النجف تسعى لاستعادة موقعها الذي خسرته لمدينة قم

اغتيال الخوئي أول مؤشر على تفجر الصراع على المرجعية الشيعية

TT

جاء اغتيال عبد المجيد الخوئي، رجل الدين الشيعي البارز على أيدي حشد من الغاضبين الذين سحبوا جثمانه في شوارع مدينة النجف اواخر الاسبوع الماضي، مؤشرا على الصراعات المذهبية التي قد تتفجر في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين. ففي غياب نظام قمعي قد يشعر كبار رجال الدين الشيعة بأن لديهم القدرة على تحدي سلطة النخبة الدينية الحاكمة في إيران لتنتزع النجف من قم الايرانية مكانتها الدينية لدى شيعة العالم.

وقبل مقتله في النجف، كان عبد المجيد الخوئي قد أثار جدلا في أوساط 170 مليون شيعي ينتشرون في أنحاء العالم، بسبب تصريحاته المؤيدة للتدخل العسكري الاميركي في العراق. وليس واضحا حتى الآن ما إذا كان الخوئي قد قتل خلال محاولته تحقيق المصالحة بين شيعة العراق، أو سعيه لفرض سلطته بدعم من الجيش الأميركي. اذ أشارت التقارير الأولية إلى أنه كان يريد المصالحة مع رجل دين آخر (مقتدى الصدر) تمكن من فرض سلطته على مسجد الإمام علي خلال عهد صدام. لكن الروايات المتناقضة حول وفاته ومبادئه تجسد اختلافا عميقا بشأن الخلط القابل للاشتعال بين الدين والسياسة. وهناك رؤى متعارضة لجوهر معتقدات الشيعة. إذ يتساءل البعض عن الدور الذي يمكن لرجال الدين من زعماء الشيعة القيام به، فهل يتوجب عليهم البقاء في حوزاتهم، والاكتفاء بأداء دورهم الديني؟ أم أن عليهم اتباع التقليد الذي أرساه آية الله الخميني في ايران وتبني زمام العمل السياسي؟

وتحمل محصلة هذا الجدل في طياتها على المدى الطويل عواقب تشمل أتباع المذهب الشيعي من لبنان إلى باكستان، وتشمل أيضا مستقبل كل من العراق وإيران. ففي إيران، قد يؤدي تنوع التفسير المذهبي لمبادئ الشيعة إلى تعزيز فرص حركة الإصلاح التي ترغب في تحويل البلاد من حكم رجال الدين ، إلى ديمقراطية إسلامية. وتحقيق تقدم في هذا المضمار قد يؤدي إلى تعديل سياسات إيران الثورية.

ومع نهاية مايزيد على عقدين من حكم صدام، فان من المرجح أن تبرز مدينة النجف كمركز رئيسي لنشر تعاليم المذهب الشيعي. ففي ظل نظام حكم صدام باتت النجف، التي ظلت لما يقرب من الف عام المركز الروحي للشيعة، في المرتبة الثانية بعد مدينة قم الإيرانية التي برزت مكانتها فقط خلال القرن الماضي. أما الآن وقد تخلصت من قبضة صدام فإن النجف قد تنافس قم مرة أخرى في الحوزات الدينية وفي المرجعيات وبالتالي في الزعامة الروحية لشيعة العالم. وكان كبار رجال الدين من شيعة العراق قد تعرضوا لضغوط سياسية خلال عهد صدام، حتى أن الحوزات الدينية في النجف فقدت مكانتها لأن علماء الشيعة وجدوا في قم مركزا أفضل لمواصلة علومهم.

وكانت الثورة الإيرانية في عام 1979 قد منحت البلاد صلاحية أكبر في أوساط شيعة العالم، وساهمت في تهميش مكانة النجف. وإذا ما تمت مناقشات دينية معلنة في النجف، فإنها «بالتأكيد ستطال مشروعية السلطة المطلقة لرجال الدين»، كما قال أحمد منتظري، نجل رجل الدين الإيراني البارز آية الله حسين علي منتظري، أحد المرشحين لخلافة الخميني، والذي عاش لسنوات قيد الإقامة الجبرية في مدينة قم حتى الإفراج عنه قبل ثلاثة أشهر.

