القضية الفلسطينية ضحية لحرب العراق

TT

في الوقت الذي يطلق فيه رئيس الوزراء الاسرائيلي، ارييل شارون، التصريحات عن «حتمية» اطلاق مسيرة السلام مع الفلسطينيين من جديد خلال هذه السنة والاستعداد «لتقديم تنازلات مؤلمة جدا والتخلي عن مواقع مقدسة لليهود». تثار الشكوك حول صدق نياته في اسرائيل نفسها. واكثر الذين يشككون هم قادة حزب العمل، الذين جربوه وشاركوه في قيادة الحكم خلال السنتين الماضيتين، كوزير خارجيته السابق شيمعون بيريس، الذي قام بتسويق شارون في العالم وادخله الى البيت الابيض وقصر الاليزيه في باريس وداوننغ ستريت في لندن، وغيرها من الاماكن التي ما كان يحلم بدخولها البتة، وبنيامين بن اليعزر، الذي نفذ له الحرب الدامية ضد الفلسطينيين، وغيرهما.

فهؤلاء يرون ان شارون فنان في التملص، يقول الشيء ويفعل نقيضه.

ولكن على سبيل تشجيعه على الاندفاع في مسيرة السلام، خرج رئيس حزب العمل الجديد، عمرام متسناع بتصريح، وهو في المعارضة، يقول فيه: «شارون هو القائد الاسرائيلي الوحيد القادر على صنع السلام مع الفلسطينيين والعرب». واضاف: «لكنه حتى الآن يتكلم، ولا يفعل شيئا. اذا قرر ان يفعل، فسيجدنا الى جانبه مرة اخرى في الحكومة».

شارون من جهته، لا يخفي رغبته في ضم حزب العمل اليه، وليس من اجل الموضوع السياسي. انه يريده لكي يكون شريكا له في الخطة الاقتصادية القاسية التي فرضها عليه الاميركيون وتلقى معارضة كبيرة في اسرائيل. لكنه في الوقت الحاضر، يريد الشق الاول من تصريح متسناع، بأنه اي شارون القائد الوحيد القادر على صنع السلام. فهذا اعتراف مذهل من زعيم المعارضة. وسيستغله شارون حتى النخاع امام الفلسطينيين وامام ادارة الرئيس الاميركي جورج بوش وامام العالم اجمع. واذا كان شارون يبني خريطة جديدة للشرق الاوسط برمته، في ضوء الحرب على العراق ونتائجها، فانه وبصفته «صانع السلام الوحيد» في اسرائيل يطرح خريطة جديدة للقضية الفلسطينية مبنية على تقزيمها والتقليل من سقف المطالب المطروحة باسمها واستضعاف اصحابها اكثر من استضعاف الامة العربية بعد الحرب بكثير.

وقد بدأ تحركه في هذا المجال، اولاً بأن طمأن الخائفين من حوله بأن الولايات المتحدة لن تضغط على اسرائيل في موضوع «خريطة الطريق» ـ «فانتم لا تفهمون طبيعة العلاقات الاميركية ـ الاسرائيلية وكيف تطورت في زمني. فلم يسبق لهذه العلاقات ان كانت بهذه القوة في يوم من الايام، كما قال. ثم كشف ان خطاب الرئيس بوش يوم 24 يونيو (حزيران) 2002 تم بالتنسيق معه وكذلك «خريطة الطريق»، واوضح ان الادارة الاميركية توافق اسرائيل على ان الخطوة الاولى في العملية السلمية «يجب ان تكون بوقف العنف الفلسطيني، ولا شيء سيتحرك من دون ذلك». وعندما سئل عن الربط ما بين حرب العراق وبين هذا الموضوع، اجاب ان الحرب عززت الموقف الاسرائيلي اكثر في هذا المجال، واضاف «يكفي انها ادت الى وقف دفع المبالغ الطائلة من العراق الى عائلات الشهداء الفلسطينيين بقيمة 25 الف دولار للعائلة و10 آلاف دولار مقابل كل بيت يهدم و5000 دولار لكل جريح».

