السودان: عام بخيار يكون أو لا يكون مثلما كان اتفاق ماشاكوس فاصلا

TT

يرى معظم السودانيين ان 20 يوليو (تموز) 2000 كان يوما فاصلا في تاريخ السودان يوم ان انشقت ارض ضاحية ماشاكوس الكينية عن بروتوكول حمل وصول الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة العقيد جون قرنق وحكومة الفريق عمر البشير الى تخطي عقبتي علاقة الدين بالدولة، وكفالة حق تقرير المصير لما وصفه البروتوكول لشعب جنوب السودان بعد فترة انتقالية عمرها 6 سنوات. اسباب التقييم الخاص لهذا اليوم، من وجهة النظر تلك، تعود الى انه يشكل نقلة كبيرة في خطاب الحرب والسلام تقترب من القطع بالوصول الى نهاية له خلال عام 2003.

وتشمل اسباب التقييم ايضا الى ان البروتوكول يوحي بان كل مأزق الحكم في السودان قد انحصر بين طرفي الاتفاق، كما لو ان المأزق في اصله كان شماليا جنوبيا فقط، ولم يكن علاوة على ذلك، شماليا ـ شماليا ايضا، والاشارات هنا الى استبعاد التجمع الوطني الديمقراطي الذي يضم فصائل اخرى معارضة الى جانب الحركة، دعك من حزب الامة بقيادة الصادق المهدي، واحزاب التوالي التي انخرطت في التجاوب مع دستور 1999.

الى ذلك، وضح ان لتلك الرؤية ايضا سندها على ارض الواقع، لان بروتوكول يوليو سجل نقطة اضافية بجولة ثانية للمفاوضات طرحت تفاصيل الفترة الانتقالية ووضعت اطارا لقضية ثالثة في الترتيب وشائكة وهي قضية الثروة والسلطة.

حول هذه القضية الاخيرة، يذهب غازي صلاح الدين رئيس وفد الحكومة للمفاوضات والمستشار السياسي للرئيس البشير الى ان ما يميز مفاوضات ماشاكوس انها توشك ان تضع لبنة اولية وخصبة للسودانيين في شأن ادب التفاوض، اذ لم يتعرف السودانيون في مفاوضاتهم السابقة على النصوص الاصيلة في ذلك الادب. ويشير غازي هنا الى ان طرح وفد الحركة لقضية الثروة واقتسامها اعتمد على (تهميش) الجنوب، فقاد الحوار، بتنشيط من الوسطاء الى تعريف التهميش بداية ثم الدخول الى وضع مواصفات تجمع بين كل المهمشين وتفرق بينهم وفق كل حالة، وفي هذا السياق يقول ان من الممكن وضع مناطق في الشمال في قائمة التهميش.

شاهد القول ان هذه المفاوضات، وبالثقل السياسي الذي يضعه على ظهرها السودانيون كافة ستلتئم في يناير القادم في كينيا، وهي تفتقد راعي المفاوضات الرئيسي الكيني بسبب تنحيه يوم 3 يناير القادم، ولكنها تعوض هذا الفقد بالفراغ من جولات تحضيرية غابت عن سائر وسائل الاعلام العالمية، وربما عن قصد من الادارة الاميركية التي يشاع انها انفردت طوال شهري نوفمبر وديسمبر 2000 بناشطين من الحكومة والحركة، وربما بعض قادة التجمع لتحقيق المفاوضات القادمة بالمضادات الحيوية المطلوبة لحمايتها من الفشل.

الى ذلك، تبدو خريطة العام 2003 بالنسبة للسودان ذات قابلية عالية لحمل المفاجآت على خلفية ما يمكن ان تصل اليه المفاوضات في شأن الفترة الانتقالية. وتشير «الشرق الاوسط» هنا الى ان الخيارات موضوع النقاش يمكن ان تكون فترة رئاسية للفريق البشير ولجون قرنق من ثلاث سنوات لكل منهما، مقابل اقتراح آخر يقضي بحكر منصب النائب الاول لرئيس الجمهورية للجنوب واعطائه صلاحيات جديدة في مقدمتها حق النقض على قرارات الرئيس اذا صدرت دون موافقته، وبينها اجراء الانتخابات بعد فترة وجيزة خلال ست سنوات لتحديد الثقل السياسي للتمثيل التنفيذي والتشريعي خلال الفترة الانتقالية نفسها، ويطرح مثل هذا الاقتراح الاخير مآزق جديدة على المفاوضين، كأن تأتي تلك الانتخابات بجسم سياسي اكبر من طرفي التفاوض، ليرتفع التساؤل بعدها حول موقع ومصير هذا الجسم في تشكيلة الفترة الانتقالية، دعك منه فيما بعدها.

