اللاجئون العراقيون في ديربورن لا يثقون بواشنطن رغم تأييدهم للإطاحة بصدام

الإمام القزويني: قال لي بوش عندما كان مرشحا رئاسيا «لا أرى فرقا بين المسلمين والمسيحيين»

TT

تزامنت رحلتي الى الولايات المتحدة مع تصاعد طبول الحرب في البيت الابيض والاعلام الاميركي ضد العراق، تصحو وتنام على ايقاعها وهوسها وهي تحضر لحرب اخرى ضد العراق. ورافقتني هذه الحمى في سفرتي الى ولاية ميشغن الواقعة في الشمال الشرقي للبلاد قادمة من واشنطن، التي تسكنها شخصيات عراقية معارضة.

وهكذا، لما قمت بزيارة ميشغن، بحثا عن عربها، قيل لي ان جلهم في ديربورن، في حين انني كنت مقيمة على بعد اميال من المكان في مدينة تدعى بيرمنغهام، تنتمي هي ايضا الى ديترويت الكبرى، حيث تقع ديربورن. وبمجرد الانتقال الى ديربورن، معتقدة ان العراق قصة تركتها للعاصمة السياسية واهلها، فاذا بها محل تجاذب بين مساند ومعارض ومن يريد الضربة لكن بشروط: ان يؤكد له الرئيس جورج بوش انه اذا ضرب، فلن يقضي الا على الرئيس صدام حسين، ولن يهز من تراب العراق الا ذلك المحيط بقصر زعيمه، ولن يلوث اسطول الطائرات الحربية في اجواء بغداد الا لبضع دقائق، الى غير ذلك من الشروط التي لا يدري السامع لسردها ان كانت صادرة من عاقل ام معتوه.

وتتسم الاقلية العربية بديربورن، بهيمنة العنصر العراقي فيها. ولا اقول «العربي» العراقي ولا «المسلم»، لان الدقة في تحديد «الانتماء» اصبحت بعد تاريخ 9/11 عام 2001 حالة بحد ذاتها في هذه الديار، ولو ان ابناء جاليات الشرق الاوسط يتحاشون الخوض في مناقشتها.

* فقدان الثقة

* وفي ذهني مثل هذه النعرات التي ليست غريبة على فترات الحروب والازمات العويصة، اتجهت الى زيارة مرشد مركز كربلاء الاسلامي الشيخ هشام الحسيني.

وبمجرد وصولي الى مسجد المركز، واطلاع مجموعة من المصلين على مهمتي الصحافية في المكان وأنني صحافية في «الشرق الاوسط»، راحوا يحيطون بالشيخ الحسيني في صورة اربكتني يقولون له كلاما لم أسمعه. للوهلة الاولى ظننته اعتراضاً منهم على دخولي المسجد، خصوصا انني لم اكن ارتدي ملاءة سوداء كانت ترتديها معظم النساء اللواتي قدمن الى الصلاة تغطي أجسادهن. لكن القصة شيء آخر. فرحت اسأل الامام الحسيني، فقال وهو يتخذ مكانه في مكتبه باسما «لقد حثوني على ان اخبرك بأنهم يحتاجون الى الحديث اليك شخصيا بعد ان ننتهي، ويصرون ان تكتبي في صحيفتك انهم لا يريدون صدام، لكنهم ايضا لا يثقون في أميركا».

كلمات مقتضبة حملت الكثير مما سعيت الى معرفته في هذه الديار، حتى وان عجزت لظروف زيارتي الخاطفة للمدينة ان اجلس اليهم والاستماع لشكواهم. فنسيت ما حملني لمقابلة الامام، ورحت استفسر منه عن هويتهم، فمركز كربلاء مفتوح للصلاة لجميع ابناء الجالية وليس فقط العراقيين من الشيعة، ولم لا يثق هؤلاء المصلون باميركا وهم «ينعمون» في ربوعها؟

فرد قائلا انهم «عراقيون، وجلهم، كما هو حال الجالية العراقية المسلمة هنا، من اللاجئين من مخيمات رفحاء في جنوب العراق، الذين هاجروا بعد الانتفاضة الشعبانية غداة حرب الخليج الثانية». ويقدر تعداد هذه الفئة من المهاجرين بنحو 20 الف لاجئ. فعدت وسألت الشيخ عن علاقتهم باميركا، فقال «لو تسمعين الى قصصهم، لتستغربين، فقد قالوا (الاميركيون) لهم انتفضوا ولما انتفضوا على حكم بغداد، قمعت الانتفاضة وتركوا لمصيرهم».

