عملية إعدام ضابط أمن عراقي تعكس مأساة الأهوار

TT

كانت فرصتهم للانتقام، وقد استغلها رجال قبيلة وافي. فقد القوا القبض وحققوا مع رجل عرفوه باسم عمر، وهو ضابط في اجهزة امن الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين. ثم اصطف ما يقرب من 12 رجلاً من القبيلة امامه برشاشاتهم، وأردوه قتيلاً.

وقال صباح وافي «لقد اعدمناه. وحتى عندما كنا نطلق الرصاص عليه كان يريد صدام والنظام. كان يقول ان صدام سيبقى، وان الحكومة ستبقى، وسيقتلونكم».

وقد كشف اطلاق الرصاص هذا عن حكاية اخرى في دائرة واسعة من العنف والانتقام من جانب عرب الاهوار ممن يعيشون في هذه القرية الجرداء والمعزولة، التي تقع على بعد 45 ميلاً شمال مدينة البصرة. وقد هجرت هذه القبيلة التي يبلغ عدد افرادها حوالي الألف، وبصورة قسرية، من الاهوار الواقعة بين نهري دجلة والفرات، والتي كانت موطن اسلافهم، وعبر الاعوام اعتقل وعذب وأعدم ونفي الكثير منهم على أيدي رجال صدام.

وخلال سنوات ظلوا في حالة حرب عصابات شبه دائمة ضد الحكومة. ولهذا عندما جاءت اربع عربات عسكرية عراقية الى قرية شنافة قبل 10 ايام، اطلقوا عليها النيران، وقتلوا تسعة من الجنود وضباط الامن، والقوا القبض على عمر. وكضابط امن كان عمر يأتي الى القرية، بانتظام، ليعتقل الرجال، وبينهم صالح شقيق صباح، الذي لم يعد الى قريته ابداً.

لقد فقد آل وافي وبقية عرب الاهوار اقرباءهم وبيوتهم واسلوب حياتهم في الاهوار. وقال علي حجي وافي، احد زعماء القبيلة «هناك الآلاف من امثال عمر. لقد اعتادوا على شنقنا، والاستيلاء على بيوتنا. لقد اعتادوا على المجيء وقتل رجالنا».

ولا توفر قصتهم غير لمحة من الدمار الذي مارسته حكومة صدام في اهوار جنوب العراق التي كانت تتميز بغناها حتى عام 1991، حيث كان ما يزال 250 الفا من عرب الاهوار، او «المعدان»، يعيشون في الشبكة الواسعة من الاهوار، وهم جزء من ثقافة فريدة وجدت منذ خمسة آلاف سنة.

اما في الوقت الحالي فيعتقد ان عدد عرب الاهوار، ومعظمهم من الشيعة، يبلغ حوالي 40 الفاً، بعد ان قامت الحكومة العراقية، على نحو دائم، بتجفيف اهوارهم، وتهجيرهم قسراً، والشروع بحملة اضطهاد سياسي.

وقد تعرض عرب الاهوار، الذين اتهموا بايواء الفارين من الجيش، والمتمردين الشيعة في ممراتهم المائية، الى هجوم وحشي شديد من جانب الحكومة بعد انتفاضة الشيعة عام 1991 في اعقاب حرب الخليج الثانية.

ومن الناحية الفعلية باتت الاهوار، الآن، ارضاً قاحلة، ببقع من الماء ومجموعة من القصب الطويل المنتصب على جانب الطريق، للتذكير بما كان قائما في السابق. وقد وصفها برنامج البيئة التابع للامم المتحدة عام 2001 باعتبارها «احدى الكوارث البيئية الكبرى في العالم»، وقدر الخبراء ان ما يصل الى 90 في المائة من مساحة من الاهوار تبلغ 7700 ميل مربع لم تعد قائمة بسب تجفيفها.

وقالت منظمة «هيومان رايتس ووتش» في تقرير لها في ديسمبر (كانون الاول) الماضي ان ما حدث لعرب الاهوار كان «جريمة ضد الانسانية، ويحتاج الى محكمة دولية للتحقيق في ما اذا كانت اعمال الابادة الجماعية قد ارتكبت على يد حكومة صدام هنا».

ولكن الى ان سقطت الحكومة العراقية الاسبوع الماضي، لم تتوفر للمراقبين المستقلين فرصة تسجيل شهادات عرب الاهوار اولئك، ممن بقوا في ارضهم المخربة، وقد اعتمدوا على تقارير عن اولئك الذين فروا من البلاد، وعلى عرب الاهوار الذين اجرى صحافيون لقاءات معهم في ظل رقابة رجال السلطة.

