انقسام «الكبار» في مجلس الأمن حول العراق يضع «الصغار» أمام خيارات صعبة

سفراء غينيا وأنغولا وكاميرون والمكسيك وباكستان وتشيلي يواجهون أقسى اختباراتهم الدبلوماسية

TT

بينما تتجه الولايات المتحدة الى حرب تبدو مؤكدة ضد العراق، فانها لا تخفي، في مواجهة العديد من الدول المعارضة للحرب، عزمها على اقامة ما تسميه «تحالف المتطوعين» الذين يفترض، نظريا على الأقل، انهم يدعمون الموقف الاميركي تجاه العراق بملء ارادتهم. ولكن قبل اختبار مدى جدية هذه الارادة في ميادين القتال، تحتاج الولايات المتحدة الى تسعة اصوات في مجلس الأمن الدولي، لتمرير قرار يجيز استخدام القوة ضد العراق، وذلك بافتراض ان روسيا وفرنسا لن تستخدما حق النقض (الفيتو) ضد القرار.

وهناك مزاعم تقول ان الادارة الاميركية، لكي تحصل على العدد الكافي من الأصوات، فانها تلوي ذراع دول ضعيفة لا تستطيع مقاومة التهديدات والأضرار الناجمة عن وقوفها في وجه الولايات المتحدة.

ويقول بعض المحللين ان «تحالف المكرهين» الذي تقوده الولايات المتحدة يمكن ان يضم دولا مثل غينيا والكاميرون وانغولا التي تدرك جيدا انها تجازف بخسارة مئات الملايين من الدولارات من المساعدات واتفاقات التجارة التفضيلية اذا هي قررت اعتراض الطريق على الولايات المتحدة.

وتجد الدول «المترددة» نفسها محط اهتمام ورهان في المواجهة الدبلوماسية التي يشهدها مجلس الامن الدولي بين انصار الخيار العسكري والمؤيدين لمواصلة عمليات التفتيش عن الاسلحة المحظورة.

وهناك في الواقع نصان مطروحان على بساط البحث كانا موضع مشاورات مغلقة في مجلس الامن الدولي. ويبدو ان هذين النصين حددا المواقف على الشكل التالي: من جهة مشروع قرار يفتح الطريق امام الحرب في وقت قصير جدا، ومن جهة اخرى مذكرة تؤكد ان «الخيار العسكري يجب ان يكون الملاذ الاخير».

وهكذا تحددت المواقف بين انصار اللجوء الى القوة الذين يتمثلون بالولايات المتحدة وبريطانيا مع دعم اسبانيا وربما بلغاريا، وبين المؤيدين لمواصلة عمليات التفتيش الدولية الذين يتمثلون بفرنسا وروسيا والمانيا مع دعم الصين وسورية.

وفي الوسط تقف دول مثل انغولا والكاميرون وتشيلي وغينيا والمكسيك وباكستان التي سيكون وزن قرارها حاسما في ترجيح ميزان القوى.

وتجدر الاشارة الى انه من المفترض لتبني مشروع قرار ان يحظى بتأييد تسعة اصوات على الاقل، على ان لا تستخدم اي من الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن الدولي حق النقض (الفيتو). واثناء المشاورات التي جرت الاثنين الماضي طلب عدد من الخطباء باسم وحدة مجلس الامن الدولي من الدول الخمس الكبرى الاعضاء التوصل الى اتفاق في ما بينها قبل طرح مشروع القرار على التصويت.

وصرح دبلوماسي من احدى الدول «الكبرى» شارك في مشاورات الاثنين انه «من الواضح ان سفراء بعض هذه الدول يفضلون ان يكونوا في مكان اخر».

وساق دبلوماسي اخر مثالا على ذلك سفير غينيا ممادي تراوري الذي حرص على حد قوله على الا يبدي اي تفضيل لأي من النصين. بل اكتفى بالقول انه «سيرجع الى حكومته» للتشاور. ولعل موقف غينيا التي ستتولى اعتبارا من الاول من الشهر المقبل الرئاسة الدورية لمجلس الامن الدولي التي تتولاها المانيا حاليا، يكشف اضطراب وضيق هذه الدول «الصغيرة» التي تتمتع بمقعد حاليا في مجلس الامن الدولي عندما تتواجه الدول الخمس الكبرى.

