في جامعة المستنصرية ببغداد يتحدث الطلبة عن أحدث أفلام جيمس بوند وفرق البيسبول الأميركية وكرة القدم الإنجليزية وليس عن الحرب المحتملة

إيقاع الحياة في بغداد عادي رغم التصريحات الحكومية والعراقيون ينظرون إلى ما يجري كمجرد فصل جديد في معركة مستمرة منذ زمن

TT

في الطابق الأرضي في مقر الاتحاد الوطني لطلبة العراق في جامعة المستنصرية في بغداد كانت الموسيقى تصدح والشباب والشابات يجلسون حول الطاولات يحتسون مشروبا من الصودا يشبه مشروب «سفن اب» ويأكلون رقائق بطاطس. وكانت فرح رشيد وصديقاتها يجلسن حول الطاولة ويتبادلن الملاحظات استعدادا لامتحان مادة الاحياء. وفي الطاولة المجاورة كان وهيب طالب ومحمد عبد الله، وهما في الـ 22 من العمر، يتحدثان عن برامج الكومبيوتر وحفلة راقصة حضراها قبل ايام. والامر الذي لم يتحدثا عنه هو الحرب.

فرغم ان الجنود الاميركيين قد يتقدمون في اي يوم نحو بغداد حاملين معهم خطر ارباك حياة الطلاب، الذين من المؤكد ان يستدعى بعضهم للخدمة العسكرية، او ربما جعل الطعام والكهرباء والمواد الطبية نادرة او تختفي تماما، رغم ذلك، لم تكن هذه الاحتمالات موضوعا لاحاديث الطلاب. وقال احدهم ويدعى طالب: «نضحك ونرقص ونستمتع بوقتنا». ولكن ماذا عن الحرب؟ اجاب «نترك ذلك لله».

وبغداد لا تبدو كمدينة تواجه الحرب. فالمحلات مزدحمة بالمتسوقين والمساجد مليئة بالمصلين والشوارع خالية من الجنود والدبابات، والصبية يلعبون الكرة والمراهقون يتبادلون اشرطة الموسيقى والكبار يشترون اقراص «دي في دي» مستنسخة لاحدث افلام جيمس بوند والمطاعم تعد الكباب والاسماك المشوية التي تم صيدها من نهر دجلة. وفي الوقت الذي ضاعفت فيه الحكومة الحصص التموينية، فإن بعض الناس خزن كميات اضافية من الزيوت والسكر والطحين. وطيلة اسبوعين في بغداد صدام حسين لم نر اية ادلة على انتشار الهلع او حتى الاستعداد للحرب. وانخفضت قيمة الدينار العراقي بحيث وصل الى حوالي 2300 مقابل الدولار، لكن مؤشر الاوراق المالية في بغداد ارتفع الى مستويات جديدة. ويستمر الناس في حياتهم العادية وينظرون للتهديدات باعتبارها فصلا جديدا في معركة مستمرة منذ فترة بعيدة.

واوضح وسام جواد وهو موظف حكومي في الخامسة والعشرين من عمره «الحياة عادية. لقد اعتدنا على ذلك منذ بداية عام 1991». في اشارة الى حرب الخليج. ولا يلمس سلمان، 58 سنة، الذي يبيع الملابس الرياضية في سوق مزدحم، اية مشاعر قلق لدى زبائنه. وقال «لا يهتمون بالحرب. ولا اشعر بأي فرق بين ستة اشهر ماضية او الان. هي نفس الحياة ونفس الاشخاص. كنت اقف هنا قبل 6 اشهر، وما زلت هنا اليوم». وفي محل احمد عويد المخصص لمستلزمات الافراح، يتدفق العرسان لمشاهدة سيارات من طراز «بي ام دبليو» او «مرسيدس» مزينة بالزهور الصناعية لليوم الموعود. وسعر استئجار السيارة يتراوح بين 5.12 و 20 دولارا لليوم الواحد. ويوضح عويد وهو في الخامسة والعشرين من عمره «لا يفكر الناس في الحرب. الافراح تقام مثل الماضي».