هلع هؤلاء من خشية تكرار التجربة كان واضحا على سماتهم، فقصتهم التعيسة كانت مرسومة في نظراتهم الثاقبة والحزينة، ولذا لم اعد احتاج المزيد لفهمها. وهكذا، عاد الامام الحسيني ليتحدث عن نفسه لاكتشف انه ربما الوحيد في المركز، الذي ما يزال متفائلا بأن واشنطن هي الحل لمعاناته كلاجئ منذ سنين طويلة. فقد تعددت زيارته الى واشنطن كطرف في المباحثات الجارية مع المعارضة العراقية. وقال «نحن مصممون على اسقاط صدام واقامة حكم ديمقراطي في العراق».

وعن مدى ايمانه بمساعي البيت الابيض الخيرة في تنصيب حاكم يخدم مصالح العراقيين قبل الاميركيين، وهو رجل دين وليس مجرد سياسي معارض، رد: «الكثير منا، لا ثقة له في مساعي الادارة الاميركية، ولذا نحتاط لذلك، واكدنا لهم اننا لن نسمح بأي تدخل داخل ادارة العراق، وسنقوم بتنظيم انتخابات ديمقراطية بمراقبة الامم المتحدة وليس ادارتهم، فور التخلص من صدام».

واضاف بعد حديث طويل عن دور هذه المعارضة التي ستقود منطقة وليس دولة فقط الى حرب ضروس قائلا: «دعيني اقول لك، انه لا يوجد هناك اسوأ من النظام الحالي في بغداد، ولاميركا مطامع، خصوصا ان اقتصادها حاليا يعاني الكثير وتحتاج الى ان تفعل شيئا ما، ومن مكر الله تعالى ان يراد ان يزيلوا هم من اتوا به في قطار اميركي ـ بريطاني».

واردف مشددا «ان قادة المعارضة لا يسعون للجلوس على عروش امارات عراقية لاشباع تطلعاتهم الى السلطة، كون تقسيم العراق ليس وارداً في اجندتهم. وكلا لم يكن، ولن يكون ولن نقبل بأن يقسم أحد وحدة العراق، فأنت تعلمين ان العراق تجمع وتآلف تاريخي وعرقي وطائفي ديني، وتعايش قومي، وهذه مقومات ضاعفت من مصادر قوته وقوة شعبه».

وعلى الرغم من سماحة وبشاشة الشيخ الحسيني، الا انني ودعته ورأسي مشحون بعبارات تهلل للحرب، لا تنسجم مع سكينة المكان الذي كنا فيه، الذي توقعته منبرا للسلم والسلام قبل كل شيء.

وفي طريقي الى لقاء، مع عراقي آخر، تدافعت اسئلة كثيرة في ذهني عن حالة الشتات الذي تعاني منه الكثير من الاقليات العربية في الخارج، خصوصا بعد منظر اولئك اللاجئين المصلين في «مركز كربلاء». فهم عينة من الذين اضطروا الى هجرة بلدانهم وهم في ارذل العمر. وهكذا واصلت مشواري الى نادي «قصر ساوث فيلد»، وهو مؤسسة يملكها رجل اعمال عراقي كلداني، دفعني اعجاب مصادري في ديربورن بنشاطه وشخصه الى مقابلته، لا سيما انه الشخصية السياسية، التي طالما يحث العرب خارج اميركا وداخلها على وجود الكثير منها، لما تلعبه من دور في حشد الدعم للمرشحين من الجالية او المساندين للقضايا العربية الدولية.

وهكذا، التقيت بيوسف اسعد كلشو (يتحدر من شمال العراق). وتخرج كلشو من الجامعة الاميركية في القاهرة عام 1976 وشق طريقه في ولاية ميشغن من قطاع المال والاعمال الى السياسة منذ قرابة 15 عاما. وعزا كلشو اهتمامه بالسياسة، الى انها «في دمه»، كعراقي، فضلا عن اقامته في دولة مؤثرة.

* صعوبة العمل السياسي

* تجربة العمل السياسي في اميركا، كما يوضحها من اصبح له باع فيها، تختلف عن تلك التي قد توجد احيانا في دولنا او حتى في دول العالم الديمقراطي الصناعي. فهنا دور الاعلام وشركات العلاقات العامة وغيرهما لها تأثير في صنع الرأي العام. ولا يبدو ان هذا السياسي وعميد المعهد العربي الكلداني في ديترويت، يعاني من صعوبات بحكم أصله العراقي في فرض نفسه في مدينته او في مقارباته للسياسيين، اذ اكد انه اجتمع الى ما يزيد عن 140 سيناتورا وعضوا في الكونغرس للتباحث معهم في قضايا عديدة، منها قضية بلاده. ويقول كلشو «الولايات المتحدة بلدي، لكنني مولود في العراق ويجب ان يكون لدي شعور انساني واخلاقي تجاهه. وكنت سأكون في حالة افضل لو كانت واشنطن وبغداد تجمعهما علاقات طيبة، لكن ذلك غير موجود وهذا يعد بحد ذاته ضربة لكل العراقيين الموجودين في المهجر». وللاشارة، فان كلشو من العراقيين المهاجرين، الذين حافظوا على علاقات وطيدة مع بلده، لاسيما ان له مشاريع اقتصادية مع بغداد تجري عبر برنامج الامم المتحدة.