وتشكل غينيا جزءا من الدول الافريقية، وهي عضو في حركة دول عدم الانحياز التي اعلنت رسميا تأييدها لاستمرار عمليات التفتيش في العراق. لكن الولايات المتحدة اوفدت الاسبوع الماضي مبعوثا رفيع المستوى الى كوناكري، وكذلك الى انغولا والكاميرون.

وفي هذا السياق علق احد الدبلوماسيين بقوله «ان الامر لا يتعلق باقناع (هذه الدول) بل بترغيبها وتهديدها» ورأى ان «المسألة المطروحة تتمثل في قدرة كل حكومة على مقاومة الضغوط والتهديدات المبطنة مثل (اذا لم تكن معنا فانت ضدنا)».

وتواجه غينيا، المستعمرة الفرنسية السابقة، ضغوطا شديدة من قبل باريس لحثها على معارضة مشروع القرار الاميركي في مجلس الأمن، الا ان علاقاتها المديدة مع فرنسا تعاني الكثير من الانهاك بسبب التوترات العسكرية في ليبيريا المجاورة ولحاجتها الى المزيد من الدعم الاقتصادي والعسكري الذي تحرص على كسبه من الولايات المتحدة وفرنسا في آن معا. وستجد غينيا نفسها في وضع محرج الشهر المقبل عندما تتولى رئاسة مجلس الأمن، حيث سيكون عليها ان تختار بين صديقين لا تستطيع الاستغناء عن أي منهما. وربما تكون انغولا أسرع من غيرها، بين الدول الافريقية «المترددة»، في تأييد الولايات المتحدة. فبوصفها احد اكبر منتجي النفط في القارة الافريقية، فانها تتطلع للفوز بعقود بديلة لتزويد الولايات المتحدة بامدادات الطاقة في حال تراجع انتاج النفط في الشرق الأوسط.

وفي حين أبدت المكسيك، على امتداد الأسابيع الماضية، موقفا يميل الى خيار منح المفتشين وقتا أطول لاتمام مهمتهم، فانها أظهرت تحولا يجعلها الآن أقرب الى تأييد الموقف الاميركي حيث ابدى الرئيس المكسيكي فيسنتي فوكس استعدادا لتأييد صيغة معدلة لمشروع قرار جديد صارم بشأن العراق في الامم المتحدة مشترطا صياغته «بنية حسنة».

وقال فوكس للصحافيين اول من امس ان المكسيك ربما تؤيد صيغة معدلة للمشروع المقترح من واشنطن ولندن. واضاف فوكس قائلا «اذا صيغ هذا الاقتراح بنية حسنة وتم قبول تعديلات عليه عندئذ فانه بالتأكيد سيقربنا من حل جيد لهذه المشكلة».

وكانت وزارة الخارجية المكسيكية قد اصدرت اول من امس توصيات تؤكد على تثمين علاقات المكسيك مع الولايات المتحدة. وقالت ان الدبلوماسية المكسيكية سوف تركز اهتمامها على المهمة المباشرة وهي نزع اسلحة العراق. واستدركت القول «ليس هناك شيء اكثر اهمية من ذلك، ويجب عدم اضاعة المزيد من الوقت لبلوغ هذا الهدف».

وتخشى المكسيك ان يعاني اقتصادها من حرب في العراق وما يتبعها من هبوط متوقع لطلب المستهلكين في الولايات المتحدة التي تذهب اليها اكثر من 80 في المائة من الصادرات المكسيكية.

وتجد باكستان نفسها بين نارين. فحكومتها لا تستطيع من ناحية الوقوف ضد الولايات المتحدة التي تعد حليفها الرئيسي في الحرب ضد الارهاب، وهي لا تستطيع، من ناحية اخرى، ان تقف في وجه المشاعر الاسلامية المناهضة للحرب، وضمنها مشاعر الاغلبية العظمى من الباكستانيين انفسهم.