على مسافة اخرى، وذات صلة بهذا الشأن، يمكن القطع بان علاقات السودان الاقليمية قد استجابت ايجابيا لجرعات التنشيط التي قادها الحكم في الخرطوم، ولكن في اتجاه الشرق مع اثيوبيا والجنوب مع كينيا وأوغندا والكونغو، في مقابل ضمور اصابها شمالا على جبهتي مصر وليبيا، والسبب هنا تجاوز الخرطوم لما يعرف بالمبادرة المصرية ـ الليبية المشتركة، الا ان الخرطوم سارعت الى سد فجوة الشكوك مع طرابلس تحديدا بتوقيعها ميثاقا جديدا للتكامل اتاح حريات التنقل والتملك والاستثمار بلا قيود بين مواطني البلدين، اما على صعيد جبهة العلاقات مع القاهرة فالاتجاه السائد لدى الحكومة، هو السعي لضم القاهرة الى مفاوضات ماشاكوس، ومعلوم هنا ان قضية حق تقرير المصير تلامس عصبا حساسا لدى القاهرة على خلفية الهواجس القائمة مع قضية المياه.

عائد التفاوض مع الحركة والوصول لبروتوكول اتفاق معها اعاد سفن علاقات الخرطوم الى المياه الدافئة مع سائر الدول الاوروبية. ويقول محامي بريطاني لـ«الشرق الاوسط» ان نسبة رفض وزارة الداخلية البريطانية مثلا لطلبات اللجوء السياسي المقدمة من سودانيين ارتفعت من 57 في المائة الى 75 في المائة، وان سائر اسباب الرفض التي يحملها في العادة خطاب وزير الداخلية لمقدم طلب اصبحت تقوم على الانفراجات السياسية الاخيرة بالسودان.

عائد التفاوض مع واشنطن تحدد اتجاهاته وتوجهاته خلال عام 2003 في ضوء حقائق اخرى تتعدى المفاوضات، وبينها مواقف الخرطوم من ضرب العراق وربما تقديم المزيد من المعلومات حول شبكة «القاعدة» باعتبار ان الخرطوم سبق ان استضافت رئيسها اسامة بن لادن. وتضيف «الشرق الاوسط» هنا ان واشنطن قد استقبلت اوائل هذا الاسبوع قطبي المهدي المستشار السياسي للفريق البشير في زيارة غير معلنة وفق افادة خاصة لمصادر خاصة بلندن. وقد ذكر المصدر لـ«الشرق الاوسط» ان قطبي المهدي تحديدا كان اول من تحدث كتابة للادارة الاميركية مقترحا التعاون الامني في فترة سبقت بكثير احداث 11 سبتمبر، وقد كشفت الصحافة الاميركية بعدها ان اضاعة حكومة كلينتون لتلك الفرصة افقدتها معلومات تصل الى نحو 2000 صفحة.

2003 عام فاصل في تاريخ السودان، استنادا الى معطيات 20 يوليو 2000 التي يراها السودانيون فاصلة بحساباتهم. فاذا ما كان لهذا العام ان يحمل التوقيع النهائي على اتفاق بين الحكومة والحركة الشعبية، فان ذلك لن يكون نهاية المطاف، لان ذلك سيلقي باعباء جديدة على طرفي الاتفاق، وفي مقدمتها قدرتهما على حل خلافاتهما في محيطهما الجغرافي الداخلي، اي ان يحل الفريق البشير اختلافاته مع الفصائل والاحزاب السياسية الاخرى في الشمال، وبنفس القدر العقيد جون قرنق في الجنوب، دعك من امكانيات ان يحفز الاتفاق جهات اخرى مهمشة او غير مهمشة للتحدث بلغة البندقية حين تقتدي إن طوعا او كرها بنموذج الحركة الشعبية.