هل سقط الباتريوت في امتحان الخليج الثاني؟

في الامتحان الأول فشل في إصابة أهدافه وفي الثاني أسقط المقاتلات الصديقة

TT

لعل من اكثر الاسلحة التي اشتهرت في حربي العراق الاخيرتين هو «الباتريوت» الذي احيط بهالة كبيرة من الدعاية فاقت اداءه بكثير. وكانت الدعاية من الشدة و البريق بحيث دفعت دول اخرى مثل روسيا واسرائيل الى انتاج اسلحة مشابهة له لسببين: الاول: لترويج مبيعات اسلحتهما الى الدول النامية والثاني لتعزيز دفاعاتهما الجوية عن طريق انتاج سلاح خاص بهما يضاهي «الباتريوت» ان لم يتفوق عليه في الواقع. وكانت النتيجة ظهرو «اس ـ 300» الروسي الذي ذكرت التقارير انه افضل بكثير من «الباتريوت» و«آرو» (السهم) الذي طور بتقنيات اسرائيلية واموال اميركية والذي يدخل في نطاق اسلحة مستقبلية متطورة تختلف كثيرا عن «الباتريوت» التقليدي الذي مضت عليه اكثر من 15 سنة.

ولكن قبل كل شيء ما هو «الباتريوت» الذي احيط بكل هذه الضجة الكبيرة، خاصة بعد التهم الكثيرة عن فشله خلال هاتين الحربين: حملة «عاصفة الصحراء» عام 1991 و«الحرية للعراق» في العام الحالي.

في الواقع لقد دخل هذا الصاروخ الى الخدمة الفعلية على عجل عام 1991 ابان حرب تحرير الكويت للتصدي للطائرات والصواريخ العراقية من طراز «سكود». وقد ركبت بطاريات منه في السعودية واسرائيل تعاملت مع هذه الصواريخ ولكن بفشل كبير لم يعلن عنه حينذاك.

ومكان هذا الصاروخ في الاساس سلاح ارض ـ جو ضد الطائرات، لكن جرى تعديله على جناح السرعة لاحقا للتعامل مع الصواريخ العراقية ايضا. بحيث ينفجر رأسه الحربي على مقربة من الصواريخ المغيرة فيعدل مسارها، او يحرفها عن هدفها. لكن الدراسات التي اجريت لاحقا بينت ان 9 في المائة فقط من الصواريخ التي اطلقت على السعودية واسرائيل اصابها الباتريوت، في حين اعلنت اسرائيل انها اصابت فقط صاروخا واحدا من اصل 39 صاروخ «سكود» عراقي اطلق عليها. وهذا ما حدا بوزير الدفاع الاميركي السابق وليام كوهين للاعتراف قبل عامين بأن «الباتريوت» فشل في مهمته تماما.

ومنذ ذلك التاريخ عكفت شركة «رايثيون» للصناعات العسكرية والالكترونية والفضائية على تطوير هذا الصاروخ وانتاج نسخة جديدة منه بعدما ارغمت الجيش الاميركي على انفاق ثلاثة مليارات دولار على هذا المشروع. وكانت النتيجة صاروخا جديدا منه دعي «باك ـ 3» الذي من شأنه الاصطدام رأسا برأس مع الصواريخ المعادية وتفجيرها بدلا من الانفجار قربها وحرف مسارها. وليس من المؤكد ان كانت صواريخ «باتريوت» القديمة، او المعدلة، هي التي اصابت الطائرات الحليفة في حرب العراق الاخيرة في ما يسمى بـ«النيران الصديقة»، خاصة انه لم تسنح الفرصة للقوات الاميركية بشحن اعداد كافية من الصواريخ الجديدة قبل بدء العمليات العسكرية، رغم ان القديم والجديد منها بات يستخدم الرادار الجديد المجهز بها، الذي يتيح تعقب 100 هدف في وقت واحد والتعامل معها تسلسليا حسب درجة خطرها. ولكن سواء استخدمت صواريخ «باتريوت» القديمة، او «باك ـ 3» فما سبب اصابة طائرتين من الطائرات الحليفة، واحدة بريطانية واخرى اميركية، في الحرب الاخيرة، في حين ان الثالثة كادت ان تصاب ايضا لولا يقظة قائدها وفطنته الواسعة.