لكن الربط الحقيقي والاقوى يراه شارون في مجال آخر. فهو يرى ان الحرب على العراق فتحت الطريق امام تسوية للقضية الفلسطينية ضمن معطيات جديدة. فهناك توازن جديد في المنطقة وباتت الفرصة سانحة للتسوية وفق الشروط الاسرائيلية. بعض مساعديه قالوا له ان الرئيس بوش لن يتفرغ للموضوع الفلسطيني الآن، فهو بحاجة الى الوقت لمواجهة التحديات الجديدة في العراق وفي دول المنطقة وفي التعامل مع الاوروبيين وغيرهم من طالبي الغنائم العراقية. وبعضهم قالوا ان بوش مضطر الى ارضاء العرب، بعد ان اغضبهم باحتلاله العراق.

لكن شارون لم يوافق ايا من الطرفين. ووضع للقضية سيناريو آخر. فهو يعتقد ان هذا هو افضل وقت لتسوية النزاع الاسرائيلي ـ الفلسطيني، لان الفلسطينيين والعرب من ورائهم والاوروبيين معهم، باتوا في اضعف مكانة. وهذا هو الوقت لاحراز تسوية مختلفة عن برامج الحلول المطروحة. وهذه هي الفرصة الذهبية لشطب المقترحات الاسرائيلية التي قدمها رئيس الحكومة السابق، ايهود باراك، في كامب ديفيد سنة 2000 واخراجها من اجندة الحلول. ولهذا يطرح اولا مطلب: «ليتعلم الفلسطينيون درس العراق». ويطرح ثانيا مطلب: «التخلي عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين في بداية المفاوضات» والاعتراف باسرائيل ليس فقط كواحدة من دول الشرق الاوسط كما حصل في اتفاقيات اوسلو بل «كدولة اليهود»، اي التي لا مكان فيها لغير اليهود. ويطرح ثالثا مطلب عدم ازالة معظم المستوطنات اليهودية وضمها الى اسرائيل مقابل الاعتراف بالدولة الفلسطينية. ولهذا الغرض يبني، من الآن، جدارا فاصلا بدا كجدار امني. والآن حانت الفرصة لتحويله الى جدار حدودي.

ويقدر شارون ان بوش سيقتنع بطروحاته هذه مع الزمن. ولماذا مع الزمن؟ لأن الاشهر الاولى من المفاوضات ستنصب على المطالب الاميركية من الفلسطينيين وليس من الاسرائيليين «فالفلسطينيون مطالبون بوقف العنف، وعليهم اثبات جدارتهم. وهم مطالبون بوقف التحريض وبالقيام بالاصلاحات، حسبما يرى شارون.

وما ان تمر هذه الاشهر، حتى تبدأ المعركة الانتخابية في الولايات المتحدة. وشارون يدرك ان بوش يبني كثيرا على اصوات اليهود الاميركيين. والمنظمات اليهودية الاميركية، تبدو مجندة من الآن، للضغط على بوش. ولن يكون تجاهلها سهلا. وفي هذه الاثناء يكون بوش مشغولا في معارك اخرى مع سورية وايران وافغانستان، ولن يطيق ان يعرقل الفلسطينيون جهوده. فيفرض عليهم فرضا ما يطلبه شارون، الذي سيظل يطرح افكاره السلامية بلا كثير من العمل. وسيحاول من جهته البرهنة على صدق توجهه بواسطة معارك داخلية مع اليمين الاسرائيلي. فقد يغير تركيبة حكومته ويضم حزب العمل الى صفوفه ايضا.

معارضو شارون ومنتقدوه، وبعضهم ينتمون ايضا لليكود، يعتبرون حساباته هذه وهمية، ويقولون ان شارون رأى حتى الآن الوجه الجميل من ادارة بوش. لكنه لا يدرك ان الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة هو اصدق صورة عن راعي البقر الشرس الذي عندما يكشر عن انيابه لا يهمه ان يتحول الصديق الى عدو والعدو الى صديق. لذلك يحذرونه من هذا الشعور بالزهو، ويدعونه الى استغلال الفرصة الذهبية السانحة فعلا، ولكن بروح ايجابية، بمعنى: إحداث اصطفاف جديد للقوى السياسية في اسرائيل بحيث يسير مع حزبي العمل وشينوي وبقية القوى المعتدلة باتجاه حل يقوم على اسس «خريطة الطريق» باخلاص وبلا الاعيب. فالمعارضة الفلسطينية والعربية التي قد تعترض، تبدو اليوم في اسوأ وضع من جراء حرب العراق، «وهذه هي الفرصة التي لا تعوض»، في نظرهم.