بغداد تزود «الدروع البشرية» قائمة بالمواقع التي يمكن أن يرابطوا فيها والمتطوعون يسقطون منها أماكن قريبة من منشآت عسكرية مستهدفة

مهندس عراقي في محطة كهرباء: إذا بدأ القصف سأذهب إلى بيتي ولكن يمكن للأجانب أن يبقوا إذا أرادوا

TT

ارتسمت على وجه عامل المسرح البريطاني أوب ايفانز ابتسامة انتصار وهو يدخل إلى ملجئه المؤقت في بغداد الذي سيكون مسكنه لعدة أسابيع. مد ايفانز سريرا نقالا بالقرب من النافذة وفي الغرفة كانت هناك ثلاجة صغيرة. لكنه لم يعلن عن رضاه بالمكان الجديد إلا بعد خروجه منه ومشاهدة المحيط الخارجي. لم يكن ذلك المبنى سوى محطة عملاقة لتوليد الطاقة الكهربائية مع أربع مداخن ملفعة بالسخام ترتفع عاليا لا تبتعد عن مكان إقامته سوى 50 ياردة. وقال إيفانز مازحا عن موقعه: «إنه قريب بما فيه الكفاية... إنه مثالي».

قرر إيفانز و14 شخصا آخر قدموا من العديد من بلدان العالم الاقامة في غرفة الاجتماعات الواقعة في محطة توليد الكهرباء في جنوب بغداد على أمل أنه في حال اتخاذ إدارة الرئيس الاميركي جورج بوش قرارا بشن الحرب ضد العراق فإنها ستعدل عن ضرب هذه المحطة. وهؤلاء الناشطون هم جزء من 200 أجنبي بعضهم أميركيون وصلوا إلى بغداد بتشجيع من حكومة صدام حسين للعمل كـ«دروع بشرية» لحماية محطات توليد الطاقة ومرافق تصفية المياه والمستشفيات ومواقع مدنية أخرى مهمة للسكان المدنيين. وبين هؤلاء الأجانب المتطوعين هناك الطلبة والمتقاعدون وهم من بلدان مختلفة تتراوح بين النرويج وجنوب أفريقيا، وكلهم قالوا إنهم يعارضون أي غزو أميركي للعراق. والكثير منهم سافروا إلى العراق على متن حافلات بطابقين قدمت من لندن ومرت بالعديد من المدن الأوروبية حتى وصلت تركيا فسورية ومن هناك اتجهوا إلى بغداد ليأخذوا مواقعهم فيها. وفي فندق صغير ببغداد كان ممكنا سماع دمدمات غيتار تختلط بضحكات مجموعة من الهيبيز وكأن هذا الفندق أصبح مقرا عاما للمحتجين الأجانب على الحرب في بغداد.

وقال كين نيكولس أوكييف الذي خدم في مشاة البحرية الاميركية «المارينز» أثناء حرب الخليج سنة 1991 لكنه منذ ذلك الوقت تخلى عن جنسيته الأميركية وراح ينظم حملة الدروع البشرية: «نحن نحذر الحكومة الأميركية من أنها إذا قصفت هذه المواقع بدون وجود أي مبرر عسكري فإن ذلك لن يكون أضرارا عرضية بل سيكون قتلا». وما يجدر ذكره أنه بعد احتلال جيش صدام حسين الكويت في أغسطس (آب) 1990 احتجز الجنود العراقيون أكثر من 2000 أجنبي يعمل الكثير منهم في قطاع النفط وأجبروهم لعدة أشهر على البقاء في قواعد عسكرية ومصانع عراقية ولم يطلق سراحهم إلا قبل وقوع الحرب بشهر واحد فقط بعد أن تعرض صدام لضغط دولي مكثف. وعلى الرغم من أن الناشطين المعارضين للحرب قد سعوا لوضع أجسادهم كدروع بشرية في نزاعات أخرى آخرها كان في الضفة الغربية خلال الهجمات الإسرائيلية فإن المنظمين يقولون إن حجم هذه المساعي ومدى انتشارها لم يكن لهما مثيل من قبل. وهم إذا كانوا يعترفون بأن هذه الجهود قد لا تجعل إدارة بوش تتراجع عن قرار الحرب فإنهم يأملون على الأقل أن يضطر «البنتاغون» إلى تجنب ضرب مجموعة من الأهداف بضمنها محطة توليد الطاقة الكهربائية في جنوب بغداد والتي سبق للجيش الأميركي أن قصفها سنة .1991 وقال جو ليتس، سائق احدى الحافلات ذات الطابقين التي نقلت المتطوعين الى العراق: «لا أحد يريد الموت لكن في نهاية المطاف هذا هو الثمن الذي يريد أن يدفعه المشاركون في الدروع البشرية».