لنبدأ القصة من اولها حسب اقوال العسكريين الاميركيين. فبينما كانت القوات الاميركية تسجل تقدما وراء آخر في العراق والعسكريون يرصدون اداء اسلحتهم المتطورة، فشل سلاح واحد في مهمته وهو «الباتريوت»، كما فشل في الحرب السابقة، وان كان هذا الفشل جاء بصورة مغايرة. فقد اسقطت البطاريات المركبة في الكويت مقاتلة ـ قاذفة بريطانية من طراز «تورنيدو جي آر 4» على الحدود العراقية ـ الكويتية، وقتل طياراها. وكان ذلك صبيحة يوم 22 مارس (آذار) الماضي.

وبعد مرور يومين على الحادثة هذه اطبق رادار بطارية «باتريوت» على مقاتلة اميركية من طراز «اف 16 ـ فالكون» وهي تحلق على مسافة 70 كيلومترا جنوب النجف، استعدادا لضربها، لكن قائدها كان من السرعة والحذاقة بحيث اسرع بفارق اجزاء قليلة من الثانية باطلاق صاروخه اولا من طراز «هارم» ليركب الموجة الرادارية الموجهة اليه وينسف رادار «الباتريوت» قبل ان ينسفه الاخير هو وطائرته من الجو. لقد تصرف الطيار بسرعة لانقاذ حياته لانه لو انطلق صاروخ «الباتريوت» لكان اصاب الطائرة لا محالة. صحيح ان بعض الطيارين يتمكنون عن طريق المناورات الجوية البارعة من الافلات من الصواريخ الموجهة اليهم. لكن ليس مع «الباتريوت» السريع جدا الذي يتبع هدفه ولا ينفك عنه لا محالة حتى اللحظة الاخيرة اشبه بالهر المصمم على الامساك بفأرة.

وكان من حسن حظ طاقم بطارية «الباتريوت» هنا انهم كانوا في خنادقهم بعدما حولوا بطاريتهم للعمل اوتوماتيكيا لدى اكتشاف هدف معاد، والا لكان صاروخ الطائرة قضى عليهم جميعا.

المهم هنا ان القصة ذاتها تكررت للمرة الثالثة عندما اسقط «الباتريوت» ايضا بنيرانه الصديقة مقاتلة اميركية من طراز «اف ـ 15 هورنيت» قرب كربلاء في الثاني من ابريل الحالي وقتل طيارها الذي كان قد انطلق بها من حاملة الطائرات «كيتي هوك» في الخليج العربي.

وكان تفسير العميد فنسنت بروكس من القيادة الوسطى في قطر ان الصاروخ كان موجها ضد صاروخ عراقي ارض ـ ارض فأصاب المقاتلة الاميركية بدلا من الصاروخ، او قد يكون الصاروخ العراقي ذاته قد اصاب الطائرة.

التفسير طبعا غير مقنع، لكن المقنع ان «باتريوت» القديم عام 1991 فشل في التصدي لصواريخ «سكود» العراقية، لكنه في الحرب الاخيرة استطاع، على لسان القيادة الوسطى، التصدي لتسعة صواريخ عراقية اطلقت على الكويت وعلى القطعات الاميركية، وهي من النوع القصير المدى من طراز «الصمود 2» و«ابابيل ـ 100» لكن في المقابل ايضا تصدت لطائرات صديقة في الوقت ذاته، وهنا المشكلة.

يبدو ان العسكريين الاميركيين تنبهوا لهذه المشكلة منذ عامين، او ثلاثة، لكنهم لاسباب مجهولة رفضوا الافصاح عنها والاعتراف بها، خاصة لدى اجراء مناورة عسكرية بالمحاكاة الكومبيوترية في ولاية جورجيا الاميركية عندما اسقط «الباتريوت» عددا من الطائرات الصديقة، طبعا من دون خسائر فعلية لحسن الحظ لكونها كانت تجري على الشاشات الالكترونية بدلا من ساحات العمليات الفعلية.

ومنذ ذلك الوقت اخذ المراقبون العسكريون يتساءلون عن الاسباب. هل هو الرادار الذي قد تكون اشارته غير واضحة على صعيد بصمة الهدف التي تظهر على شاشته؟ ام ان النظام الالكتروني الخاص به الذي يميز بين الصديق والخصم لا يعمل بشكل صحيح؟

احد هؤلاء المتسائلين فيكتوريا سامسون خبيرة الصواريخ في مركز المعلومات الدفاعية، وهو مجموعة مقرها واشنطن ومهمتها رصد نشاطات البنتاغون وكل ما يصدر عنه.

