الكويت بعد صدام: التحرر من دفع الفواتير السياسية بعد التحرر من ذكريات الاحتلال

TT

الكويت صاخبة وهادئة هذه الايام.

صاخبة بعد ان عاد الوضع الى طبيعته، ففتحت المدارس، وتحركت الاسواق، وعادت شركات الطيران الاجنبية محملة بمئات الآلاف من المقيمين الذين اختاروا ان يمضوا مرحلة الحرب في بلدانهم.

وهادئة لانها ما زالت في مرحلة التقاط الانفاس بعد مرحلة عصيبة ودقيقة على مختلف المستويات السياسية والعسكرية والاجتماعية، بدت فيها وكأنها تغرد وحدها خارج السرب العربي.

وليس سرا ان الكويت عندما وافقت على ان تكون القاعدة الامامية لحرب «تحرير العراق»، كانت تدرك حجم التحديات التي تواجهها والاستحقاقات التي تقع عليها، ولذلك سارت في هذا الخيار حتى النهاية، منطلقة من قناعتها الثابتة بان مصلحتها الحقيقية تكمن في القضاء على نظام صدام حسين الذي اثبت مرة تلو اخرى انه لن يتردد في محاولة ابتلاعها مرة اخرى اذا ما سنحت له الفرصة بذلك. ولعل مشكلة الكويت الحقيقية انها اعلنت صراحة عن موقفها ولم تستعد لمواجهة ردود الفعل المحتملة حيال هذا الموقف، وكأنها توقعت بان الدول العربية ستتفهم دوافعها وظروفها لا سيما بعد ان بدأت الصواريخ العراقية بالتساقط على الاراضي الكويتية. لكن الامور بدت عكس ذلك تماما، بل ان الكويت وجدت نفسها في معارك جانبية مع الكثير من الدول العربية التي بدت مأخوذة بانفعالات الفضائيات العربية وتصريحات وزير الاعلام العراقي محمد سعيد الصحاف.

وما كان قد بدا مجرد خلافات في وجهات النظر مع سورية ولبنان وليبيا واليمن والسودان والجامعة العربية، تحول خلال الحرب الى معارك سياسية طاحنة كان من الممكن ان تتحول الى اسوأ من ذلك لو طال القتال او صمد النظام العراقي اكثر مما صمد، واضطر النائب الاول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية الشيخ صباح الاحمد الجابر الصباح الى مواجهة الحملة التي شنتها بعض الاطراف ضد الكويت بالتأكيد على انها لا تريد الانسلاخ عن جلدها العربي، كما تحرك مسؤولون آخرون في الاتجاه نفسه، معتبرين ان باررمتر الانتماء العربي لا يقاس بمدى التأييد لنظام صدام حسين الذي يتحمل اساسا كل ما اصاب الامة من ويلات وشروخ وانقسامات. ويعود الكويتيون بالذاكرة باستمرار الى ما حدث على يد هذا النظام في عام 1990، وكيف تشكل تحالف آخر بعد 13 عاما من الاجتياح العراقي ادى ليس فقط الى سقوط نظام صدام حسين، بل ايضا اصدار شهادة وفاة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق. ولعل ذلك التطور الدراماتيكي اعطى الاسرة الحاكمة في الكويت نشوة ظلت ضامرة في الصدور طوال تلك السنوات، وكأن لسان حال آل الصباح يقول «انتزع منا الحكم ولم يصفق لرحيلنا او ضدنا كويتي واحد، اما اليوم فقد انتزع منك الحكم، وكل العراقيين هللوا، فمن يعيد اليك الكرسي».

وثمة حسنات كثيرة ستستفيد منها الكويت التي اعلن عن ولادتها من جديد يعيد اليها بريقها السياسي والاقتصادي في السبعينات والثمانينات، فالكويت التي اصبحت حرة عام 1991، باتت اليوم متحررة ايضا من كل القيود والفواتير السياسية والالتزامات المخجلة والاعباء التي ألقيت على عاتقها بعد انهيار نظام صدام حسين. وقد تكون الكويت من زاوية قيادتها السياسية والشعب اكثر أمنا على الصعيد الخارجي ،فهي الدولة الوحيدة في المنطقة التي تتمتع باتفافات امنية مع دول مجلس الامن الدائمة.

وقناعة الكويتيين، حسب مصدر كويتي رفيع المستوى، بضرورة اندلاع الحرب، مبنية على قرارات شرعية صادرة عن مجلس الامن الدولي ،رفض تنفيذها العراق باعتبار ان «شرعية الحرب لا تستمد من قبل مجلس الامن، انما ما وراء الحرب التي هدفت الى نزع اسلحة الدمار الشامل واسقاط النظام العراقي، ونحن نعتقد ان كلا الهدفين مشروع، وموقفنا اخلاقي واستراتيجي».

