العيد في قرية الثأر الجماعي بصعيد مصر حزين. . ولا أحد يتبادل التهاني مع الآخر

العائلتان المتصارعتان كل منهما تصلي في مسجد خاص بها والنساء يتشحن بالسواد

TT

في أول عيد أضحى يمر على قرية «بيت علام» مركز جرجا في محافظة سوهاج بصعيد مصر التي شهدت حادث الثأر الجماعي في 10 اغسطس (آب) الماضي وراح ضحيته 22 قتيلا وثلاثة مصابين من أبناء عائلة الحناشات على أيدي أبناء عائلة عبد الحليم، حرصت «الشرق الأوسط» على قضاء أول أيام العيد معهم، ورصدت طقوس أبناء القرية في هذا اليوم.

بدا مشهد القرية محزنا جدا، عند مدخلها وفي أعماق حاراتها وداخل المنازل، فالنساء يتشحن بالسواد، والأطفال يجلسون منكسرين بجوار جدران المنازل، والشيوخ لايخرجون من منازلهم، ولا أحد يتبادل التهاني بالعيد مع الآخر.

في بداية الطريق المؤدي الى مدخل القرية كان الأطفال يجلسون في حسرة، لم يبدلوا ملابسهم القديمة بملابس العيد غير مبالين بهذا اليوم، وداخل القرية الشوارع خالية تماما من المارة، والمنازل مازالت تعلن الحداد، فلا أحد يصافح أحدا، لا يعرفون معنى التهنئة على العيد، والجرح بدا واضحا على ملامح النساء اللاتي خرجن يصرخن على المقابر، والسواد يشع من ملابسهن، واختلط صوت المؤذن لصلاة العيد مع عويل النساء على فراق أحبابهن.

وانقسم أهالي العائلتين، كل يصلي في مسجد مخصص له، وخرج المصلون متوجهين في عجالة الى المنازل، لا يتبادلون كعادة أهالي الريف بعد الخروج من المساجد، اطراف الحديث، ولا توجد علامة واحدة على ان عيد الأضحى المبارك قد وصل إلى القرية، فالجميع يسترجع ذكريات اليوم الأليم ويجتر مرارة المذبحة. وبعد مضي 60 دقيقة من صباح يوم العيد عاد كل مواطن بالقرية الى سيرته الأولى، فالرجال والشباب يذهبون الى حقولهم هروبا من الألم والذكريات الحزينة، بينما ظلت عيون الأطفال اليتامى معلقة بذويهم وهم يجيئون ويذهبون، باحثين عن فرحة العيد، لكن أعينهم فضحت أسى قديما داخل قلوبهم، احمد علي محمود (9 سنوات) كان يسير حافي القدمين حائرا بين اللهو واللعب الذي اعتاده في الأعياد الماضية وبين البؤس الذي انتظره هذا العيد. ببراءة وعفوية قال احمد لـ«الشرق الأوسط»: «أنا معرفش يعني إيه عيد وأنا لم أخرج من القرية، ومش لابس ملابس جديدة»، يصمت الطفل لحظة وترتسم حمرة الخجل على ملامحه ثم يواصل: «إيه يعني. . العيد القادم سأقضيه في مدينة جرجا». تركني احمد وفر مسرعا الى منزله، بينما اقتربت من مجموعة شيوخ كانوا يجلسون في ناحية منازل «الحناشات»، هنأتهم بالعيد، لكن أحدا منهم لم يرد تهنئتي. . قدرت آلامهم وابتلعت كلماتي، إلا ان حسني حنفي محمود (55 سنة) قطع صمتي قائلا: «كل الايام صارت زي بعضها بعد الحادث». التقط محمود سيد الهلالي خيط الحديث مواصلا: «لكن هذا العيد له ظروفه الخاصة، ونحن في انتظار حكم المحكمة التي تنظر مصير المتهمين في قتل 22 رجلا من الحناشات، وحين تعود الحقوق الى أصحابها يمكن للفرح ان يعرف طريقه إلينا». ولم يقو محمود على مواصلة حديثه وصمت قليلا ثم قال: «لدينا عادات وتقاليد موروثة في الصعيد تمنع الفرحة في الأعياد، وحتى الفدية، طالما ان هناك حوادث قتل في العائلة، بل بالعكس يوم العيد يكون أصعب الأيام على قلوبنا، لاننا نشعر بغياب الفرحة، وأننا غير الآخرين يوجد شيء بداخلنا يحول دون ممارستنا تقاليد العيد».

* كان أقوى

* ووسط هذا الجو المشحون بالحزن حاول عزالدين عبد الحميد محمود (35 سنة) أن يلطف من حدة المشهد فقال: «إننا لا نريد المشاكل، وكانت أمنيتنا أن يأتي العيد في أجواء طيبة، لكن الظروف فرضت الحزن علينا، فدائما كان أهالي القرية من مختلف العائلات يتبادلون الزيارات وتهاني العيد، ونحن مسالمون ولا نعرف الضغينة ولا نكن كراهية لأحد، لكن ما حدث كان أقوى».

أنهيت حديثي مع هؤلاء وعدت متجها الى مدخل القرية لأغادرها، بينما تقابلني قوافل السيدات العائدات من مقابر آبائهن وأزواجهن وأولادهن، استوقفني نواح سيدة بدا عليها الوهن فقالت: «كان نفسي أفرح في العيد، لكن الجرح كبير، وما زال مفتوحا على فراق ابني الذي ترك ثلاثة أولاد يتامى، ماذا أفعل؟ الفرحة لم تزرني طوال 50 عاما هي عمري. . خلاص لنا الله».

توقفت السيدة عن البوح بالآلام بينما كان عبد الباسط النجار عبد الحليم من عائلة عبد الحليم يجلس مع أطفاله أمام منزله، ألقيت عليه السلام، فرده بشهامة استقبال الضيوف، وقرأ في عيني اندهاش الحزن الذي سكن قريته في يوم العيد، فقال: «للمرة الأولى تعيش قرية بيت علام عيد الأضحى وهي على هذه الحالة، ففي الماضي كنا نتزاور ونتبادل الافطار وتوزيع لحوم الذبائح، لكن هذا العيد جاء ليجدنا متفرقين، لكننا نأمل أن تصفى النفوس مرة ثانية، ونعود مثلما كنا في الماضي». ويضيف الحاج عبد الباسط قائلا: «لا أخفي عليك ان ما حدث لا يرضي أطراف العائلتين ولدي شقيقي محمود يعمل في الكويت رفض المجيء الى مصر في هذا العيد حتى لا يشاهد هذا المشهد البائس الحزين، إذ انه اعتاد عند مجيئه تهنئة الجميع، واقامة ليلة في ثاني يوم عيد الأضحى يستضيف فيها كل أفراد عائلات قرية بيت علام، لكنه غير راض هذه المرة، لانه يرى ان مجيئه سيكون محزنا على نفسه وعلى أصدقائه في القرية».