وينتقد رغم حبه لاميركا، الازدواجية المطبقة من قبل البيت الابيض في تعامله مع قضايا الشرق الاوسط، وقال «توجد لدي تحفظات اخرى على المستوى السياسي، فلم يطبق على العراق ما لا يطبق على غيره، كما هو الحال في التعامل مع اسرائيل»؟

وزيارتي لمقر النادي، كانت شبيهة بزيارتي لقرية صغيرة مخصصة للكلدانيين والاشوريين يأتون اليها للالتقاء باهاليهم واصدقائهم ولعب «البينغو» والسمر، كما يوجد بها اذاعة «كلشو» التي تدعى «الشبكة المتحدة»، وتبث لسكان جنوب شرقي ميشغن، ناطقة بالكلدانية والعربية والانجليزية. وغالبا ما تعتبر الاذاعة وسيلة اساسية لايصال اصوات المرشحين من الاميركيين والاميركيين العرب الذين يساندهم كلشو ماديا واعلاميا للوصول الى مناصب مؤثرة في مجلس الشيوخ او على رأس الولاية او حتى كما كان الحال لما احتاج المرشح الرئاسي جورج بوش (الابن) الجمهوري دعم الجالية.

* ارتفاع عدد معتنقي الإسلام

* وعكس ما كنت سأعود به من صورة يائسة عن مدى نجاح التطرف الديني والتعصب في الاساءة الى الاسلام والمسلمين في هذه الديار وغيرها، لطفت تصريحات حسن القزويني مرشد المركز الاسلامي في اميركا من حدة الصورة، وذلك خلال لقاء جمعنا لاكثر من الساعة للحديث عن حاله وحال جاليته في الوضع الجديد. قال القزويني «لقد ضخمت الامور في الكثير من الاحيان من قبل الاعلام والاعلاميين عن حالنا خصوصا في المساجد، فنحن ما نزال نمارس عبادتنا بحرية كاملة، وما زلنا نتمتع بقدر كبير من الحرية لا تتمتع به الكثير من المساجد في الدول العربية».

واستطرد «ولو صرفنا اموالا طائلة على الاعلان والترويج لديننا الحنيف، لما حققنا ما تحقق خلال الاشهر الماضية من رواج لتعاليم ديننا الحقيقية، اذ لا يمر اسبوع حتى واستدعى لالقاء محاضرة عن الدين الحنيف وسماحته في احدى الكنائس او المعاهد المختصة»، مضيفا «فضلا عن ذلك، ارتفع حجم مبيعات المركز لكتب الفقه ونسخ القرآن الكريم التي ارتفعت بصورة خيالية مما دفعنا لطلب المزيد من دور النشر». وأشاد إمام المركز بعدد المعتنقين للاسلام، الذين قال ان عددهم تضاعف عما كان عليه قبل هجمات 9/11 باكثر من 4 مرات. وعلى مستوى المركز فقط، فهناك، بحسب شهادته، نحو 7 الى 8 اميركيين يعتنقون الاسلام شهريا. واضاف «خصصنا لهم رابطة، اذ يجتمعون كل مساء جمعة واقوم بالقاء محاضرة عليهم، كما هي مناسبة للاستماع لقصة كل معتنق للاسلام في نحو 10 دقائق».

وقبل مغادرة القزويني، سعى الى ان يؤكد لي ما قاله لي غيره من المسؤولين عن الاقلية العربية في ديربورن، وهي دعوتهم الادارة الاميركية إلى «العودة الى رشدها، لكي لا ترتكب اخطاء جسيمة في حق ابرياء لا علاقة لهم بحربها ضد الارهاب». واعاد القزويني على مسامعنا ما قاله له الرئيس جورج بوش قبل اسبوعين من انتخابه رئيسا للولايات المتحدة عام 2000، لما سعى لكسب مساندة العرب ضد خصمه المرشح الديمقراطي آل غور، بعد ان تبددت الوعود وذهبت ادراج الرياح. اذ قال بوش: «انهم يحدثونكم عن المتطرفين الاسلاميين، تعالوا معي الى ولاية تكساس لأريكم المتطرفين المسيحيين». ونقل قزويني عن بوش قوله: «انني لا أرى بين المسلمين والمسيحيين فرقا، فكلهم أبناء الله، ولما كنت صغيرا تعرفت وكبرت مع مجموعة من الشباب اللبنانيين، فأحببت العرب والمسلمين». فماذا حدث سيدي الرئيس؟