هذا ما يعتبر شيئا عاديا في بلد يبلغ سعر غالون البنزين 3 سنتات ولكن من الصعب العثور على مضخة، في بلد اختفت فيه العديد من جوانب الحياة العادية عبر السنوات لدرجة ان الممارسات اليومية يمكن ان تكون حربا في حد ذاتها، فيما يبدو التهديد بحرب اخرى غير حقيقي. ربما هو الاحساس بالرفض الذي يجتاح العديد من المدن قبل وصول الغزاة او ربما اعتاد الناس هنا على فكرة الحرب. او ربما يخشى الناس التحدث بصراحة في وجود مندوبين للحكومة الذين يصطحبون الصحافيين الاجانب. وبالرغم من ذلك وبعيدا عن مسامع المرافقين، فإن العراقيين يعبرون عن احساس بالقدر اكثر منه بالقلق، انهم يشعرون بأنهم لا يسيطرون على امور حياتهم، وبالتالي يرون ان من الافضل الاستمتاع بحياتهم قدر الامكان. وهذا ما عبر عنه طالب في جامعة المستنصرية عندما قال لنا «مرحبا بكم في جحيمنا». لقد مرت بغداد، المدينة الشهيرة التي شيدت على ضفاف نهر دجلة قبل 1240 سنة، بفترات اسعد بكثير مما تمر فيه الآن. فقد كانت بغداد في يوم من الايام اغنى مدينة في العالم ومركز الحضارة الاسلامية، فيما اصبحت الان مقرا لحكومة «منبوذة» لا يمكن الوصول اليها الا بالسيارة او برحلات جوية محدودة من عمان او دمشق. وبالرغم من احتياطات العراق النفطية الهائلة ـ ثاني اكبر احتياطي في العالم ـ فإن بغداد ليس بها الا القليل من رونق الرياض عاصمة السعودية. فعقود من الحرب، والقهر، وحظر مستمر منذ 12 سنة قد خنقت الاقتصاد الذي كان من الممكن ان ينافس البعض في اوروبا. فقبل بداية تدهور العراق كانت البلاد على نفس المستوى الاقتصادي والاجتماعي مع اليونان، اما اليوم فهي تقارن مع افقر جيرانها. فمتوسط المرتبات الذي يحصل عليه مواطن عراقي لايزيد على 30 دولار.

وفي مدينة صدام، وهي من ضواحي بغداد، يعيش مليونا شخص معظمهم من الفقراء في شقق خرسانية متدهورة وينتظرون وصول البطاقات التموينية فيما المواشي تسعى على حريتها. وكل حديقة منزل مقسمة بحبال الغسيل المعلقة عليها الملابس الرثة. اما اكبر مشروع بناء في بغداد الآن فهو مسجد صدام. فالرافعات تحيط بهيكل المسجد العملاق، لكن العمل تعرض للكثير من المشاكل بسبب نقص المواد التي تدخل ضمن الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة. وبالرغم من كل ذلك فان بغداد مستمرة في العمل ولو بطريقتها الخاصة. فقد تم اصلاح الاضرار الناجمة عن حرب الخليج تقريبا والطرق اصبحت سلسة ويتم العناية بها ولا توجد مباني مدمرة في وسط المدينة والكهرباء والهواتف والتلفزيون تعمل بصفة عامة، وإن كانت لا يعتمد عليها دائما.

وفي منطقات عرصات الهندية الراقية يمكن للزائر العثور على شركة لبناء حمامات السباحة، ومحل يعلن عن وجود ملابس «هوغو بوس» ومحلات لبيع البضائع الفاخرة. وفي مطعم قمر الزمان، تزدحم قاعة الطعام في منتصف الليل والمطرب العراقي (الذي يقول: نادني فرانك) يردد اغنية جون دنفر «طرق ريفية» واغنية كيني روجرز «المقامر» بلهجة اميركية.

