بوتين حائر بين موقفين و يوفد رئيس ديوان الكرملين الى واشنطن في مهمة «عاجلة» في أعقاب زيارة بريماكوف إلى بغداد

TT

لاول مرة منذ اقرار مؤسسة الرئاسة في اطار ما يسمى اليوم ديوان الكرملين اعلنت موسكو رسميا عن ايفاد الكسندر فولوشين رئيس ديوان الرئاسة الى واشنطن في مهمة وصفت بـ«العاجلة». وثمة شواهد تؤكد أهمية هذه المهمة على ضوء نتائج الرحلة المفاجئة التي قام بها يفغيني بريماكوف رئيس الحكومة الروسية الاسبق لبغداد ولا يزال الغموض يكتنف الكثير من جوانبها. وفيما يتفق توقيت قيام موفد الكرملين برحلته الى واشنطن مع الكشف عن جوانب المشروع الروسي ـ الالماني ـ الفرنسي المشترك، تعرب موسكو عن موقف مناهض لمشروع القرار الذي تقدمت به واشنطن ولندن مدعومتين من اسبانيا حول طلب اقرار نزع سلاح العراق بالقوة في الجلسة التي سيعقدها مجلس الامن غدا. ولعل قائمة الشخصيات التي من المقرر ان يلتقيها موفد الكرملين، وتضم كلا من الرئيس الاميركي جورج بوش ووزير خارجيته كولن باول ومستشارته لشؤون الامن القومي كوندوليزا رايس وآخرين، تكشف عمليا مدى الاهمية التي يعيرها الجانبان لزيارة المبعوث الروسي. واذا كانت الولايات المتحدة تواصل محاولاتها لإثناء موسكو عن موقفها المناهض لاستخدام القوة ضد بغداد فان الكرملين يبدو في امس الحاجة الى اتخاذ موقف متوازن يكفل له الاحتفاظ بما استطاع تحقيقه من مكاسب على الصعيد الاوروبي في اطار التقارب مع قطبي العالم القديم ـ فرنسا والمانيا ـ الى جانب الابقاء على ما تيسر له من انجازات في اطار ما يمكن تسميته بـ«دبلوماسية الخطوط المتعرجة» أو «المناورة على حد السيف». وما نطالعه اليوم من تصريحات وتعليقات لكبار رجال السياسة والاعلام يكشف مدى «التخبط» الذي يكاد يطيح بما احرزه الرئيس فلاديمير بوتين من مواقع متميزة على صعيد معالجة الموقف منذ اندلاع الازمة العراقية. فهناك من يطالب الكرملين بسرعة حسم موقفه واعلان انحيازه للمشروع الاميركي ـ البريطاني من اجل الحصول على نصيب معقول من «الكعكة» العراقية فيما يحاول آخرون مواصلة العزف على أوتار التناقضات التي تكاد تعصف بالتحالف الاميركي ـ الاوروبي والمساهمة في تعميق الصدع الذي أصاب علاقات أقطاب هذا التحالف بعد تمرد كل من فرنسا والمانيا على «الاخ الاكبر». على ان موسكو ورغم تباين اطياف الرؤى السياسية تظل عند يقينها من ان الخاص يغلب على العام في سياسات واشنطن تجاه متغيرات عالم ما بعد 11 سبتمبر (ايلول) .2001 وليس ثمة ما يوحي بأن الكرملين يمكن ان يعود ثانية الى اخطاء ان لم تكن «خطايا» التسعينات. فما شهدته الساحة العالمية من تسلط وتعسف وصلف من جانب الولايات المتحدة تحت ستار مكافحة الارهاب الدولي يدفع موسكو اليوم الى التريث في اصدار الاحكام وعدم تعجل اتخاذ القرار الى حين استيضاح نتائج المواجهة بين اقطاب العالمين القديم والجديد بعيدا عن شبهة الاتهام بالميكيافيلية وان اعترفت بعض اوساطها بضرورة اعلاء البراغماتية. ومن هذا المنظور يمكن تناول الاتصالات الهاتفية الى اجراها ايغور ايفانوف وزير الخارجية الروسي امس مع نظرائه في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا واسبانيا قبيل سفره الى بكين. وتقول المصادر الرسمية ان ايفانوف حرص على تأكيد موقف بلاده تجاه ضرورة التريث وعدم الانزلاق الى الخيار العسكري الذي قال انه يمكن ان يلقي بالعالم الى الوراء واهمية الاستمرار في الجهود الرامية الى اعتماد الحلول السلمية السبيل الانسب للخروج من المأزق الراهن.

ولعل ما يدور اليوم يجعلنا قريبين من قبول ما يقال حول ان خياري حسم المسألة العراقية سلما ام حربا ليس قضية تكتيك بقدر ما هي قضية اختيار قواعد اللعبة وتحديد ملامح الاستراتيجية. وما دام الامر يتعلق في بعض جوانبه بنهج البراغماتية فان هناك في موسكو من يبدي تفهما «لهرولة» بعض بلدان شرق اوروبا التي انضمت حديثا الى كل من حلف شمال الاطلسي «الناتو» والاتحاد الاوروبي صوب «الاخ الاكبر» ـ الولايات المتحدة ـ بعيدا عن هيمنة قطبي العالم القديم. وهناك من يتناول هذه القضية بالارقام في محاولة لتبرير اندفاع هذه البلدان وارتمائها في احضان الولايات المتحدة تراودها احلام احتمالات التمتع برغد مشروع على غرار مشروع «مارشال». فميزانية الولايات المتحدة وحسب آخر الاحصائيات تبلغ اليوم 10 تريليونات دولار اي ما يفوق بمقدار اربعة تريليونات دولار ميزانيات المانيا وفرنسا وبريطانيا وايطاليا مجتمعة، كما ان حجم ميزانيتها العسكرية يبلغ 330 مليار دولار.

ازاء كل ذلك تصبح موسكو مدعوة اكثر من اي وقت مضى الى حسم موقفها وتحديد موقعها على خريطة السياسة العالمية سواء كان ذلك يتعلق بالعراق او غير العراق. ولعله يكون من المناسب هنا تبني وجهة نظر حكماء وعقلاء روسيا وهم اليوم كثر يقولون انه ليس واجبا الخيار بين اوروبا والولايات المتحدة بقدر ما يستوجب الامر خيار المبادئ وقواعد «اللعبة» التي يمكن ان تكفل لروسيا لاحقا موقعا متميزا على خريطة السياسة العالمية ما يمكن ان يكفل لها احترام الكبار قبل الصغار من اعضاء المجتمع الدولي.