وتضغط احزاب اليمين واليسار على حد سواء في تشيلي على الرئيس ريكاردو لوغوس لمقاومة المسعى الاميركي لاصدار قرار يجيز استخدام القوة ضد العراق في مجلس الأمن. وعلى الرغم من ميل تشيلي المعلن نحو الموقف الفرنسي، الا ان هناك مخاوف حقيقية من ان الوقوف في وجه مشروع القرار الاميركي سوف يعرض للخطر اتفاق التجارة الحرة مع الولايات المتحدة الذي تم توقيعه في ديسمبر الماضي وما يزال ينتظر مصادقة حكومتي البلدين عليه.

ويقول آنتوني كوردزمان، خبير شؤون الشرق الأوسط بـ«مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» في واشنطن، ان «تحالف المتطوعين» يتألف الى حد كبير من «دول رافضة»، وأضاف ان رئيس الوزراء البريطاني توني بلير يعتبر من القليلين الذين يستند موقفهم الى قناعة راسخة وليس فقط الى «الرغبة في المحافظة على علاقة خاصة بالولايات المتحدة». وبعض اعضاء هذا التحالف، مثل تركيا، طالب واشنطن بمساعدات قيمتها 30 مليار دولار او اكثر ثمنا لمساندة الولايات المتحدة، فيما تشعر دول اخرى بالامتنان تجاه الولايات المتحدة لمساعدتها في التحرر من الشيوعية فضلا عن ان هذه الدول تسعى الى تأكيد عضويتها في حلف شمال الاطلسي (الناتو). اما دول منطقة الخليج، فقد انخرطت في التحالف للمحافظة على الضمانات الامنية الاميركية، الى جانب دولة اخرى شرق اوسطية، مثل الاردن، استند موقفها في الانضمام الى التحالف الى حاجتها الى المساعدات والعلاقات التجارية والحماية الاميركية.

وتساءل محللون عن قيمة هذا التحالف طالما بات ولاء دول رئيسية فيه يباع ويشترى فيما يبدو، فهل ستظل هذه الدول واقفة الى جانب بعضها بعضا اذا استغرقت الحرب وقتا اطول مما هو متوقع».

ويرى مراقبون ان عوامل مثل القلق بشأن الاوضاع الاقتصادية المحتملة ومواقف الرأي العام والارتياب إزاء فكرة الحرب الوقائية والاستياء تجاه الولايات المتحدة تضافرت كلها لتحول دون وقوف كل الحلفاء الى جانب الموقف الاميركي. كما ان الحرب نفسها اثارت جدلا واسعا الى درجة ان مصادقة حلف «الناتو» على حماية تركيا، في حالة نشوب حرب، استغرقت 11 يوما بعد نقاش حاد ولاذع. وحتى المصادقة على قرار حماية تركيا جاءت بعد مناورة من جانب الامين العام للحلف، جورج روبرتسون، ادت الى اخراج فرنسا من التصويت النهائي. وأشار روبرتسون خلال لقاء اجري معه الاسبوع الماضي الى ان النزاع داخل «الناتو« حدث ايضا خلال المرحلة التي سبقت حرب الخليج الثانية عام 1991، لكنه اعترف بأن النزاع الاخير يعتبر امرا مختلفا، مؤكدا ان «المشاعر والانفعالات هذه المرة عالية والرأي العام سريع التأثر».

ولكن ما هو الحجم الحقيقي للتحالف الذي من المحتمل ان يساند الولايات المتحدة في الحرب المحتملة« قال مارك غروسمان، مساعد وزير الخارجية الاميركي، للجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ في 11 الشهر الحالي ان 26 دولة وافقت على تقديم مساعدة للولايات المتحدة في الحرب المحتملة في العراق الى جانب 19 دولة اخرى «تشارك حاليا في التخطيط العسكري المباشر«، مؤكدا ان هذا الوضع يجعل من المهم على كل من المجلس والرأي العام الاميركي إدراك ان هناك دولا تقف الى جانب الولايات المتحدة.