وفي الوقت الذي تندر فيه قطع الغيار والعقاقير الطبية بسبب الحظر، فإن المواد الغذائية تبدو متوفرة بالنسبة لهؤلاء الذين يمكنهم دفع تكلفته، وتلاشت ازمة سوء التعذية. وبنهاية الجفاف عام 2000، فإن العربات التي تجرها الدواب تمتلئ بالفواكه والخضر المحلية. والمطاعم تقدم العشرات من اطباق المزة لمائدة لشخصين ولا تهتم إن كان معظمها لا يؤكل.

واذا كان هناك تخزين للمواد الغذائية فهو يتم في الخفاء. وتقدم الحكومة تموينا شهريا مجانيا للمواطنين من المواد الغذائية الاساسية مثل الارز والباقلاء والطحين والزيت والشاي والسكر ـ ما يوازي 2215 سعرة حرارية يوميا. وبدأت السلطات في تقديم تموين شهرين في الشهر الواحد لطمأنة المواطنين، وستزيده لاربعة اشهر. ولاتزدحم محلات بيع المواد الغذائية بالناس الذين يحاولون تخزين الاطعمة تحسبا للحرب. غير ان اسعار المنتجات المستوردة بدأت في الارتفاع بسبب انخفاض قيمة الدينار. ففي سوبر ماركت الاهرامات، ارتفع سعر لتر الحليب القادم من دولة الامارات المتحدة من 1500 الى 2000 دينار وصندوق شاي تويننغ من 4200 الى 5000 دينار. ويلقي صاحب المحل معد الدوري، 38 سنة، نظرة على محله الفارغ ويقول ان الزبائن لايخزنون المواد الغذائية، مضيفا قوله «معظمهم يؤكدون عدم وقوع الحرب».

واذا كانت طبول الحرب تقرع في اي مكان في بغداد، فهي تظهر في اماكن مثل مسجد ام المعارك. فيوجد في المسجد الذي تم افتتاحه العام الماضي، كشاهد على ما تطلق عليه الحكومة انتصار العراق في حرب الخليج، وتصل مساحته الى 8.1 مليون قدم مربع، قاعة هائلة ترتفع فيها ثريات ضخمة، وحوائط من الرخام وسجاد اخضر تحت قبة مزدهرة الالوان. وعلى الحيطان توجد آيات قرآنية يقال انها كتبت بدم تبرع به صدام. وخلال صلاة الجمعة دعا امام المسجد ثائر ابراهيم الشمري الله ان «ينقذنا من الاشرار، ويقضي على الكفار». وشرح ابراهيم، 29 سنة، الذي كان جالسا على الارض، بعد مغادرة المصلين، لزائر اميركي ان المعركة المتوقعة ستكون صداما بين الحضارات. واوضح «ان الحرب القادمة ضد صدام والشعب العراقي هي حرب ضد كل المسلمين. وسيستخدم الشعب العراقي كل شيء لديه للدفاع عن نفسه، حتى ولو كانت عصا صغيرة. المهم هو عدم التخلي عن البلاد».

ومثل العديد من العراقيين، فإن اثير خلف يعلم كيف يستخدم البندقية خلال تدريبات عسكرية تستمر شهرين في المدارس. وقال خلف وهو صيدلي في الرابعة والشعرين من عمره «حتى ولو لم تكن لدينا اسلحة كافية، سندافع عن بلادنا بالحجارة. سندافع عن بلادنا لاخر قطرة من الدماء». مثل هذه التصريحات التي تتسم بالتحدي تنتشر في كل مكان. واوضح مسؤول محلي في حزب البعث «هذا ليس افغانستان. هذا هو العراق. لقد حاربنا البريطانيين، علمناهم درسا».

