إسرائيل تريد للحرب أن تنتهي بخريطة جديدة للشرق الأوسط وشارون يتحدث عن تقوقع عربي وتفكك للجامعة وضربة لأوروبا

TT

في أحد أيام الاسابيع القريبة القادمة، سيسافر رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون، الى واشنطن، في مهمة غير عادية. وستكون هذه الزيارة بمثابة اشارة تدل على ان ادارة الرئيس جورج بوش قد بدأت تعد لبناء خريطة جديدة للشرق الأوسط، في ضوء التطورات الناجمة عن حرب العراق والسقوط السريع لنظام صدام حسين.

ادارة الرئيس بوش، كما يقولون في اسرائيل، لا تعرف بعد كيف ستصوغ هذه الخريطة بالكامل. فهي ما زالت تتخبط في لملمة اوراق انتصارها السريع. وفي كل يوم جديد، تنشأ امامها مصاعب ومهمات جديدة تحاول اعطاء اجابات شافية عنها. لكنها اقامت طاقما من المخططين الاستراتيجيين، تدل تركيبته على انها تنوي العمل على «نار هادئة». فأعضاء هذا الطاقم هم، حسب التقديرات الاسرائيلية، من الدرجة الثالثة او الرابعة في وزارة الدفاع الاميركية (البنتاغون) ووزارة الخارجية ومجلس الامن القومي.

لهذا، فان شارون سيسافر الى العاصمة الاميركية حاملا اقتراحا اسرائيليا بهذه الخريطة، يتم اعداده حاليا في تل أبيب على «نار ملتهبة»، بمشاركة، ليس الطواقم الفنية وحسب، بل باشراف مباشر من مكتب رئيس الحكومة، ومشاركة اجهزة الامن والتخطيط الاستراتيجي على ارفع المستويات. فهم يعتقدون ان الاميركيين لم يستوعبوا بعد حجم وقيمة انتصارهم. وكما كان شارون نفسه قد صرح لصحيفة «هآرتس» (الاثنين 14 الجاري)، فان هذه الحرب احدثت زلزالا في الشرق الأوسط، تغير بموجبه ميزان القوى. واضاف في مقابلة اخرى لصحيفة «يديعوت احرونوت» (الاربعاء 16 الجاري): «.. لقد ارسلت الى واشنطن وفدا (برئاسة مدير مكتبه، دوف فايسغلاس) ليعرض ملاحظاتنا على «خريطة الطريق» وليسمع من الاميركيين اذا كانت لديهم افكار جديدة وتوجهات جديدة في ضوء التطورات في العراق. انني اريد ان اعرف اذا كانت لديهم برامج اخرى للمنطقة. وقد أضطر الى السفر بنفسي الى هناك». وقبل ان يجف حبر هذه الكلمات، اكد شارون انه سيسافر فعلا الى واشنطن في القريب، ليدرس الامور عن كثب.

فما الذي يريد شارون بحثه؟ هل يقتصر البحث على الموضوع الفلسطيني و«خريطة الطريق»؟ ام النزاع الاسرائيلي ـ العربي بشكل عام؟ أم انه ينظر الى ما هو ابعد من ذلك بكثير؟

* عصر ما بعد 11 سبتمبر

* من يتابع السياسة الاسرائيلية الرسمية والممارسات العملية على الارض، يجد ان حكومة شارون، تعمل من منطلق ان العالم ما بعد احداث 11 سبتمبر (ايلول) 2001، هو عالم آخر مختلف جوهريا عن عالم ما قبل هذا التاريخ. وما يهمه في تلك الاحداث ليس هول العمليات التفجيرية وخطورتها، بقدر ما هو التغيير في السياسة الاميركية نفسها.

فقد رأى شارون ان هذه الاحداث وضعت الولايات المتحدة في خندق واحد مع اسرائيل، في ما يسمى بمكافحة الارهاب. وتحت هذا الشعار، سعت اسرائيل لاقامة نظام عالمي جديد تكون هي في مركز ثقله، لتصفية حسابات وانتقامات ثأرية مع كل من لم يذرف الدموع على تلك الاحداث. وقامت بتقسيم العالم الى قسمين; على طريقة اسود ـ ابيض، فاما انت مع الولايات المتحدة واسرائيل في كل شيء، او انك ضدهما. فان كنت معهما فأنت ضد الارهاب. وان لم تكن، فانك مع الارهاب. وقدمت المخابرات الاسرائيلية كما هائلا من المعلومات الى الولايات المتحدة حول ما سميّ الارهاب والقوى والدول التي تدعمه، في مقدمتها السلطة الفلسطينية والدول العربية والاسلامية التي تتخذ موقفا معاديا من اسرائيل، او بالاحرى التي لا تقدم على تطبيع العلاقات مع اسرائيل.

