البصرة.. الساحة الأولى لكل الحروب

«فينيسيا الشرق» تعاني من وضع مأساوي منذ ربع قرن وتخشى الأسوأ مع الحرب الجديدة

TT

وأنت تسير على ممرات ضيقة مليئة بالحفر، وتعبر بحيرة من مياه المجاري تسبح فيها بطتان، وتتجاوز كومة قذرة من النفايات يلعب بجانبها الاطفال، تصل في النهاية الى حي بالبصرة يسمى حي الجمهورية. بناياته الثمانية يربط بينها شارع من الاسفلت قليلا ما يسير عليه غير المشاة. الحفر المنتشرة في هذا الحي تمتلئ بالمياه الراكدة والفضلات. والسكان تآلفوا معها وراحوا يصرفون عنها النظر وهم يرون اطفالهم يلعبون وسطها. اما الاطفال فيجرون جيئة وذهابا، باقدامهم الحافية او صنادلهم وكأنهم لا يشعرون بما تفيض به الارض تحت اقدامهم من قاذورات.

ان الوضع المأساوي في البصرة يمكن استخدامه لدعم حجة الصقور الداعية الى الحرب، بنفس القدر الذي يمكن استخدامه لدعم حجج الحمائم الداعين الى السلام. فبينما يقول الاوائل ان هذا الفقر المدقع شاهد على قسوة نظام صدام الاستثنائية، فان الأخيرون سيقولون ان هذا يبرهن على الدمار العرضي الذي تخلف عن الحرب والعقوبات.

بداية هذا الشهر، وقبل ايام قليلة من خطاب كولن باول الذي دعا فيه الى غزو العراق، تجمع اطفال حي الجمهورية، والابتسامات تعلو وجوههم، حول مراسل اجنبي هو جيريمي شاهيل. كان هذا المراسل المستقل يصور الدمار ويلقى اللوم مباشرة على اميركا. فقد اعلن وهو يتطلع الى آلة التصوير، ان القصف الاميركي للبصرة خلال حرب الخليج، والقصف الذي ما يزال مستمرا للمدينة الواقعة ضمن منطقة الحظر الجوي، والمقاطعة الاقتصادية التي استمرت 12 سنة بقيادة الولايات المتحدة، هي التي ادت مجتمعة الى هذا المستنقع.

ولكنه يعرف ان تلك ليست الحقيقة كلها. ومثله مثل السكان المحليين، الذين لا يتحدثون عن هذا الامر الا همسا، فان شاهل سيوسع ادانته لتشمل صدام. وسيعبر عن هذه الادانة بعد ان يوقف آلة التصوير وبعد ان يذهب بعيدا عن هذه الشوارع.

ينفذ شاهل هذا العمل بالتعاون مع شبكة باسيفيكا الاذاعية، وهو الذي نال بالاشتراك جائزة جورج بولك للارسال الاذاعي عام .1998 وكان صعبا عليه اختراق حاجز الصمت لان مثل هذه الامور لا تناقش علنا في بلاد تخضع للعقاب الجماعي من الدكتاتور الحاكم، ويعتبر فيها النقد العلني للحكومة جريمة كبرى عقوبتها الموت.

ومن الواضح ان موقع البصرة بالقرب من الحدود مع الكويت، يرشحها كمنطقة عبور محتملة للحرب ضد صدام. ويقول الاطباء بمستشفى النساء والتوليد بالبصرة انهم يعدون انفسهم لاسوأ الاحتمالات. ويلقون باللوم على العقوبات التي ظلت تطبقها الامم المتحدة منذ عام 1990، أي منذ غزو العراق للكويت، ويعتبرونها مسؤولة عن شح الادوية والامدادات الطبية الذي يعانونه حاليا.

وقال محمد كامل، كبير اخصائيي الاطفال، انهم يعانون من الشح في الادوية والمعدات بدرجة تجعلهم عاجزين تماما عن مواجهة الاصابات التي يمكن ان تنجم عن الحرب. وأضاف كامل: «نحن نفتقد كل الاشياء حتى الطعام. لدينا معدات تعمل بدفع من المولدات، وتعمل المولدات بالغازولين واذا انقطعت امدادات الجازولين..». قطع جملته، لانه لا يدري ما الذي سيحدث في هذه الحالة. وهو يعتقد ان شراهة اميركا لامتلاك البترول وقسوة ووحشية السياسة الدولية، هي المسؤولة عما آلت اليه الاحوال. ولكنه لا يخص صدام بكلمة واحدة.

قبل الحرب العراقية الايرانية 1980 ـ 1988، وقبل حرب الخليج الثانية عام 1991، وقبل الانتفاضة ضد صدام بعد الحرب، كانت البصرة والمنطقة المحيطة بها تسمى فينيسيا الشرق. وكانت قنواتها وعماراتها وحدائق نخيلها، تجعلها مثارا لحسد الآخرين. ولكن هذا كله ذهب مع الحرب. فمشروع الحارثة لتوليد الكهرباء الذي كان يمد مياه العراق ومجاريها بما تحتاجه من طاقة، دمرته غارات الحلفاء وما يزال معطوبا بعد 12 سنة من ذلك التاريخ. وصارت البصرة تقطع فيها الكهرباء لمدة ساعة بعد كل ثلاث ساعات. وكل المرافق التي لا تتصل بمولدات احتياطية تتوقف خلال تلك الساعة، ولعدة مرات في اليوم. وصار السكان المحليون ينظرون الى هذه الانقاطاعات كتعبير عن نضال البصرة الذي لا يتوقف.

