شخصيات المرحلة: عدنان الباجه جي «شيخ» المعارضة والليبرالي في مناخ راديكالي

زهير المخ *

TT

قبل بضعة أشهر، وقف عدنان الباجه جي في مؤتمر دافوس ليؤكد أن بلاد ما بين النهرين كانت، منذ فجر التاريخ، موحدة، وأن شعبها أسّس شعوراً قوياً بالهوية عبر القرون جسّدته بكل وضوح الدولة العراقية التي انبثقت بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها.

دخل عدنان الباجه جي على خط المعارضة لنظام صدام حسين متأخراً، فأمسى «شيخاً» في نظر «شباب» سبقوه إلى هذه الحلبة. لا يقبل على المحازبين بسهولة، فواجه التشهير بشخصه بسلاح اللامبالاة. حي الضمير، يرى نفسه امتداداً لعصر ليبرالي ذهبي مضى، يحذر المطبات السياسية ولا يساوم على جوهر الأمور.

مظهره الخارجي يشي بنوع من الفتور، لكنه في حقيقته دائم اليقظة. لا ينجرف خلف الشعارات الفاقعة، ولا يطلق تصريحات ذات نبرة صاخبة، فلا يدهش ولا يبهر، بل يفضل العمل بلا ضجيج. إنه على النقيض من الشخصية الشعبية. وبالنسبة للذين يعرفونه عن كثب يؤكدون أنه تجسيد للبساطة والتواضع، ولكنه مع ذلك يخفي شخصية كارزمية.

لقد صقلت فيه تنشئته الدبلوماسية مواهب نادرة جعلته قادراً على طرح رؤية متميزة في البحث عن حل للمأزق العراقي الراهن. ويتمحور فكر الباجه جي حول ثلاثة مرتكزات: أولها، أن مستقبل العراق، في نظره، ينبغي أن يقوم على دستور علماني يتبنى الديمقراطية كمنهج عمل ويقره برلمان عراقي منتخب، وليس على أساس تقسيم العراقيين بناء على أصولهم الطائفية أو الإثنية (القومية); وثانيها، تشكيل حكومة انتقالية تتمتع بصلاحيات تشريعية وتنفيذية; وآخرها، تفعيل دور ما للأمم المتحدة للإشراف على استكمال شروط العملية الانتقالية من دون المرور بولادة قد تكون عسيرة.

ولد عدنان الباجه جي في بغداد في الرابع عشر من مايو (أيار) 1923 لأسرة دخلت السياسة من بابها العريض، بل كان العديد من أقطابها متغلغلاً في بنى الدولة الفيصلية. وكانت هذه الأسرة، كبقية الأسر العراقية الممثلة لهذا العهد، تحرص على تعليم أبنائها وتهيئتهم لشغل مواقع في سدة الحكم بناء على عنصر الكفاءة الذي كان متبعاً بصرامة لافتة للانتباه عند شغل المناصب الحكومية.

ولم يكن مستغرباً والحال هذه أن ينتسب «الفتى» عدنان للمدرسة الأميركية ببغداد لتلقي التعليم الابتدائي فيها، وليتسلح بالضرورة بلغة إنجليزية، وهو مازال غضاً، كي تنفتح أمامه آفاق التعليم المقبلة بسهولة ويسر. هذه المرحلة مهدت لذويه تسجيله في العام 1934 بثانوية «فكتوريا كوليج» في الإسكندرية بمصر التي كانت أبوابها مفتوحة لاستقبال «أبناء» الذوات الذين تعدهم إعداداً متيناً كي يكون لهم ذات يوم شأن في مستقبل بلادهم.

في العام 1940 انتسب عدنان الباجه جي للدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت في اختصاص كان يستهويه دائماً: العلوم السياسية والتاريخ، وهو الاختصاص الذي فتح أمامه، بعد تخرجه في العام 1943، عالم السلك الدبلوماسي العراقي. وبالفعل، ففي العام 1945 تمّ تعيينه ملحقاً وسكرتيراً ثالثاً في السفارة العراقية في واشنطن. كانت هذه الفترة بالنسبة إليه خصبة إلى حد كبير، فمن جهة أطل عدنان على واقع العمل الدبلوماسي ليس كشأن أكاديمي معزول عن واقع الحياة العملية فرأى بأم عينه خبايا صنع القرارات الدولية واستوعب، بصورة مبكرة، مفاهيم موازين القوى الدولية التي تتحكم في مسار السياسة الدولية، فصار يفكر بشمولية ويربط الجزئيات بالخيارات الكبرى، ويعيد كل نزاع إلى موقعه الشامل. ولكنه، من جهة أخرى، استغل فترة وجوده في العاصمة الأميركية كي ينتسب إلى جامعة جورج تاون للحصول على درجة الدكتوراه في الاختصاص ذاته في العام 1949.

