خبراء ومسؤولون في واشنطن: بناء الديمقراطية في العراق ليس سهلا والعقبات الكثيرة تثير المخاوف

بغداد اليوم ليس فيها مانديلا أو هافل.. والتغيير فيها لم يأت بانتفاضة كما في أوروبا بل بتدخل مثلما حدث في كوسوفو وهاييتي وأفغانستان

TT

آخر مرة قامت فيها الولايات المتحدة بمثل هذه المحاولة الطموحة لإنشاء ديمقراطية جديدة ثابتة كان هتلر قد انتحر قبلها بوقت قصير جدا في غرفته المحصنة تحت الأرض في ألمانيا وكان اليابانيون يعلنون استسلامهم للجنرال دوغلاس ماك آرثر على متن الـ«يو إس إس ميسوري» في خليج اليابان.

ويوم الثلاثاء الماضي، وفي مدينة الناصرية الواقعة في جنوب العراق، دعا الجنرال المتقاعد في الجيش الأميركي جي غارنر إلى الاجتماع الأول من سلسلة اجتماعات تسعى الولايات المتحدة من خلالها إلى تطوير جيل من الزعماء الديمقراطيين في العراق. لكن هذا الأمر لن يكون سهلا.

الدبلوماسي الأميركي جيمس دوبنز الذي ساعد في الإشراف على جهود بناء الدولة خلال العقد الماضي في الصومال وهاييتي والبوسنة وكوسوفو وأفغانستان، قال: «لم يكن هناك شك في أن الولايات المتحدة ستكسب الحرب، وأنه كان في استطاعتها ـ لو لزم الأمر ـ أن تكسبها بمفردها. أما كسب السلام فليس مضمونا بنفس النسبة».

أولئك الذين عملوا على إنشاء حكومات ثابتة وتحقيق درجة من الحرية في مناطق صعبة يتوقعون أن تمر سنوات قبل النجاح في إجراء انتخابات في العراق، وأن يمر عدد أطول من السنوات قبل أن تتمكن الولايات المتحدة وعدد من الفصائل الأخرى من توفير الأمن لقوة عراقية أعيد تشكيلها. وحتى لو فاز الرئيس جورج بوش بولاية ثانية فإنه قد يغادر البيت الأبيض قبل تحقيق هدفه.

الشعب الأميركي يدرك أن ذلك سيكون صعبا. وفي الاقتراع على «الولايات المتحدة اليوم» الذي أجرته محطة الـ«سي.إن.إن». يوم الخميس الفائت، بعد سقوط بغداد، صوت ثمانية أعشار المقترعين بالإيجاب على أن إنشاء ديمقراطية ثابتة في العراق سيكون أمرا صعبا. وصوتت أغلبية كبيرة بالإيجاب على أن الولايات المتحدة تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية لجهة ضمان تحقيق تلك الخطوة.

بعض المحللين يقولون إن مسؤولي إدارة بوش، يتوقعون تحولا أسرع في المسؤولية إلى العراقيين، ويتجاهلون بعض الدروس المستفادة خلال العقد الماضي. ودوبنز يقول: «هذه الإدارة تتجاوز ما هو موجود أمامها من خبرة».

بعض الزعماء في الكونغرس والخبراء خارج الإدارة يقولون إن المسؤولين الذين يضعون الخطط للعراق لا يعطون عامل الوقت وعدد القوات الأميركية المطلوب لحفظ السلام وضرورة مشاركة الأمم المتحدة والدول الأخرى، ما يستحق من أهمية. ويقول ريتشارد لوغار، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي: «في هذه المرحلة يعتقد الشعب الأميركي أن العراقيين سيحكمون أنفسهم بأنفسهم خلال وقت قصير جدا وبأننا سنخرج من العراق. هذا الاعتقاد خاطئ». ويضيف لوغار: «أعتقد أن الأمور لن تتم بهذا الشكل في هذه الحالة من دون تعرض مستقبل العراق لأخطار كبيرة».