وعندما قدمت المملكة العربية السعودية مبادرتها لتسوية النزاع الاسرائيلي ـ الفلسطيني، لم تسلم من التحريض الاسرائيلي. وانطلقت ماكينة الدعاية الاسرائيلية تحرض على العراق وسورية وايران و«حزب الله» والسعودية والسلطة الفلسطينية ومصر. واطلقت العنان لجيشها (قبل سنة) ليعيد احتلال الضفة الغربية بمعظمها واجزاء من قطاع غزة. وليس صدفة ان اسرائيل تواصل، بل تصعد الحملة ضد كل من سورية وايران و«حزب الله» في هذه الايام. وتصل في تحريضها الى ليبيا واليمن والسودان. فكل ذلك يشير الى ملامح «الخريطة الجديدة» التي يريدها شارون للشرق الأوسط. وعندما يقول انه يريد ان يسمع اذا كانت هناك توجهات جديدة لدى الاميركيين، فانه في الواقع يريد ان تكون هناك توجهات جديدة، على جميع الاصعدة، وفي صلبها النزاع الاسرائيلي ـ العربي.

* كيف يقرأون نتائج الحرب

* منذ سقوط بغداد، ينشغل الباحثون الاستراتيجيون العاملون جنبا الى جنب مع السياسيين والعسكريين الاسرائيليين، في تقويم ما جرى ويجري، لكي يستنبطوا منه خيوط الفوائد الاسرائيلية. قسم من الدراسات يدور في الغرف المغلقة، وقسم آخر علني على صفحات الجرائد.

وقد اختارت صحيفة «يديعوت احرونوت» عقد ندوة خاصة بها، اواسط الاسبوع، باشتراك سبعة باحثين اساسيين ممن يشاركون في تلك الدراسات، من ذوي الاتجاهات المختلفة، ونشرت زبدة الحوار معهم (16 الجاري). وقد افصحوا عن مواقف ومعلومات في غاية الاهمية والخطورة، نلخصها في ما يلي:

ـ الولايات المتحدة لم تنتصر على العراق فقط، بل ايضا على محور التحالف الاوروبي الجديد: روسيا ـ فرنسا ـ المانيا. ونجحت في شق الاتحاد الاوروبي الى شقين يفصل بينهما شرخ كبير. وفي هذا فائدة ليس فقط للسيطرة الاميركية على العالم وضعف المارد الاوروبي امام واشنطن، بل ايضا وبشكل خاص لفائدة اسرائيل. فقد انتهت اللعبة الاوروبية في التأثير على الاحداث في الشرق الأوسط. وما عاد ممكنا ان تقبل الادارة الاميركية بدور فاعل للأوروبيين.

وانتهى دور «اللجنة الرباعية» الدولية (الامم المتحدة وروسيا واوروبا والولايات المتحدة). وكل هذا يعني تخفيف الضغط الاوروبي على اسرائيل في موضوع تسوية النزاع في الشرق الأوسط.

وحتى الدور الذي تعده الولايات المتحدة لبريطانيا، في هذا المجال، سوف يكون محدودا. وعلى الرغم من الموقف البريطاني الصارم الى جانب الولايات المتحدة في الحرب، فان اسرائيل لا تتردد في التبجح على بريطانيا الشريكة الاولى في الحرب، والمساس بها وتجاوز اللغة الدبلوماسية معها. فقد وُصف رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، بالعدو اللدود لاسرائيل. وعندما سئل شارون عن ذلك قال: «لا اقول انه عدو. ولكن ما من شك في انه ـ اي بلير ـ اعطى لنفسه حرية زائدة في اقرار مصير اسرائيل. ونحن لن نسمح له بذلك» («يديعوت احرونوت» ـ 16 الجاري).

ـ العالم أصبح محكوما، ليس فقط بلون واحد رأسمالي ـ غربي كما كانوا يقولون بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بل انه بات «عالم اميركا» او «عالما اميركيا». فالسياسة الاميركية هي المسيطرة من الآن فصاعدا على العالم في كل المجالات، وخصوصا في مجال السياسة الدولية. وفي مثل هذه الحالات، تحب اسرائيل ان تكون الولاية الحادية والخميسن. والاميركي بنظرهم هو اسرائيلي، والعكس بالعكس. ومع ان البعض يرى ان هذا الانتماء يعود بالضرر على اسرائيل، اذ انه يعني ان تستطيع الولايات المتحدة الضغط عليها في قضايا معينة، الا ان الاكثرية ترى ان واشنطن لن تمارس اي ضغط جدي على تل ابيب، بل بالعكس، فانها تشركها في كل شيء.

وكما قال شارون نفسه في هذا الصدد، فانه «خلال الحرب على العراق ساد مستوى من التنسيق بين اسرائيل والولايات المتحدة لم يسبق له مثيل في تاريخ البلدين، منذ ان اقيمت اسرائيل».

