الشريف علي بن الحسين: آخر رمز لعائلة تفتش عن عرش ضائع

زهير المخ *

TT

على الرغم من أنه لم يكن يحمل برنامجاً سياسياً متكاملاً، فقد غزا الساحة السياسية العراقية المعارضة وحاز مشروعية لتمثيل ألوان الطيف العراقي الواسع. منذ البداية، لم تكن تنقصه الوسائل ولم تعوزه «الشرعية» عندما قرر الشريف علي بن الحسين أن يدخل مضمار العمل السياسي المعارض لنظام صدام حسين.

يتمتع «الأمير» بسحر خفي، بحيث تمتزج في شخصه صفات التواضع والرصانة، فتكتسب الكلمات الأكثر شيوعاً كالتعددية والفيدرالية والعدالة والمساواة مصداقية جديدة ما أن ينطق بها. يتصرف بنفحة ملكية كرجل صاحب دعوة ورسالة، ويعلم أن عليه أن يكمل المشوار إلى نهايته ليلبي نداء التاريخ والوطن. فالتاج الملكي، في اعتباره، ليس عقيدة، بل خط سياسي يقوم على اعتبار أن الملك يسود ولا يحكم، وأن مظلة العراق الملكي تضم بين جناحيها التيارات السياسية كافة.

مظهره الخارجي يوحي بأيام عز غابرة، يرتدي الملابس الأنيقة دائماً، لكنه لا يتفاخر بالعظمة ولا يغدق الوعود، يخفي فكراً دائم اليقظة والحذر، فهو يخشى أن يرتكب هفوة سياسية قد تسجل عليه أو موقفاً قد ينطوي على بعض الإحراجات وهي على أي حال كثيرة، وليس في داخله وسواس السلطنة. حنينه كبير إلى الماضي الجميل، وتعلقه أكبر بالعراق الذي لم يعرفه عن كثب ولكنه مع ذلك أحبه. هذا «الشريف» بالوراثة هو سليل أسرة هاشمية مليء تاريخها بالأمجاد والمآسي في آن. لقد ترك أسلافه بصماتهم على صفحات تاريخ المنطقة، والعراق خصوصاً، لكن معظمهم انتهى به الأمر إما إلى المنفى القسري أو إلى القبر. إنه آخر رمز لعائلة تفتش عن عرش ضائع.

ومهما يكن من أمر، فقد كانت تجربة الملكية في العراق بين 1921 ـ 1958 مثالاً ناجحاً إن في السيادة أو في الحكم. فقد استطاع الملك فيصل الأول أن يجمع شعب العراق في ظل نظام عمل من ولاية عثمانية إلى دولة حديثة، فأنشأ المؤسسات القانونية وفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعمل على إرساء نظام انتخابي حر وإلى إقامة برلمان منتخب ومؤسسات تمثيلية أخرى. لم تكن هذه المهمة بالأمر اليسير، كما قد يحلو للبعض أن يعتقد، بل كانت مهمة غير مألوفة ولا سابقة لها. ففي لحظة صفاء، قال الملك فيصل الأول ان هدفه يكمن في: «أن نهذب الشعب العراقي وندربه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل شعب وتكوينه في مثل هذه الظروف، يجب أن يعلم أيضاً عظم الجهود التي يجب بذلها لإتمام هذا التشكيل وهذا التكوين».

هل يكرر التاريخ نفسه مرة أخرى؟ ليست الإجابة على كل حال سهلة، ولكن الشريف علي بن الحسين استطاع خلال فترة قياسية من الزمن أن يفرض أجندته السياسية في حلبة المعارضة السياسية العراقية، وبرزت حركة الملكية الدستورية كتيار سياسي ينشد حلاً للمأزق العراقي. وفي اعتقاده أن عودة الملكية لحكم العراق من جديد يمكن أن تكون الحل لإنقاذ البلاد، نظراً للفراغ الذي تعاني منه ساحة العمل الوطني وتشرذمها في اتجاهات عدّة. حددت حركته دور النظام الملكي بأنه دور الوسيط: «فالملك ينبغي ألا يكون حاكماً، بل يجب أن يكون قاضياً»، ردد الأمير هذه الجملة ذات مرة، وأضاف: «هذا هو برنامجنا». وبالفعل، فقد دأبت حركة الملكية الدستورية في التمسك بخط التوازن بين القوى السياسية المختلفة، على اعتبار أن الملك يسود ولا يحكم.