إن التاريخ الحديث يفترض استمرار الجهود خمس سنوات أو أكثر، وحين أمضت الولايات المتحدة وقتا أقل من ذلك في الصومال وهاييتي لم تدم الإصلاحات الديمقراطية طويلا. والتجربة في كوسوفو أظهرت أن حماية بعض المؤيدين للنظام المهزوم كانت واحدة من أولى المهمات الأساسية. والبوسنة تشكل مثالا على الانتخابات التي تجري قبل الأوان، والتي قد تبدو جيدة للعالم ولكنها يمكن أن تفاقم الانقسامات وأن تجعل التسويات أكثر صعوبة.

هناك درس آخر: هناك حالات نجاح، ولكن في بعض الأحيان لم تنجح أفضل الجهود في إيجاد الديمقراطية حين لم تكن هذه الديمقراطية موجودة أصلا.

المفارقة هي أن جورج بوش الابن كان في السابق ناقدا لفكرة قيام أميركا بتولي مهمة بناء الدولة في مناطق أخرى وهي فكرة اعتمدتها إدارة كلينتون السابقة ولكن بوش سخر بها حين كان مرشحا للرئاسة. ففي إحدى المناقشات المتعلقة بالسياسة الخارجية قال بوش منتقدا كلينتون: «بدأ العمل في الصومال كمهمة إنسانية وبعد ذلك أصبح هدف المهمة بناء الدولة. هنا حصل الخطأ». وأضاف بوش لاحقا: «جيشنا وجد ليخوض الحروب ويكسبها. لا أعتقد أن الولايات المتحدة يجب أن تدخل إلى بلد ما وتقول للناس: نحن نقوم بهذا الأمر على هذا النحو وأنتم عليكم عمل الشيء نفسه».

الآن دارت الدوائر وصار بوش يتحدث عن جعل إنشاء حكومة ديمقراطية ثابتة واحدا من الأهداف الأساسية لغزو العراق الذي قادته الولايات المتحدة، علما بأن العراق لم يسبق أن كان ديمقراطياً في أي وقت من الأوقات.

مساعدو الرئيس بوش يقولون إن مواقفه تغيرت بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001 وان تلك الهجمات دفعته إلى اعتماد سياسة خارجية أكثر حزما، وهم يقولون أيضا ان للعراق أهمية استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة أكثر من الصومال والبوسنة. ويشيرون إلى أن بوش تعهد خلال الأيام القليلة التي سبقت الحرب ضد العراق بضمان الانتقال الديمقراطي وقال: «سنضمن ألا يكون هناك استبدال لدكتاتور غاية في القسوة بمثيل له».

لكن كيف يمكن تحقيق ذلك؟

أولئك الذين عملوا لتحقيق هدف مماثل في أماكن أخرى يكشفون عن الدروس التي تعلموها، وبعضها كانت دروسا قاسية، ومن نصائحهم:

ـ التحرك سريعا لمنع حوادث الانتقام من أقارب وموظفي صدام:

ويقولون إنه حين انسحبت الفصائل الصربية من كوسوفو إلى في عام 1999 لم تكن قوى حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بادئ الأمر مهيأة للتعامل مع فراغ السلطة الذي حصل. وأدت أعمال الانتقام من الصرب القاطنين في كوسوفو أزمة، ما تزال تزيد من صعوبة تحقيق المصالحة.

ويقول دوبنز: «حري بنا تذكر أننا دخلنا إلى كوسوفو لحماية الألبان من الصرب، وبعد ذلك أمضينا السنوات الثلاث التالية نحمي الصرب من الألبان».