ووجود الدروع البشرية يلقى التشجيع من حكومة صدام حسين بحماسة شديدة، إذ أنها تعتبرها جزءا من استراتيجية تهدف إلى تحسين حظوظها على أرض المعركة عن طريق قسر القادة العسكريين الأميركيين على تغيير مخططاتهم في قصف أهداف تقع حول بغداد. فعلى العكس من الصحافيين والزوار الرسميين الذين يحتاجون إلى عدة أسابيع قبل أن يحصلوا على تأشيرة دخول لا يحتاج الكثير من الناشطين إلى أكثر من 48 ساعة كي يحصلوا عليها وأحيانا يتم إعطاؤهم هذه التأشيرات مباشرة حينما يصلون على الحدود. وتدفع الحكومة العراقية تكاليف إقامتهم في العديد من الفنادق السياحية الصغيرة ونصب خطوط هاتف دولية وبريد الكتروني لتعزيز نشاطاتهم واتصالاتهم بالعالم الخارجي. كذلك قامت الحكومة العراقية بتزويد الناشطين بقائمة من المواقع التي يستطيعون أن يبقوا فيها. وقام المنظمون الأسبوع الماضي بتفقد هذه المواقع فأقصوا تلك القريبة كثيرا من المواقع العسكرية.

من جانب آخر، يؤكد المسؤولون العسكريون الأميركيون انهم لم يضعوا اية خطط لقصف المواقع المدنية لكنهم لم يحددوا فيما إذا كانوا سيقصفون محطات الطاقة الكهربائية. كما انهم حذروا المسؤولين العراقيين من أن دعمهم لوضع دروع بشرية حول مواقع قابلة لأن تكون أهدافا عسكرية سيُعتبر جريمة حرب. وقال وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد الأسبوع الماضي إن «نشر الدروع البشرية ليس استراتيجية عسكرية، إنه قتل وخرق لقوانين الحرب وجريمة ضد البشرية». لكن منظمة «هيومان رايتس ووتش» (مراقبة حقوق الانسان) التي مقرها العام في نيويورك أدانت الطرفين لموقفهما تجاه الدروع البشرية. وقال كنيث روث المدير التنفيذي لهذه المنظمة: «إذا كان العراق يستعمل الناس كدروع بشرية فإن ذلك سيكون جريمة حرب... لكن وزير الدفاع الأميركي قال نصف القصة... إذا قامت الولايات المتحدة بمهاجمة أهداف فيها دروع بشرية بدون البرهنة على أن ذلك كان ضروريا جدا من الناحية العسكرية فإن ذلك سيُعتبر جريمة حرب أيضا».

وليس واضحا تماما ما إذا كانت الحكومة العراقية ستسمح ببقاء الدروع البشرية أينما أراد منظموها خلال الحرب. وأشاع بعض الدبلوماسيين أن الحكومة العراقية قد تتوصل إلى قناعة بأن المتطوعين يسببون متاعب كثيرة لها مما يدفعها إلى إجبارهم على الخروج من العراق. ونوه مدير محطة جنوب بغداد الكهربائية أنه قد يأخذ المساهمين في الدروع البشرية إلى مخبأ خاص، كذلك عبّر بعض الناشطين عن قلقهم من أنهم قد يجبَرون بالقوة على الانتقال إلى مواقع ذات أهمية عسكرية أو سياسية كبيرة. وقال عامل المسرح إيفانز: «إذا حدث ذلك فأنا سأكون مسرورا به لكن هناك أشياء هي خارج سلطتنا. تلك هي مخاطرة نحن مستعدون للقيام بها لمنع وقوع الحرب».

وتتكون الدروع البشرية من مزيج من المحتجين على الحرب لأول مرة وناشطين قدماء. وقال رايان كلانسي المعلم البريطاني الموجود حاليا في محطة جنوب بغداد الكهربائية «أنا أشعر بشكل متزايد بالاحباط لما أشاهده على شاشة التلفزيون». وسبق لكلانسي أن قضى أسابيع في نفق تحت مطار مانشستر للاحتجاج على توسيع مهبط جوي. ويبلغ من العمر 26 سنة، وقبل قدومه إلى العراق باع حصته في مخزن يبيع اسطوانات موسيقية كي يتمكن من شراء تذاكر الطائرة والسفر إلى إيطاليا حيث التقى بالمجموعة التي توجهت إلى بغداد بواسطة حافلات والتي تعرف إليها عبر الانترنت. وكانت محطة جنوب بغداد الكهربائية قد ضُربت ست مرات خلال حرب 1991 وقال إحسان العبيدي المدير العام لهذه المحطة إن وجود الدروع البشرية سيجنب مؤسسته القصف مرة أخرى. وأضاف: «هؤلاء أناس جيدون يقومون بمساعدة الشعب العراقي البريء». لكن العاملين الآخرين في هذه المحطة يبدون أقل تفاؤلا. فصباح حسن، المهندس في المحطة، قال إنه إذا بدأت القنابل بالسقوط فإنه لن يتردد في الهروب. وأضاف: «أنا سأذهب الى البيت. لكن بإمكان المتطوعين الأجانب أن يبقوا».

*خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»