وفي هذه السنة، تمّ تعيينه قنصلا للعراق في مدينة الإسكندرية في مصر، وهي المدينة التي ألفها في فترة دراسته الثانوية، وعاصر بوادر التململ من نظام الملك فاروق التي عبرت عن نفسها في ما بعد بمجيء الجيش إلى سدة السلطة بمصر. ولكن قبل ذلك، انتقل عدنان إلى وزارة الخارجية العراقية في بغداد كي يترأس قسم الأمم المتحدة في أروقتها، وهو القسم الذي أسهم ذات مرة في صياغة ديباجة المنظمة الدولية نفسها.

في العام 1953 كان على عدنان الباجه جي شد الرحال مرة أخرى إلى واشنطن كي يتسلم موقع السكرتير الأول في سفارة بلاده هناك، وكان عليه في هذه الحقبة أن يشهد التحولات التي طرأت على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وهي تحولات كان لها الأثر الكبير على التطورات اللاحقة التي عصفت ببلاده وبالمنطقة برمتها.

ومهما يكن من أمر، فقد كان على عدنان أن يشدّ الرحال مرة أخرى إلى بغداد، حيث تسلّم في العام 1957 موقع مدير عام للشؤون السياسية في مجلس الوزراء العراقي، وهو الموقع الذي كان بمثابة «نقطة عبور» إلى وزارة الخارجية حيث تقلّد إدارة شؤونها. وعلى الرغم من التبدل الدراماتيكي الذي طرأ على نوعية الزعامات التي جاء بها انقلاب 14 يوليو (تموز) 1958، ظل عدنان يمارس مهامه في أروقة وزارة الخارجية التي شهدت بدورها الإطاحة بعدد كبير من الرموز التي صنفت «ثورياً» باعتبارها تمثل ما أطلق على تسميته برموز «العهد البائد». وكدبلوماسي محترف، تمّ تعيينه ممثلاً دائماً لبلاده في الأمم المتحدة في العام 1959، وهو المنصب الذي ظل محتفظاً به حتى العام 1965، وهو العام الذي جرى فيه تعيينه وزيرا للشؤون الخارجية، قبل أن يتسلم حقيبة خارجية العراق في العام 1966، ويتخلى عنها في العام 1967، ليغدو سفيراً وممثلاً لبلاده في المنظمة الدولية من جديد. بوصول البعث إلى السلطة مرة أخرى في يوليو (تموز) 1968، كان على عدنان أن يواجه تحدياً من نوع آخر. فهذه السلطة لم تعد تراعي معايير الكفاءة في اختيار رجال الدبلوماسية العراقية، بل مستوى الولاء الذي يمحضه هؤلاء الرجال لها. وفي هذه الأجواء، كان عليه أن يسلك طريقاً آخر، وهو الطريق الذي جعله يعتكف ولو لفترة من الوقت ليتخذ على ما يبدو قراراً حاسماً بالتخلي عن موقعه الوظيفي، وليهجر البلاد أيضاً باتجاه دولة الإمارات العربية التي وطأ أرضها في العام 1971 وهي لا تزال «دولة قيد التكوين». كانت الخبرة التي يتمتع بها عدنان الباجه جي كفيلة لوحدها في تبوئه مناصب عليا في دولة الإمارات، حتى يقال انه كان من بين قلائل ساعدوا في صياغة مسودة دستور الدولة الوليدة. ففي العام 1974، شغل منصب المستشار الشخصي لرئيس الدولة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وهو المنصب الذي استمر في شغله حتى العام 1993، إضافة إلى وجوده في مواقع أخرى على الهامش من بينها عضويته في مجلس إدارة شركة نفط أبو ظبي الوطنية، وعضويته في مجلس الاستثمار هناك.

وعلى الرغم من منفاه الاختياري ظلت عين الباجه جي ترنو إلى دور ما في الشأن العراقي المعارض. ولم يكن مفاجئاً لأحد بروز صورته في نوفمبر (تشرين الثاني) 1988 في واشنطن حين التقى مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، مارتن إنديك، لكنه ظل معارضاً لقانون «تحرير العراق»، الذي يسمح بنظره بمزيد من التدخل الخارجي في الشأن العراقي.

حاول عدنان أن يبرز باعتباره «التيار الوسط» في السياسة العراقية، لكنه سرعان ما انكفأ عن ممارسة هذا الدور، ليبرز بحلة جديدة حين عقد مؤتمر في لندن، قبل نحو شهرين، حضره نحو 300 مندوب أطلق عليهم صفة «الليبراليين المستقلين» الذين يشكلون «الغالبية الصامتة» في المعارضة العراقية. السؤال هو: ما هو حظ هذا التيار في النجاح في إطار بنية سياسية عراقية هي راديكالية بالغريزة؟

* أكاديمي من العراق مقيم في فيينا