ويضيف أنه على الإدارة الأميركية وضع شرطة دولية في العراق كما هو الحال في هاييتي والبوسنة. ـ التحرك السريع لإشعار الناس بـ«فوائد السلام»:

أكثر الحاجات إلحاحا بالنسبة لمعظم العراقيين في الوقت الحاضر لا تتمثل في دستور أو مجلس نيابي، بل في مياه الشرب والعناية الطبية والطاقة الكهربائية وغيرها من الخدمات الضرورية. فالناس في البصرة وبغداد والمدن الأخرى يستقبلون القوات الأميركية والبريطانية طالبين منها تأمين المياه لهم.

رولان باريس، وهو عالم سياسي في جامعة كولورادو ومؤلف كتاب «في نهاية الحرب: بناء السلام بعد صراع مدني»، يقول: العمل السياسي الهادف إلى تحقيق تحول ناجح إلى الديمقراطية سيكون صعبا جدا حتى ولو لم يكن هناك مواطنون عاديون غاضبين ومستائين من عدم وجود أشياء أساسية كالمياه والطاقة والطعام والعلاج الطبي».

ـ وضع قضاة مستقلين وقوة عسكرية غير منحازة سياسيا في الموقع الصحيح قبل إجراء انتخابات محلية:

بعد الحروب الأهلية الدموية في كمبوديا وليبيريا في التسعينات من القرن الماضي أشرفت الأمم المتحدة على الانتخابات التي قيل عنها على نطاق واسع أنها كانت نزيهة وحرة. ولكن بعد وقت قصير من انتهاء التصويت ومغادرة المراقبين الدوليين بدأ الزعماء المنتخبون حديثا بتخريب الإصلاحات الاقتصادية لضمان استمرارهم في السلطة. ويقول باريس: «بالنسبة للعراق، الذي لم يعرف في تاريخه الديمقراطية أو التسويات الجماعية، لن يكون مفاجئا إذا قررت الحكومة الجديدة، مهما كانت، أن التمسك بحرفية دستور ديمقراطي جديد يشكل تهديدا للأمن القومي».

ـ عدم التسرع في إجراء انتخابات عامة:

في البوسنة حدد اتفاق دايتون عام 1995، الذي أنهى الحرب الأهلية، موعدا نهائيا لإجراء انتخابات جديدة خلال فترة تتراوح ما بين ستة وتسعة أشهر. بما أنه لم يكن هناك وقت كاف لظهور وجوه جديدة أكثر اعتدالا فقد أجريت الانتخابات، وفازت بها، نفس القوى الراديكالية التي خاضت الحرب مما جعل المفاوضات منذ ذلك الوقت أكثر صعوبة.

ـ طلب المساعدة من العالم:

منذ انتهاء الحرب الباردة لم تبذل أي جهود هادفة لبناء الدولة من قبل الولايات المتحدة بمفردها، بل شاركت فيها كلها، وبشكل مباشر ونشط، الأمم المتحدة أو حلف شمال الأطلسي أو تحالفات دول خصيصا لتلك الغاية، بهدف توفير الأمن وبناء ـ أو إعادة بناء ـ المؤسسات. وكان بوش قد صرح بعد اجتماع عقده مع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير مؤخرا بأن الأمم المتحدة سيكون لها «دور مباشر ونشط» في العراق، ولكن الإدارة الأميركية لم تحدد حتى الآن دورا للأمم المتحدة يتجاوز تنسيق المساعدات الإنسانية.

ويقول الخبراء ان مشاركة الأمم المتحدة تؤمن مصداقية الحكومة الجديدة في العراق وتشكل ردا على التصور الموجود لدى الكثيرين في العالم العربي بأن الولايات المتحدة تحتل العراق وبصدد إقامة نظام «دمية».

ـ ليس ذلك نموذجا:

المسؤولون في إدارة بوش يردون بالقول إنهم لا يرون ـ بالضرورة ـ أن الجهود المبذولة في دول أخرى لإنشاء حكومات مستقرة وثابتة، لها علاقة بالوضع الراهن في العراق. فقد قال نائب وزير الدفاع الأميركي بول وولفويتز للكونغرس قبل أيام: «نحن لا نريد تكرار نموذج البوسنة أو نموذج كوسوفو أو نموذج تيمور الشرقية». وأشار إلى أنه: بعد ثماني سنوات ما تزال الأمم المتحدة تعمل في البوسنة، بينما واشنطن تتوقع جدولا زمنيا أسرع في العراق.