اما في الوقت الحالي فقد باتوا قادرين على الحديث صراحة في شنافة، ويمكنهم التعبر عن آرائهم بصوت عال. لقد تحدثوا عن بلدوزرات الحكومة التي جاءت لتدمير 18 بيتا في القرية العام الماضي، وعن السجون التي قضى كثير منهم فيها سنوات عدة، وعن عمليات الاعدام التي تعرض لها اشقاؤهم وابناؤهم وآباؤهم. كما تذكروا، ايضا، الاهوار حيث نشأ الشيخ كاظم وافي، زعيم القبيلة البالغ 72 عاماً، وحيث كانوا يقضون ايامهم في القوارب يصيدون الاسماك والطيور. اما الآن، فان اهوار القبيلة، التي كانت تقع على بعد يقل عن اربعة اميال، لم تعد قائمة. وقال الشيخ كاظم انه «لم تعد هناك اهوار. فقد اغلقها صدام جميعاً. الآن لا نملك ماء ولا ارضاً».

وتقع قريتهم، التي تفتقر الى الماء والكهرباء، على الطريق العام رقم 6، وهو احد الطرق الرئيسية التي تربط البصرة شمالاً الى بغداد. انها مكان قاحل لاطفال يبدون مرضى، حيث طفلة صغيرة نصف عارية تتحرك مترنحة باتجاه سيارة، وقد غطى وجهها قناع غاز. ولا يوجد عمل للرجال.

وفي داخل غرفة استقبال الشيخ كاظم كانت الواح النوافذ مكسرة او محطمة. وقد ازدحم عدد من زعماء القبيلة على نحو فوضي في الغرفة الضيقة، الفاسدة الهواء، ليروا الكيفية التي كانت حياتهم عليها في ظل حكم صدام. وقد ظهرت في اجزاء القصص الفردية والتجربة الجماعية صورة قبيلة وأسلوب حياة تحت حصار الحكومة العراقية.

وعندما سئلوا عن عدد من كانوا منهم في السجن رفع 15 من بين حوالي 30 رجلاً في الغرفة اياديهم. ورفع 11 أياديهم عندما سئلوا عن مصرع اقربائهم المقربين من الرجال. وقال تسعة ان بيوتهم في القرية دمرت في السنوات الاخيرة. ولم يستطع احد تقديم معلومات شاملة عن عدد رجال القبيلة الذين قتلوا او فقدوا خلال حكم صدام الذي دام ما يزيد على ثلاثة عقود، على الرغم من ان علي وافي يقدر العدد بحوالي 60 شخصاً.

وقال رجال وافي، وهم مسلمون شيعة، انهم حرموا من ممارسة شعائرهم الدينية حتى يوم الجمعة الماضي، عندما كان امامهم حراً في موعظته للمرة الاولى منذ سنوات، والقى خطبة «شكر فيها الله وقوات التحالف لمنحنا الحرية» حسب تعبير الشيخ كاظم.

وبالنسبة لصباح وافي كان القاء القبض على ضابط الامن عمر في الشهر الحالي فرصة لمجابهة واحد من كثيرين ممن اضطهدوا القبيلة.

وقال صباح ان شقيقه البالغ 16 عاما، واسمه صالح، قد اعتقل عام 1998 على يد عمر ثم جرى اعدامه. والقي القبض على صباح من جانب عمر في تلك السنة ذاتها، وقد تذكر انه اخذ الى بناية للامن في البصرة وتعرض للتعذيب على يد عمر ورجل آخر. وقال «لقد عذبوني بالكهرباء واعتادوا على ان يسخنوا قطعة معدنية ويرغموني على الجلوس عليها. وعندما كانوا يعذبونني كانوا يستمتعون بوقتهم ويتناولون الكحول».

وسرعان ما ميز آل وافي الضابط عمر عندما جاءت العربات العسكرية العراقية الى القرية قبل 10 ايام. وقد اتهمهم الجنود بالتعاون مع القوات الاميركية والبريطانية، كما قالوا، واضافوا «انهم جاءوا الينا وبدأوا اطلاق النيران علينا، ولهذا اطلقنا النيران عليهم.

وعندما القي القبض على عمر، اجرى التحقيق معه، بالطريقة التي كان قد اجرى بها التحقيق مع بعضهم خلال سنوات. وقد ابلغهم ان قوات الامن كانت هناك لتهيئة الطريق الرئيسي لهرب علي حسن المجيد، ابن عم صدام حسين، الذي كلف بقيادة الدفاع عن جنوب العراق ضد الاميركيين، ثم قتل.

وقال صباح وافي ان «عمر قتل احد افراد عائلتنا. واذا ما رأينا احداً قتل واحداً منا، والقينا القبض عليه، فسنقتله».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»