ولكن العقوبات التي تمنع المدينة من استيراد المعدات الضرورية من اجل ترميم مرافق المدينة، ليست سوى جزء من المشكلة، وان كان جزءاً كبيرا.

كان رجل اعمال شيعي، حسن الهندام، يتمشى في شوارع البصرة ذات الروائح الكريهة هذا الاسبوع. وقد قدم شرحا مختصرا للاوضاع بالبصرة. كان اثنان من عملاء صدام يسيران وراءه، وهؤلاء يمثلون عيني صدام واذنيه وهم يتابعون الصحافيين الاجانب، ولذلك تحدث الرجل بصوت خافت والقلق يشع من عينيه: «أوضاع المجاري والكهرباء سيئة في كل انحاء العراق. ولكنها سيئة بصورة خاصة بالبصرة. لماذا ؟ لان البصرة شيعية».

ورغم ان الرجل كان يتحدث همسا، الا انه اغلق فمه بيديه وهو يقول: «لم أقل شيئا».

بعد حرب الخليج الثانية (1991) مباشرة، أهاب الرئيس جورج بوش الأب، مرتين، بالعراقيين ليأخذوا مصائرهم باياديهم، وان يسقطوا صدام. وكان الشيعة في الجنوب اول من رفع راية العصيان، فقتلوا اعضاء في حزب البعث وبعض رجال الشرطة واحرقوا لوحة عليها صورة صدام. بل استطاعوا السيطرة على عدة محافظات في الجنوب قبل ان يرسل صدام طائرات الهليكوبتر المقاتلة الى المنطقة.

ارسال الطائرات كان مخالفا للاتفاقية المبدئية لوقف اطلاق النار الموقعة بعد نهاية الحرب، ولكن ادارة بوش الأب قالت انها لن تتدخل في نزاع داخلي. وقد استطاع صدام سحق الانتفاضة عن طريق سيطرته الجوية. وانتشرت آلاف الجثث في شوارع البصرة.

يفسر السكان المحليون انتشار عناصر الامن و الجيش في شوارع المدينة واستعدادهم للحظة الحرب، وحصر المحادثات الخارجية من كل البصرة في خط واحد مراقب، وعدم اعادة تشغيل كهرباء البصرة مع ان ذلك حدث في بغداد منذ فترة طويلة، يرجعون كل ذلك الى تلك الانتفاضة المجهضة. ويقولون ان النظام يريد ان يجعل البصرة اضعف من ان تفكر مرة اخرى في الثورة.

ليس من السهل الاجابة على السؤال حول ما اذا كان من الافضل لجنوب العراق ان تقوم الحرب التي يمكن ان تحرره، ام ان الافضل له ان يبقى السلام والدكتاتور الحاليان. ولكن من الصحيح ان نقول انه في الحالتين فان الناس لن يثقوا باميركا مرة اخرى. ومع ان البنتاغون رفض مساعدة الثوار الشيعية بفرض الحظر الجوي، فانه قد سير بعد ذلك عشرات الآلاف من الطلعات الجوية فوق شمال وجنوب العراق واسقط اطنانا من القنابل، سقط بعضها في المناطق المدنية. ومع ان الهدف المعلن لفرض منطقة الحظر الجوي في البداية كان هو حماية الشيعة في الجنوب والاكراد في الشمال، الا ان واشنطن راجعت طبيعة المهمة اواخر التسعينات وصارت الطائرات البريطانية والاميركية تقصف المراكز العسكرية والقيادية ومنشآت الاتصالات العراقية، عند صدور اية بادرة استفزاز. وتشير احصاءات الامم المتحدة الى ان الغارات الاميركية بلغت في عام 1999 وحده، 132 غارة قتلت 120 وجرحت 442 مدنيا. وخلال الاشهر الستة الماضية قصف الطيارون اكثر من 80 هدفا بمنطقة الحظر الجوي بجنوب العراق.

صفارات الانذار التي تسبق الغارات ظلت تسمع عدة مرات في اليوم بالبصرة. واذا كان السكان المحليون يعتبرون ذلك مصدرا جديا للخطر، فان تصرفاتهم لا تنم عن ذلك. ويستمر بعض الناس في اعمالهم دون حتى نظرة واحدة الى السماء.

قال على صبحاوي، الجندي الذي يقيم بحي الجمهورية وهو يتحدث عن صفارات الانذار والطائرات المحلقة والتهديدات الدائمة بشن الحرب: «ليس في هذا جديد. اننا نحياه في كل وقت».

* خدمة «يو اس ايه توداي» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»