ويقول وولفويتز: «إنها تشبه المشكلة التي نواجهها إذا تركنا عجلات التمرين في الدراجة لمدة أطول مما ينبغي ـ فالطفل لن يتعلم ركوب الدراجة. ولكننا نريد أن نضمن عدم وقوع الدراجة حين ننزع عنها عجلات التمرين».

ويقول النقاد أن وولفويتز ورئيسه وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد يميلان إلى تقليص عدد القوات الأميركية اللازمة، وإطالة مدة بقائها الضروري في العراق، إلى أقصى حد ممكن.

ويشيرون إلى أن العراق أفضل من بعض النواحي إذ أن شعبه متعلم ولديه إيرادات كبيرة من النفط تسمح بتمويل إعادة البناء. لكن المراقبين يشيرون إلى أن العراق لم يمارس أيضا مظاهر ديمقراطية حقيقية كالانتخابات النزيهة وحكم القانون. ولا يوجد فيه زعيم معارض لديه تأييد واحترام الشعب على نطاق واسع بما يمكنه من توحيد البلاد مثلما فعل نيلسون مانديلا في جنوب افريقيا، أو فاكلاف هافل في تشيكوسلوفاكيا. وهناك انقسامات إثنية تعيد إلى الذاكرة أولئك الذين مزقوا البلقان. والنظام الجديد لم يأت نتيجة لانتفاضة كبيرة، كما حصل في عدة دول في أوروبا مع انهيار الاتحاد السوفياتي، بل ستكون الحكومة الجديدة «وليدة» تدخل أجنبي.

قد يكون أكثر الأوضاع شبها بالوضع في العراق وضع اليابان بعد الحرب العالمية الثانية والجهود التي بذلت لإعادة بنائها. واليابان لم يكن لديها خبرة كبيرة بالديمقراطية وهي رأت الحرب تسحق نظامها القديم. ومع تسلم الجنرال ماك آرثر زمام الأمور أعادت الولايات المتحدة كتابة دستور اليابان وسرحت قواتها المسلحة ووزعت الأراضي على المزارعين الذين كانوا يستأجرونها وزادت حماية العمال وأجرت إصلاحات قانونية بالاستناد إلى النماذج الأميركية. ولكن الاحتلال استغرق سبع سنوات واستوجب نشر أكثر من مائة ألف جندي أميركي.

من هنا فإن فكرة تطبيق وتثبيت الديمقراطية في العراق حاليا، وبوجود عدد قليل من القوات الأميركية في الساحة، تثير مخاوف بعض زعماء الكونغرس والدبلوماسيين وغيرهم، وهم يذكرون بقلق تجربة إدارة بوش في أفغانستان منذ إقصاء نظام طالبان عام 2001. فالولايات المتحدة كانت قد رفضت اقتراحات بشأن نشر قوى أمن دولية خارج، العاصمة كابل، للسيطرة على القادة العسكريين المتنافسين. ولم تقترح الإدارة الأميركية أي مساعدة لأفغانستان في موازنتها لتلك السنة، مع أن الكونغرس أضاف 300 مليون دولار.

ليون فويرث، مستشار الأمن القومي لآل غور، نائب الرئيس الأميركي في إدارة كلينتون، يرى أن إدارة بوش تواجه «هوة واضحة تماما بين لغتها المنمقة في السابق وورطتها الحالية حين يتعلق الأمر ببناء الدولة». ويضيف أن مهمتها في العراق يرجح لها أن تكون أكثر صعوبة وأطول مدة مما يعتقده الكثيرون اليوم.

* خدمة «يو اس اي توداي» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»