قادمون عراقيون إلى دمشق: قوات صدام ستهرب من مواقعها حال بدء الحرب المحتملة.. والحكم الأميركي غير مقبول

TT

يروي كاتب الحسابات علي حمادي القادم من مدينة الكوفة الواقعة الى الجنوب من بغداد انه شاهد قبل فترة قصيرة كميات كبيرة من مناشير صغيرة ألقتها طائرة أميركية غير مرئية ومن ارتفاع عال. وعلى الفور جرى تطويق المنطقة من قبل أعضاء منظمة تُعرف بـ «فدائيي صدام»، الذين بدأوا بجمع الأوراق بسرعة كما لو انهم كانوا يجمعون اوراقا نقدية ربحوها في اليانصيب. وأضاف حمادي الذي يقيم الآن في بيت أحد أصدقائه بالعاصمة السورية، دمشق: «لم أتجرأ على اخذ واحدة منها. بل لم ألق نظرة على الأرض. فذلك بالتأكيد يعني الإعدام».

كان حمادي يرتشف الشاي مع حوالي ستة زوار ولاجئين عراقيين قدموا في الأسابيع الأخيرة عبر الحدود. بعضهم جاءوا لتجنب الحرب التي أصبحت حسبما يعتقدون أمرا لا يمكن تجنبه، وآخرون جاءوا للعلاج، والقليل منهم جاءوا للالتقاء بأقارب لهم من بين الـ 400 ألف عراقي الذين يقيمون في سورية خلال العقدين الأخيرين، بضمنهم عدد من الأكراد أيضا.

ومع القادمين الجدد تأتي حكايات كثيرة عن تزايد الإجراءات الأمنية التي تتخذها تنظيمات حزب البعث التي يقوم بعضها بعمليات المراقبة جنبا إلى جنب مع قوات الميليشيا ورجال الشرطة، لمراقبة السكان الذين تخشى حكومة بغداد تمردهم عندما تنشب الحرب، كما حدث بعد حرب الخليج الثانية 1991.

لقد انتفض الشيعة في الجنوب ضد الحكومة العراقية. وما شجعهم على القيام بذلك آنذاك الهزيمة السريعة التي لحقت بالجيش العراقي في الكويت ثم نداء الرئيس جورج بوش الأب للعراقيين بالانتفاض. لكن الولايات المتحدة مع كل ما كان لديها من طائرات نفاثة وطائرات هليكوبتر وقوات برية على مسافة قصيرة من القوات العراقية تجنبت دعم الانتفاضة. وهذا ما سمح للوحدات العسكرية الموالية لصدام بأن تهاجم المدن والقرى الجنوبية وتطارد المنتفضين وتسحق الانتفاضة.

ما زالت الذكريات تجاه الموقف الأميركي اللامبالي بعد مرور 12 عاما، قوية بين الزوار القادمين من مدينة الكوفة. وفي هذه المرة قالوا إن الشيعة سيفكرون مرتين قبل أن يعرضوا أنفسهم للمخاطر. وقال حمادي: «نحن سنثور حينما نكون متأكدين من أن أجهزة صدام الأمنية قد انهارت، لكن ليس قبل ذلك». أما الزوار فكانوا حذرين في التحدث مع أي صحافي. فأولئك الذين يفكرون بالعودة الى العراق قبل وقوع الحرب يخافون من الانتقام. وآخرون لديهم أقارب في العراق وهذا ما جعلهم يفضلون عدم ظهور أسمائهم مطبوعة في أي صحيفة. كذلك لا يمكن التحقق من صحة شهاداتهم عن الحياة في الكوفة لكنهم في دمشق تحدثوا عن مواضيع يتجنب أبناء بلدهم أن يطرحوها على المراسلين الأجانب الذين يرافقهم دائما ادلاء حكوميون.

لكنهم حتى في هذا البيت الواقع على أطراف دمشق يظهرون قدرا كبيرا من الحيطة على الرغم من مجهولية هوياتهم. فالأسئلة التي تظل تدور في أذهانهم: لماذا كل هذه الأسئلة التفصيلية؟ لماذا هذه الرغبة بمعرفة قضايا أمنية؟ ألا تكفي وجهات نظرنا؟ وقال أحدهم: «السوريون لم يسألوا هذه الأسئلة حينما وصلنا إلى الحدود. لماذا أنت تسأل؟» تقع مدينة الكوفة إلى شمال شرق النجف التي تعد مركزا دينيا مهما للشيعة وتبعد عنها بمسافة 10 أميال. وفي هذه المدينة ضريح الإمام علي بن أبي طالب الذي قُتل أثناء خلافته. وقال أحد الزوار القادمين من الكوفة وهو موظف حكومي متقاعد بجرأة: «صدام انتهى». لكن الرئيس العراقي يبذل أقصى الجهود كي «يفوز بحظوة الشعب»، فتكاليف السماح بالسفر ألغيت وتمت زيادة الحصص التموينية للطحين والفاصولياء والدهن والسكر والرز خلال الأشهر الأخيرة.