والامر نفسه ينطبق على «خريطة الطريق» وخطاب الرئيس جورج بوش، حول تسوية ازمة الشرق الأوسط (يونيو/حزيران 2002)، وكلاهما اعدا بالتعاون المشترك مع شارون كما كان قد كشف خلال لقائه المذكور اعلاه مع صحيفة «هآرتس».

ويتوقع الاسرائيليون ان يتعمق هذا التنسيق اكثر، خصوصا انهم يرون ان عمليات تفجيرية تنتشر في كل مكان في العالم «لأن قوى الارهاب ستحاول ان تثبت ان الحرب على العراق لا تعني انها هزمت، بل بالعكس ستقوم بالتصعيد، وستضرب اهدافا مدنية لبريطانيا وللولايات المتحدة واستراليا وكل من أيد الحرب. وهذا سيتضمن واشنطن ولندن وسيدني، مما سيدفعهم الى توسيع حلقة الضغط على الانظمة العربية».

ـ سقوط بغداد وضمان السيطرة الاميركية على سياستها المستقبلية، يعني اخراج دولة قوية عسكريا (العراق) من دائرة الحرب مع اسرائيل وفقدان سورية، الدولة التي ما زالت تناصب اسرائيل العداء، عمقا استراتيجيا كهذا، مما يحدث خللا جوهريا في توازن القوى. لكن اسرائيل تطلب خطوات اضافية في هذا المجال، تتمثل اولا في ضمانات فعلية لان يخرج العراق من دائرة الصراع وذلك بواسطة اجراءات تتخذها حكومة العراق القادمة باتجاه السلام مع اسرائيل.

كما تطلب انتهاز الفرصة السانحة واحداث تغيير جوهري في السياسة السورية والايرانية. وكما يقول شارون (في لقائه المنشور في «يديعوت احرونوت» ـ 16 الجاري)، فان ايران تتخذ موقفا عدائيا من اسرائيل، وحتى القوى المعتدلة فيها تريد ان تزول اسرائيل من الوجود. وسورية ايضا تتخذ موقفا عدائيا من اسرائيل، وينبغي مطالبتها بتغييره. وقد عرض شارون سلسلة مطالب يريد للاميركيين ان يطرحوها على سورية، وحددها على النحو التالي: الضغط الشديد حتى يتم تفكيك التنظيمات الفلسطينية المسلحة العاملة من دمشق، وطرد قوات الحرس الثوري الايراني في منطقة البقاع في لبنان، ووقف التعاون بين سورية وايران، ونشر قوات الجيش اللبناني على الحدود مع اسرائيل، وتفكيك التنظيم المسلح لحزب الله وازالة الصواريخ.

ولم تقتصر مطالب شارون على سورية وايران، بل يرى ان هناك ما يجب فعله في ليبيا التي يقول انها تحاول الحصول على سلاح نووي، والسعودية التي يزعم «انه لا يعرف احد الى اين تتجه سياستها»، كما قال. واضاف: «يجب ان يكون واضحا ان احتلال العراق خلق وضعا جديدا في العالم القديم».

ـ سقوط بغداد، يرى في اسرائيل، على انه سقوط للتيار القومي الذي مثله حزب البعث العربي الاشتراكي. فبعد غياب الرئيس المصري جمال عبد الناصر وسقوط حزب البعث، بات التيار القومي في ازمة شديدة في العالم العربي. وسيفتش العرب عن تيار يملأ هذا الفراغ الفكري. والتيار الذي سيكون غالبا، في حالة نجاح التجربة العراقية، هو تيار الاهتمام بالمصلحة المحلية لكل دولة عربية بذاتها لتنظر الى قضاياها الداخلية وتسعى الى تعزيز النمو الاقتصادي المحلي. ويتوقع الخبراء الاسرائيليون ان تشهد الجامعة العربية تفسخات جديدة، قد تبدأ بليبيا وتتسع اكثر.

وتريد اسرائيل في هذا المضمار ان ترى العراق دولة ذات حكم خاضع لتأثير الغرب بشكل مباشر، من حيث التعددية السياسية.

هذا كله، يضاف الى ما تريده اسرائيل من تأثيرات على القضية الفلسطينية، يعتبر دراسة اولية في تل ابيب حول الحرب ونتائجها، ويلاحظ فيها انه على الرغم من اعطاء سورية قسطا وافرا من التفكير، فان الاسرائيليين لا يذكرون البتة موضوع السلام معها ولا يتطرقون لكونهم يحتلون جزءا من اراضيها (مرتفعات الجولان)، ولم يكن ذلك صدفة. فهم يتركون هذا الموضوع وغيره من المستلزمات الاسرائيلية تجاه عملية السلام جانبا، لانهم يرون ان عصر ما بعد العراق هو عصر القبض لا عصر الدفع. عصر حسابات القوة وتوزيع الغنائم، كما حصل بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية، لا عصر استعادة الحقوق.