ولد الأمير علي بن الحسين في بغداد العام 1956 في أحضان أسرة هاشمية حاكمة. أبوه هو الشريف الحسين بن علي، وأمه الأميرة بديعة بنت الملك علي بن الحسين الأول، وهي في الوقت ذاته خالة الملك الذي توّج للتو: فيصل الثاني. ولم يكد يبلغ من العمر سوى سنتين حتى جاء انقلاب 14 يوليو (تموز) 1958 ليطيح باستمرارية دامت نحو أربعة عقود من الحكم الملكي. في هذا اليوم، كانت رائحة الدم تنتشر في عموم أجواء بغداد، بعد أن قرر الانقلابيون الجدد اجتثاث رموز ما اعتبر في الأدبيات الرائجة «العهد البائد». وفي هذا اليوم أيضاً جرت تصفية معظم أفراد العائلة الحاكمة بمن فيهم الملك نفسه والوصي على العرش الأمير عبد الإله وآخرون غيرهما.

هذه المذبحة الجماعية التي صممت لإبادة شاملة ونهائية لأفراد الطاقم الملكي أفلت منها بأعجوبة الشريف علي الذي كان بين أحضان أمه بعد أن تسللت به متخفية إلى خارج العراق. وبعد محطات عدّة مؤقتة، استقر المقام بها في لبنان الذي تشرّب الأمير فيه نزعة اهله المتأصلة في الحرية. وهناك أيضاً التحق بمقاعد الدراسة في مراحلها الابتدائية والثانوية، ليجد نفسه بعد ذلك في العاصمة البريطانية لندن التي التحق بجامعاتها ليستكمل دراساته العليا في اختصاص يبدو للوهلة الأولى بعيداً عن اهتماماته السياسية: الاقتصاد. لم يكتف الأمير بحصوله على درجة البكالوريوس في هذا الاختصاص، بل واصل دراساته العليا ليحصل على درجة الماجستير في مجال الأعمال المصرفية والاستثمار. وبرز هذه المرة كرجل أعمال بنى مستقبله بنفسه خطوة خطوة وطوّر نفسه فيه حتى كاد يطغى على اهتماماته العامة الأخرى.

لكن نجاحه المهني هذا لم يجعل منه شخصاً يدير الظهر لآلام شعبه، فأسس الحركة الملكية الدستورية كي تكون نقطة التقاء للعراقيين على اختلاف تلاوينهم في السعي نحو إقامة دولة العدل والمساواة. وفي اعتقاد الأمير أن حركته هي أفضل بوتقة لصنع دولة ولصهر شعب عصي على الانقياد.

البعض يعتقد أن الحركة الملكية الدستورية لم تكن تعبيراً عن إرادة داخلية فحسب، بل هي تعبير عن أمنيات خارجية أيضاً. وفي هذا المنحى بالتحديد يشار إلى أن مطمح بعض القوى الدولية الفاعلة الحثّ على عودة الملكية إلى العراق.

«الشريف» من جهته، لا يؤكد ولا ينفي مثل هذه التصورات، بل عمد إلى البقاء في منطقة رمادية بانتظار القادم من الأيام. وفي هذه الأثناء، برز دوره أكثر من غيره في الصورة السياسية العراقية المعارضة، كناطق رسمي باسم المؤتمر الوطني العراقي، وازدادت على نحو ملحوظ لقاءاته بمسؤولين أميركيين لمناقشة الأزمة العراقية، والبحث عن حل لها.

وقد أشار الأمير مراراً بأنه ينوي إدخال تعديلات جذرية على المؤسسات والهياكل الموروثة وفي العمق مردداً القول، ان «عراق صدام» انتهى إلى غير رجعة. والعراق الجديد يجب أن يكون بالضرورة مختلفاً عما كان.

وبغية إدارة الأزمة الراهنة، حاول الشريف علي بن الحسين المحافظة على علاقة مع الإدارة الأميركية، مع اجتناب تحويل العراق حكراً للولايات المتحدة الأميركية. إنه يعترف بأنه لا يستطيع شيئاً بدون واشنطن، ولكنه لا يستطيع أيضاً أن يعمل كل شيء معها.

هنا بالذات تكمن مخاوفه، أي أن تدير الولايات المتحدة الأميركية ظهرها للعراق، وانبثاق نظام استبدادي مرة أخرى. وفي هذا المضمار يبرز وجه الأمير الحقيقي: إنه متعلق بالحرية لشعبه.

* أكاديمي من العراق مقيم في فيينا