وقال عبد الأمير قبلان، نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى في لبنان: «إذا ما حدث تغيير في العراق، فإن الحوزة ستعود إلى النجف، وسيعود لأغلبية العراق من الشيعة مجدهم السابق. وستظل النجف دائما رمزا ومصدرا وملجأ لعلماء الدين». يذكر ان معظم شيعة العراق البالغ عددهم 14 مليونا يتبعون آية الله العظمى علي محمد السيستاني، الوريث الروحي لآية الله أبو القاسم الخوئي، الذي كان الزعيم الديني الأوحد لهم طوال ما يقرب من أربعة عقود ووالد عبد المجيد الخوئي الذي اغتيل اخيرا. وكان السيستاني قد تبنى نهج ان من حق الشيعة اختيار زعمائهم الدينيين. وقال إبراهيم حمودي، العضو البارز في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وهي جماعة عراقية شيعية معارضة تتمركز في إيران: «لم يكن السيستاني ليتدخل في الأمور السياسية».

لكن احتمال بروز تحد من النجف يتزعمه زعيم شيعي بارز ومحترم كالسيستاني يثير قلق طهران. ذلك ان إيران سعت لنشر رسالتها المتعلقة بإلإسلام الثوري من خلال شيعة العالم بثقل روحي من مدينة قم، حققته عقب ثورة عام .1979 ولقد ظل النفوذ المعنوي لجمهورية إيران الإسلامية حيويا بالنسبة لأهدافها السياسية، ولبلوغها أماكن كلبنان. فعندما أسس رجال دين مقربون من الخميني «حزب الله» خلال أوائل الثمانينات، التزم مقاتلو الحزب اللبنانيين بالولاء الديني للخميني. لكن وفاته في عام 1989، وتولي آية الله علي خامنئي، الذي يعتبره البعض معتدلا، مقاليد الأمور خلفا للخميني، أدت إلى تضاؤل النفوذ الروحي لإيران. وقال محمد حسين فضل الله، الزعيم الشيعي البارز في لبنان «إذا ما توفرت الحرية في العراق، فإن العديد سيذهبون إلى النجف. وستتراجع مكانة قم العلمية. ذلك أن النجف كانت دائما تتمتع بالمكانة الروحية الأعلى».

ومن أجل المحافظة على مكانة قم الدينية، سعت إيران لبسط نفوذها على مرجعية الشيعة في المنطقة. ومع بداية حرب العراق، كانت إيران تخشى ان يستغل زعماء شيعة العراق مكانتهم الروحية لإضفاء شرعية على حرب أميركا من أجل اطاحة صدام. ووفقا لمصادر إيرانية وعراقية فإن المرجعية الدينية في إيران دعت لعقد اجتماع في قم ضم زعماء العراق الدينيين الذين يعيشون في المنفى، وأقنعتهم بإصدار بيانات تعارض التحالف الذي تزعمته الولايات المتحدة. وقال نزار حمزة، المحاضر في الجامعة الأميركية ببيروت والمتخصص في الحركات الإسلامية: «سيحث خامنئي دوائره على اختراق النجف».

على ان تجربة الخميني الخاصة بالربط بين الدين وشؤون الدولة لم تعد تحظى بالشعبية اللازمة في إيران، وهو ما دفع الدوائر الدينية لتحريم خوض نقاش معلن بهذا الخصوص. ولسنوات عدة، شنت الجمهورية الإسلامية حربا هادئة ضد علماء الدين المتمردين، فسجنت بعضهم وفرضت على أولئك الذين انتقدوا السلطة المطلقة للمرجع الأعلى، الإقامة الجبرية. فالعديد ممن يحملون مرتبة آية الله العظمى في مدينة قم يعارضون نسق الخميني وما نتج عنه من دولة مستبدة، لكنهم فضلوا الانسحاب الصامت من الحياة السياسية لتجنب تفجر المواجهة مع النظام الحاكم.

ويقول محسن قاديفار، المفكر الشيعي البارز الذي أمضى 18 شهرا في السجن لانتقاده نظام الحكم في إيران: «قد يذهب رجال الدين، الذين لديهم وجهات نظر ولا يمكنهم طرحها علنا في إيران، إلى النجف، حيث قد تتسنى لهم الفرصة». أما جون كول، أستاذ التاريخ في جامعة ميتشيغن، فيقول «من الممكن أن يبرز جيل المعارضين للسلطة المطلقة من النجف، حيث سيتسنى لهم إسماع صوتهم للعالم من العراق الحر».

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»