الآخر العقيد رك توماس الناطق بلسان الجيش الاميركي في الكويت الذي رفض التعليق على الحوادث الاخيرة ما دام التحقيق ما زال مفتوحا، وقال ان كل ما عدا ذلك يصب في باب التكهن ليس الا.

اما الثالث فهو عسكري ايضا رفض الكشف عن اسمه مؤكدا ان ثمة عيوبا في الباتريوت لم يجر اصلاحها بعد.

وقبل ايام عقد مجلس الشيوخ الاميركي جلسة خاصة لمناقشة هذه المسألة بالذات فاستمع الى الجنرال رونالد كاديش رئيس وكالة الدفاع الصاروخي التابعة للبنتاغون التي شكلت اخيرا للدفاع عن الولايات المتحدة عن طريق شبكة صاروخية اعتراضية. المهم ان الجنرال هذا اقر ان سبب هذه الحوادث قد يكون عطلا في التصميم سواء في الطائرات التي تقع ضحية للباتريوت، او في منظومات الاخير، وخاصة النظام الذي يميز بين الصديق والعدو.

وسلط بعض العسكريين الضوء على ان الباتريوت انطلق واصاب الطائرات الحليفة في وقت لم تظهر فيه اي صواريخ عراقية مهددة قوات التحالف، او الاراضي الكويتية، بل انطلقت ضد طائرات، وقوات صديقة وليست عدوة، فما هو مبرر انطلاقها اصلا، اللهم الا اذا اعتبرت مثل هذه الطائرات الصديقة صواريخ معادية من طراز «سكود» او غيرها. وهذا شيء غير مقبول بتاتا اذا ما اخذ في الاعتبار الفارق الكبير بين سرعة الصاروخ والطائرة، وبين ارتفاع الاثنين، ومسار كل واحد منهما، اذ يستحيل الخلط بين هذين الشيئين المختلفين تماما.

والمعلوم ان جميع الطائرات الحليفة تحمل نظاما للتمييز بين العدو والصديق الذي يشبه الـ«ترانسبوندر» (المتلقي المستجيب) المستخدم في الطائرات المدنية الذي يجعل عامل الرادار في المطارات يميز بين الطائرات المختلفة المحلقة في مساراتها عن طريق ارقام خاصة تبين صوتها. ولكن في حالة الطائرات العسكرية فهي تشير الى امرين لا ثالث لهما وهما، «صديق» او «عدو».

وقد يكون هذا النظام المعقد لم يعمل في الطائرات التي سقطت ضحية «الباتريوت»، اي ان العطل كان في الطائرات وليس في الصاروخ المعترض ذاته. وهذا امر ينبغي ان يكشفه التحقيق. او ان الطائرة كانت تحلق بزاوية معينة عطلت هذا النظام واعمت بصيرة «الباتريوت» الذي انطلق من غير هدى نحو هدفه المضلل.

وهذا ما حصل تماما ابان حرب العراق الاولى عام 1991 عندما كاد «باتريوت» ان يسقط صهريجا طائرا عندما اكتشف طاقم الاول خطأهم ففجروا الصاروخ قبل وصوله الى هدفه، رغم الفارق الكبير بين حجم الصهريج الطائر والصاروخ المعادي، وبين سرعتيهما وارتفاعهما ايضا.وتبين في ما بعد ان الصهريج الطائر قام بمناورة جعلت الامر يلتبس على الباتريوت، ولو لدقائق قليلة.

في هذا الوقت تصب «رايثيون» ووزارة الدفاع الاميركية جام غضبهما على المحللين العسكريين ووسائل الاعلام لتسليطها الضوء بهذه الكثافة على «الباتريوت» زاعمتين ان «النيران الصديقة» تحصيل حاصل لأي حرب، وانه لا يوجد اي نظام لا يخلو من عيب ولو بسيط. «ثم لننتظر التحقيق الفني لوضع الاصبع على الجرح»، كما يقول البنتاغون، الذي نتمنى الا يتسع.