عقيدة أميركا النفطية.. وعقدتها مع الطاقة

الإدارة الأميركية حاولت إيجاد بديل لتقليل الاعتماد على النفط العربي وفشلت

TT

* كان القول المأثور في القرن التاسع عشر «ان التجارة تتبع العلم»، ولكن هذه المقولة تحولت الآن، اقلها لدى اميركا، حيث اصبح العلم الاميركي تابعا للتجارة، بدليل تركيز التنقلات في الوجود العسكري الاميركي على النفط مع نهاية الحرب الباردة، فشهدنا تقليل القوات في اوروبا، وارتفاعها في الخليج. وجاءت حرب افغانستان لتأخذ القوات الاميركية الى آسيا الوسطى حيث تأمل وزارة الدفاع الاميركية (البنتاغون) في ابقاء وجودها قريبا من خطوط انابيب النفط الحالية والمستقبلية. والى ذلك فقصة، او عقيدة اميركا مع النفط، وان شئت قل عقدتها، تبدو شائكة ومعقدة، وهي تشهد تراجع حصتها من انتاج النفط من الثلث عام 1930 الى الخمس مع حلول المقاطعة العربية عام 1973، وقد دعا ذلك الرئيس نيكسون لاطلاق ما عرف بـ«مشروع الاستقلال»، وهو خطة تهدف الى جعل اميركا مكتفية ذاتيا من النفط، ومع ذلك، فقد انخرط خلفاء نيكسون في هدف اكثر اعتدالا عن فكرة «الاكتفاء الذاتي»، فحاولوا «التقليل» من الاعتماد على النفط العربي ولكنهم فشلوا. فأميركا الآن اكثر اعتمادا، عنها في اي وقت مضى، على استيراد النفط. وهي تستورد الآن 60 في المائة من احتياجاتها النفطية، فيما تذهب التوقعات الى ارتفاع تلك النسبة الى 90 في المائة بحلول عام 2020.

على خلفية تلك المقدمة، يكشف جون ساري في عدد مجلة «نيوزويك» الاميركية الخاص بعام 2003 لهاث واشنطن لاستكمال عقيدة نفطية في العام القادم، اخفق فيها السابقون، فأصبح الاخفاق عقدة، جعلت من قضية النفط من اولويات الرئيس جورج بوش.

ويذكر مقال باري ان ما يجمع بين باكو وفندق شيراتون في الدار البيضاء ونادي النفط في هيوستن هو انها كانت جميعها محطات في الآونة الاخيرة، لوزير الطاقة الاميركي سبنسر ابراهام، في مسعاه لتقليل الاعتماد على نفط الشرق الأوسط، وهو الحلم الاميركي القديم منذ مقاطعة النفط العربية عام 1973. ولكن المهم هنا الى اي حد تتعاطف ادارة بوش مع الهدف، وهي تنهب الارض بحثا عن بدائل بدءا من روسيا وبحر قزوين ونهاية بغرب افريقيا والمياه العميقة في المحيط الاطلنطي أينما كانت.

في يونيو (حزيران) الماضي، هبط ابراهام ضيفا على قمة وزراء النفط الافارقة، وقد زعمت المصادر النفطية بعد تلك الزيارة، ان من بين اهداف اميركا مغازلة نيجيريا ودعوتها للخروج من منظمة الدول المصدرة للبترول (اوبك) لتعمل، اي نيجيريا، على احتلال مقعد السعودية كأكبر ممول نفطي لأميركا.

في سبتمبر (ايلول) طار ابراهام الى باكو حاضرة اذربيجان لدراسة مشروع خط للانابيب طوله 1100 ميل من بحر قزوين المغلق الى ميناء شرق اوسطي في تركيا.

في اكتوبر (تشرين الاول) كان ابراهام في هيوستن لحضور قمة الطاقة الاميركية ـ الروسية بهدف الجمع بين رجال النفط الاميركيين الذين يملكون المال والتكنولوجيا برفقائهم الروس الذين يملكون النفط، ليقول بعدها ايغور يوسفوف وزير الطاقة الروسي، انه من الممكن ان تصبح روسيا في المستقبل القريب اكبر ممول لموارد الطاقة لأميركا.

وبالطبع، لا يمكن القطع بحدوث كل هذه التوقعات، فلا روسيا ولا نيجيريا يمكن ان تصبحا ممول النفط الاول لاميركا، وربما من الصعب على اي منطقة اخرى، دعك عن دولة واحدة، ان تحل محل الدول الخليجية، وخاصة السعودية التي تجلس على ربع احتياطي العالم، وحصة اعظم من الموارد سهلة الوصول. ولذلك فابراهام لا يريد ان يبالغ في تسويق فكرة تحرير اميركا من نفط الشرق الأوسط، لأن الهدف كما يزعم، يكمن في خلق وتطوير علاقات تجارية اقوى خارج الشرق الأوسط وتحديد الطرق التي يمكن بها مساعدة الدول التي تمتلك تلك الموارد في توسيع قطاعاتها النفطية.