من جهته، قال اسماعيل خليل، 42 سنة، وهو صاحب محل اطارات سيارات «لا تتصور ابدا ان العراقيين سيقبلون شخصا اخر لحكمهم، ولا سيما هؤلاء الذين يعيشون حياة هانئة في الخارج، بينما نعاني نحن هنا من اثار الحظر كل هذه السنوات».

الا انه من غير الواضح كم من هذه التصريحات سيتحول الى طلقات نارية ضد القوات الاميركية. فالحديث مع الناس العاديين في شوارع مدينة صدام يتطلب اذنا من وزارة الاستعلامات ثم من مقر حزب البعث المحلي. وبالاضافة الى كل ذلك فإن ضباط الشرطة يطوفون بالمنطقة ويطلبون بطاقات الهوية.

من ناحية اخرى، يزدهر النشاط التجاري في سوق العربي في شارع الرشيد. وبسبب الحرمان من الحصول على منتجات اوروبية او اميركية، فإن الباعة يبيعون بعض البضائع المقلدة المصنوعة في تركيا والصين. وفي كل يوم يضع جاسم علي طاولة خارج السوق عليها مئات من اقراص «دي في دي» ومعظمها مزورة. انس ان احدث افلام جيمس بوند «لا تموت اليوم» لا يزال يعرض في دور العرض في الولايات المتحدة، فعلي يبيع النسخة بدولار. ويقول علي، 31 سنة «احب فان دام» ويقصد الممثل جان كلود. ولم تؤثر احتمالات الحرب مع الولايات المتحدة على تقليل اهتمام العراقيين بالثقافة الشعبية. فهم «لايعبأون بأميركا. كل ما يهتمون به هو الافلام. ويريدون قضاء وقت جيد».

وفي جامعة المستنصرية، حيث يرتدي الطلبة والطالبات الملابس الفاخرة، فإن الحديث عن الغرب يدور في معظمه حول فرق موسيقية مثل «باكستريت بويز» اكثر من قوات الدلتا. وتحب هبة هادي، 19 سنة، فيلم «تايتانك». بينما يحب حيدر راضي، 25 سنة، اورلاندو ماجيك ولوس انجليس ليكرز. ويشجع مجيد احمد، 20 سنة، نادي مانشستر يونايتد الانجليزي لكرة القدم. وتقول نجيلة محمد، 20 سنة، التي تدرس اللغة الانجليزية «لسنا ضد الشعب الاميركي. نحن ضد الادارة الاميركية التي تريد الاضرار بنا. نحب الشعب الانجليزي». واشتكت فرح رشيد، 19 سنة، وهي ابنة ضابط، من ان الولايات المتحدة تلوم العراق على هجمات القاعدة وتقول «بعد احداث 11 سبتمبر (ايلول)، بدأت بعض مشاعر الكراهية في الانتشار بين المسلمين ودول اخرى. ويوجد مثل عراقي يقول لا تحرق العشب الاخضر مع العشب اليابس».

ورغم كل التصريحات التي يدلي بها المسؤولون الحكوميون ، فإن الطلبة التفوا حول زائر اميركي في الجامعة، يطرحون الاسئلة الودية ويطلبون معرفة كيفية الحياة في الولايات المتحدة. وتمثل ذلك في الطالب حسين عدنان، 21 سنة، الذي يرتدي سترة ورباط عنق. فقد كان على ملف الاوراق الذي يحمله ملصق لممثلي فيلم «تايتانك» ليونارد دي كابريو وكيت ونسليت وصورة للاعب كرة القدم الانجليزي ديفيد بيكهام، وعندما سألته عن رأيه في ما يجري ، قال «اميركا شيطان كبير». واضاف «لماذا تريد اميركا قتلي؟ هل يعرف الاميركيون ما اذا كانت لدي خطة للمستقبل؟ ان اميركا لاتعرف اي شئ عني».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»