والتحرر الجديد للكويتيين ظهر جليا في الصحافة، التي كانت تتحدث على استحياء عن بعض الدول العربية في العقد الماضي، واصبحت الآن تجاهر في مواقفها العدائية ضدها، وبرز ذلك في افتتاحية نشرت في احدى الصحف اليومية قبل ايام، تطالب القوات الاميركية بعدم تكرار اخطاء عام 1991 في القبول بوجود صدام حسين، وان تستمر القوات الحالية في العراق في تحرير الاراضي السورية ايضا.

المصدر ذاته اعتبر ان «ما يكتب في الصحف المحلية جاء نتيجة احتقان الكويتيين من بعض الانظمة العربية التي شنت هجوما كبيرا على الكويت لتأييدها الاطاحة بنظام صدام، لكن هذا الموقف لا يمكن ان يكون مبررا رسميا او صحيحا ، فنحن نعتب، غير اننا لا نلجأ الى مثل هذه الطرق في التعامل، فالكويت تحتاج الى الاصدقاء، لا الأعداء حولها، فهذه الممارسات غير مقرة رسميا ولا نقبل بها».

الموقف الصحافي في الكويت لا يمثل رأي الحكومة، فالنائب الاول لرئيس الوزراء ووزير الخارجية الشيخ صباح الاحمد طلب في ربيع العام الماضي (بعد قمة بيروت) من رؤساء التحرير للصحف الكويتية التخفيف في لهجة التخاطب وما يكتب من عبارات قاسية تطال العراق، وعدم استخدام كلمات تسيء الى القيادة العراقية، عملا باتفاق شرف ابرم في القمة. لكن رؤساء التحرير رفضوا الامتثال للطلب الحكومي وواصلوا نعوتهم لنظام صدام. وهذا مؤشر من ان الانتقادات الحادة حاليا على بعض الدول العربية لا يمكن ان تكون للحكومة يد فيه.

وبعد احداث المنطقة اشار المصدر الى ان «الكويت ستلعب دورا في اعادة آلية عمل الجامعة العربية التي فشلت في التعامل مع الازمة، وهذا لا يعني الانسلاخ من الجامعة، بل نريد ان ندفع بالجامعة العربية نحو الافضل لتعزيز مكانتها، ونحاول ان نخلق آليات جديدة وادبيات للعمل العربي المشترك تتجاوز الحال البائسة التي تعاطتها الجامعة مع قضايانا».

واضاف المصدر «انزال في الجامعة، ونسعى الى التطوير، ونقفز الى مرحلة اكثر تفاؤلا تنسينا اخفاقاتنا». وهل تعتقدون ان التطور لن يجيء الا بتنحي امين عام الجامعة العربية؟ اجاب المصدر «ليس بالضرورة ان يتنحى عمرو موسى، نحن لا نتحدث عن اشخاص، بل آليات، لان الاشخاص زائلون، والاساس هو المنهجية السليمة ورسم خارطة واضحة المعالم، نحن نعتقد ان العمل العربي المشترك لم يستطع الارتقاء بمستوى الاحداث، ولذا فإننا مطالبون بالتطوير والتعزيز وتفعيل الآليات باسلوب مختلف».

لكن الموقفين السوري واللبناني أثارا حفيظة الكويتيين؟ اجاب المصدر قائلا: «صحيح ان موقفهما لم يكن منصفا للكويت وترك تداعيات وآثار معينة».

يبقى ان مرحلة ما بعد صدام ينظر اليها الكويتيون بحقبة عودة التحرر ووقف تسديد الفواتير السياسية لبعض الانظمة، فالشارع الكويتي الذي يمثله البرلمان سيخوض معارك اشد ضراوة مع الحكومة. وسيدعو نواب البرلمان من دون خجل حكومتهم (التي لا تزال تؤمن بعروبتها) باستخدام سياسة المنح لمن يستحق من الدول والمنع لمن يقف ضد الكويت، فالنواب يرون ان لا اخطار تحيط بالكويت بعد رحيل صدام.

ويبدو ان الازمة المقبلة ستكون مفتوحه على مصراعيها مع اليمن وسورية ولبنان واليمن وقسم غير بسيط من دول المغرب العربي. فالكويتيون من جانبهم لا يبحثون مواقع الخصومة، لكن لا يريدون تكرار ما حدث من تأييد اغلب تلك الدول الى الاحتلال العراقي.