفا على التسلم ودائما وراء الحاجز الذي تراقبه اعين الشرطة من الجانبين، ومن بعيد تراقبه عيون بريئة، هي عيون الطفل ياسين، ابن احد عناصر شرطة الحدود المغربية الذي لا يفهم لماذا يقف الكبار عند حاجز حديدي نصبوه لانفسهم. بينما يستطيع هو واصدقاؤه عبور الحدود ليتلقوا مع اصدقائهم في الضفة الاخرى، يلعبون بعيدا عن اعين الكبار غير آبهين بالسياسة وحواجزها.