كولن باول: حمامة بين الصقور

TT

اختيار قائد عسكري لتولي دفة قيادة الدبلوماسية الاميركية مسألة مألوفة ولا تعتبر غريبة البتة. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية تولى جنرالان منصب وزير الخارجية في الولايات المتحدة قبل كولن باول، هما الجنرال جورج مارشال بين عامي 1947 و1949 في عهد الرئيس هاري ترومان والجنرال الكسندر هيغ بين عامي 1981 و1982 في مطلع عهد الرئيس رونالد ريغان.

الا ان كولن باول، بات عام 2000 اول اميركي اسود يشغل منصب رئيس هيئة الاركان المشتركة للقوات المسلحة الاميركية في عهد جورج بوش (الأب)، وأول اسود يشغل منصب وزير الخارجية، وذلك في عهد جورج بوش (الأبن).

ولد كولن لوثر باول في مدينة نيويورك يوم 5 ابريل (نيسان) من عام 1937 لأسرة مهاجرة من جامايكا. وكان ابوه يعمل كاتباً في احدى شركات النقل البحري بينما عملت والدته خياطة.

ترعرع باول في حي برونكس النيويوركي ذي المناطق السوداء الفقيرة في جنوب الحي، الا انه كان تلميذاً نابهاً ونشيطاً. وبعدما انهى دراسته الثانوية في احدى المدارس المحلية عام 1954 دخل جامعة مدينة نيويورك (كلية سيتي كوليدج) وتخرج فيها بشهادة بكالوريوس علوم في الجيولوجيا، وكان يساعد نفسه على تغطية مصاريفه بالعمل في متجر ألعاب.

والواقع انه في الجامعة قرر ان مستقبله يكمن في القوات المسلحة وانه لا بد له ان يصبح ضابطاً. وفعلاً حقق نجاحاً مؤزراً في معهد إعداد الضباط الاحتياطيين. وتخرج بتفوق حاملاً شارة ملازم.

وفي القوات المسلحة كانت اول فترة خدمة لباول في المانيا ـ الغربية يومذاك ـ قبل ان ينقل الى فيتنام، حيث جرح في كمين مفخخ عام 1963. وجرح لاحقاً في اواخر الستينات في حادث سقوط هليكوبتر عسكرية. وكان من نتيجة ادائه في فيتنام ان حصل على عدد من الاوسمة منها تقدير «القلب البنفسجي» و«وسام الجندي». ولكن بعد فيتنام، اتيحت له فرصة توسيع افقه وزيادة خبراته، فالتحق بجامعة جورج واشنطن، في العاصمة الاميركية واشنطن، بفضل زمالة دراسية من البيت الابيض وهناك حصل على درجة الماجستير في ادارة الاعمال.

* جمهوري... مصادفة؟

* ومع ان باول عسكري اولاً واخيراً، ولم يعرف عنه في حياته العملية اي التزام حزبي بالمعنى الدقيق، فإن تسلقه السلم السياسي جاء في عهود الادارات الجمهورية. وهو بطبيعته توافقي ومتحفظ ورصين. وهنا يجادل بعض الليبراليين الاميركيين في ان القادة الجمهوريين القلقين على نظرة السود الى حزبهم على انه حزب «ابيض» يتلقى الدعم من معاقل العنصريين البيض في ولايات الجنوب، وبالتالي تواضع نصيبه من اصوات الناخبين السود، وجدوا في باول ضالتهم الرصينة المنشودة.

وحقاً عين باول في عهد رونالد ريغان معاوناً عسكرياً خاصاً لوزير الدفاع يومذاك كاسبار واينبرغر، وكان بين مهامه الاشراف على غزو القوات الاميركية جزيرة غرينادا ـ حيث تذرعت واشنطن بمخاطر تحول الجزيرة الى قاعدة شيوعية لكوبا والاتحاد السوفياتي (السابق)، وكذلك الاشراف على الغارات الجوية التي شنت على ليبيا.

الا ان القفزة الجبارة التي كسرت التقاليد لأول مرة حصلت في عهد بوش (الأب) عندما اصبح باول اول اسود وأصغر ضابط يبلغ اعلى منصب عسكري في تاريخ الولايات المتحدة، بتعيينه رئيساً للأركان المشتركة للقوات المسلحة الاميركية. وإثر حرب تحرير الكويت عام 1991 صار كولن باول «بطلاً قومياً» اميركياً اسمه يتردد في طول البلاد وعرضها، وأخذ عدد من المعلقين يرشحونه لرئاسة الجمهورية.

الا انه تريث في الامر، وأبعد الفكرة عن رأسه مصغياً لنصائح اصدقائه المقربين وكذلك زوجته.

الا انه عاد الى المعترك السياسي بعد وصول جورج بوش (الإبن) الى البيت الابيض عام 2000، إذ اختاره بوش لمنصب وزير الخارجية فقبله.

* «حمامة» بين «الصقور»

* الا ان الحياة السياسية لـ«الوزير» باول لم تكن سهلة، خاصة انه وجد نفسه المعتدل الوحيد بين فريق كبير من «الصقور» المتشددين، سواء في البيت الابيض او وزارة الدفاع (البنتاغون) او حتى وزارته وزارة الخارجية. وثمة من يقول ان باول يعاني اليوم من لوم «الصقور» المتشددين من أمثال نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائب وزير الدفاع بول وولفويتز له لإصراره على طرح مسألة شن حرب لتغيير النظام العراقي امام مجلس الامن الدولي. والحقيقة ان طبيعة باول التوافقية كانت تملي عليه توخي اوسع قدر من التأييد لعملية بهذا الحجم، في حين كان ـ وما زال ـ المتشددون يرون ان الولايات المتحدة لن تربح شيئاً من رهن مصالحها الحيوية المباشرة بقرارات دولية، بل على العكس، ستفتح خطوات من هذا النوع عليها باب الابتزاز.

ولهذا السبب شاهد العالم، عبر مناقشات مجلس الأمن كيف تحول باول تدريجياً الى لهجة التشدد عندما فوجئ بحجم الاعتراض الدولي على مشروع الحرب ولا سيما من فرنسا والمانيا وروسيا.

بقاء باول في منصبه، حسب معظم المراقبين، لا يبدو مهدداً في الوقت الراهن، غير ان ثمة من يقول انه يستحيل لفريق الادارة ان يظل منقسماً على نفسه، كما يُستبعد ان يرضى باول لنفسه بالتهميش.

مهما يكن من أمر، وحتى اذا اختار باول ان يطوي صفحة حياته السياسية فإنه الآن رجل ثري. فمذكراته «رحلتي الاميركية» التي نشرها في كتاب عام 1995 تصدرت المبيعات في قائمة صحيفة «نيويورك تايمز»، ورفعت ثروته المقدرة الى نحو 28 مليون دولار.

اما عن عائلته، فهو متزوج منذ عام 1962، واسم زوجته ألما، وهو اب لولد وبنتين هم مايكل وليندا وآن، وجد لطفلين.