ومن السودان الى البرازيل، فالنفط يتدفق من حقول جديدة، والدول خارج منظومة «اوبك» تنتج الآن ما يقترب من نصف الانتاج العالمي فيما ترتفع قامة شركات منتجة في غرب افريقيا والمكسيك والبرازيل.

ومع سعر 25 دولارا للبرميل، تبدو خيارات جديدة ملك اليدين بما فيها الحفر لمساعات اعمق في جروف الاطلنطي حيث درجات الحرارة المنخفضة جدا والتي تمكن من تسخين النفط ليتدفق بعدها في حرية. كما ان بوسع رجال النفط الاميركيين صناعة المال بالاتجاه الى آبار النفط القديمة في الاراضي الاميركية، والاشارة هنا الى طفرة تكساس، معقل الرئيس بوش.

* روسيا.. المرشح القديم:

* والسؤال: هل بوسع اي من هذه الصفقات الجديدة ان تصبح بديلا للروابط بالشرق الاوسط؟ ناقش الرئيس بوش والرئيس الروسي فلاديمير بوتين شراكة استراتيجية للطاقة، اثارت مناقشات جادة لجهة استثمار اميركي سنوي في الحقول الروسية بقيمة 18 مليار دولار، وصولا لرؤية المدى الذي يمكن ان يكون عليه الامداد الروسي.

ويقول كولين كامبل المستشار الجيولوجي ان الروس دربوا جيولوجيين من الدرجة الاولى، فقاموا بمسوحات اكثر تفصيلا لحقول النفط، ولكنهم تجاهلوا اعتبارات التكلفة ذات الاهمية في الدراسات الغربية، ولذك، فتقديرات الروس التجريدية لا تقدم اشارة حول حجم الاحتياطي الذي يمكن استخراجه بتكلفة معقولة. الى ذلك، قارنت التقديرات السابقة بين احتياطيات بحر قزوين باحتياطيات الخليج، ولكنها هبطت الآن الى عشر تلك التقديرات فيما انسحبت الشركات الرائدة في استخراج النفط مثل ايكسون موبيل وبي بي من المشاريع في تلك المنطقة، وفي المقابل، فقد انتقل الانتباه الى الاطلنطي وغرب افريقيا والبرازيل، ولكن حجم تلك الحقول لا يزال غير معروف.

* ساوتومي.. المرشح الجديد

* اما آخر اهتمامات البنتاغون فتتجه الى جزيرتي برنسبل وساوتومي في خليج غينيا الغني بالنفط، وقد التقى الرئيس بوش في سبتمبر الماضي في الامم المتحدة برؤساء الدول النفطية في غرب افريقيا بمن فيهم فراديك دي منيزي رئيس ساوتومي الذي اعلن عن خطط لبناء ميناء من الضخامة بحيث يستقبل سفن النفط وحاملات الطائرات الى جانب قوات من البحرية الاميركية بالمنطقة، ومع ان المسؤولين الاميركيين استبعدوا خططا لانشاء قاعدة، الا انهم اعترفوا بوجود مصالح مشتركة، وساوتومي تريد حماية اميركية، ووصول واشنطن لميناء هناك يتيح لها موقعا تتمكن به من حراسة منطقة مرشحة لان تصبح مصدرا نفطيا اساسيا لاميركا لـ50 عاما.

* العراق.. الورقة الخطرة

* اما العراق، فهو ورقة اخرى، فهو يملك احتياطيات تلي السعودية، وافاقه مغرية الى حد تتسابق فيه شركات النفط تجاه الحصول على تعاقدات في مرحلة، ما بعد صدام، ولكن قليلين في واشنطن يعتقدون ان حاكما جديدا بالعراق سيخرج بالضرورة العراق من منظمة اوبك او يولي احتياجات الغرب النفطية اهمية. ويعتقد خبراء الصناعة النفطية ان عشر سنوات من عقوبات الامم المتحدة قد تركت حقول النفط العراقية في حالة فقيرة، ولذلك فسيواجه عراق ما بعد صدام مشاكل في رفع الانتاج بسرعة. ولذلك تتنبأ سياسة بوش الجديدة للطاقة، بأن تسيطر دول الخليج على امدادات النفط العالمية الى عام 2020 على الاقل، وان تظل محورية في امن النفط العالمي.

ولذلك، وعلى مدى المستقبل الغريب، لن تتعدى المغامرة الاميركية الجديدة التأثير على سوق النفط او اعادة تشكيله الا في حدود ضيقة وهامشية، اذ لن يكون بوسع الدولة العظمى الوحيدة والمطلقة ان تغير تلك السوق.