وفي الخريف الماضي صدر عفو عام عن المساجين اعتبره الزوار القادمون من الكوفة محض نكتة، إذ أن من أطلِق سراحهم لم يكونوا سوى المجرمين العاديين، وما زال أقارب السجناء السياسيين يصطفّون أمام المكاتب الحكومية للاستفسار عن مصيرهم. وتسلم المسؤولون في منظمة «هيومان رايتس ووتش» تقارير مماثلة لما قاله الزوار العراقيون في دمشق.

وفي الكوفة يقوم المسؤولون البعثيون بشكل منتظم بزيارة بيوت الناس لمعرفة عدد ساكنيها. وحسبما قاله الزوار فإن هؤلاء المسؤولين يأتون مع دفاتر مملوءة بالأسماء ويبدأون بالاستفسار عن كل شخص في العائلة. وهم من وقت إلى آخر يستدعون على الأقل رجلا واحدا من هذه الأسرة أو تلك للالتحاق لمدة شهرين بدورات التدريب ضمن «جيش القدس» الذي هو عبارة عن ميليشيا انشئت قبل عامين.

وقال أحد هؤلاء الزوار، وهو صاحب مكتبة: «إنهم يضعوننا هناك لجعلنا نظن أننا نحارب من أجل فلسطين». وأضاف: «الجميع سيهربون حال بدء تساقط القنابل. إنها ليست سوى وسيلة يحاول صدام أن يشغلنا بها». ويتدرب المنتمون إلى «جيش القدس» على استخدام البندقية لكن لا أحد يستطيع أن يأخذ ذخيرة إلى بيته. أما أعضاء «فدائيو صدام» الذين يرتدون ملابس موحدة ويتسلمون رواتب شهرية ويقومون بدوريات في الشوارع فهم «يقومون بذلك لكي يحصلوا على شيء يقتاتون عليه»، حسبما قال بائع الكتب.

وقال الزوار القادمون من الكوفة إنهم يستمعون إلى إذاعات أجنبية في الليل، وهذه إما محطة الـ «بي بي سي» باللغة العربية أو راديو «سوا» الأميركي، وقال حمادي: «الخطاب في محطة «سوا» ليس سيئا لكنه لا يجعلنا نصبح أميركيين». ويعتبر حمادي والآخرون أنفسهم أنصارا أقوياء لحزب «الدعوة»، وهو منظمة شيعية معارضة داخل العراق. ويسود اعتقاد بأن لها أنصارا سريين كثيرين في الداخل. وقاطع حزب «الدعوة» المؤتمر الأخير الذي عقدته بعض المنظمات العراقية المعارضة في لندن من منطلق أن الكثير من قادة هذه المنظمات ليسوا سوى دمى أميركية. وموقف الولايات المتحدة حذر من حزب الدعوة بسبب تعاونه مع «حزب الله» اللبناني الذي أدخلته وزارة الخارجية الأميركية ضمن قائمة «التنظيمات الإرهابية».

وقال مسؤول من حزب الدعوة يقيم في دمشق إن منظمته ليست لها «علاقة عمل » مع «حزب الله». واضاف إن الغزو الأميركي غير ضروري لإسقاط صدام حسين لأن العراقيين قادرون على القيام بهذه المهمة إذا استطاعت الطائرات الأميركية أن تقصف قواته في معسكراتها لبعض الوقت. ورفض كذلك احتمال الحكم العسكري الأميركي المباشر للعراق. وقال هذا المسؤول معلقا: «هذه الفكرة تدلل على عدم فهم مشاعر العراقيين. نحن لا نريد احتلالا من أي طرف». وقال ايضا إن هناك 60 فردا من أقاربه في السجن حاليا، وهو يتوقع أن يقوم الكثير من العراقيين بعمليات انتقام من العاملين في خدمة صدام في حال سقوط الحكومة العراقية. لكنه استدرك قائلا: «ذلك سيكون بالتأكيد ضد المجرمين فقط. الكثير من الناس تعاونوا مع صدام كي يمشّوا أمورهم فقط. لا أحد يريد القتل من أجل القتل».

لكن الموظف الحكومي المتقاعد تدارك ليستثني واحدا: «هناك بعثي ضربني على رأسي بكعب البندقية لأنني لم أكن أعرف أين هو. أنا سأقتل ذلك الشخص».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»