انتفاضة مارس 1991: «الخلاص» الذي تطلب 12 عاما من القمع والمعاناة

TT

«لن نتخلى عنكم هذه المرة»، بهذه الكلمات ردد توني بلير رئيس الوزراء البريطاني، في 25 مارس (آذار) الماضي، صدى الوقيعة التي تعرض لها المنتفضون ضد النظام العراقي عام 1991، حين تخلت عنهم قوات التحالف التي اخرجت القوات العراقية من الكويت آنذاك، لتقدمهم طعما لاعمال القتل والانتقام التي ردت بها السلطة العراقية على اولئك الذين تجرأوا بالثورة عليها.

في البدء، كان الجنود العائدون من الجبهة هم اول المنتفضين ضد النظام. فبعد ان تفككت وحداتهم، وبعد ان تركوا في العراء لأيام طويلة، ليواجهوا موتا شبه حتمي، اذا بقوا في خنادقهم، او حتى اذا انسحبوا، فقد التجأوا الى كل وسيلة ممكنة من اجل العودة الى مدنهم وقراهم، حاملين معهم غضب حرب لم تورثهم الا الدمار، في ظل قيادة عسكرية تعرف كيف تنجو بمفردها، تحت أي ظرف.

كان جنود الوحدات المنسحبة من الكويت هم اول من بدأ تقليد اطلاق النار على اللوحات العريضة التي تحمل صور الرئيس صدام حسين. وأسقطوا بعضها، وتمكنوا، في الطريق الى مدن الجنوب العراقي، ان يستقطبوا تعاطف الآلاف من جمهور مفجوع بالدمار الذي نجم عن حرب غير مبررة ومدفوعة بأطماع شخصية لاركان النظام العراقي.

بدأت الانتفاضة في البصرة، التي استقبلت اول الجنود المنسحبين، ولكنها سرعان ما امتدت لتشمل مدن العمارة والناصرية والسماوة والنجف وكربلاء والكوت، في الجنوب، بينما تمكن الاكراد من تولي السيطرة على مدن السليمانية واربيل ودهوك في الشمال.

لم تكن خسارة الحرب وحدها هي القوة الدافعة للانتفاضة. العامل المساعد الاهم كان انهيار اجهزة القمع التي يعتمد عليها النظام. اذ لم يعد في وسع الجيش مواجهة الشعب. بل إن قسماً كبيراً منه انضم الى الجماهير الغاضبة واصطف مع الشعب ضد السلطة التي اسرعت لاعلان «انتصارها».

عين الرئيس صدام ابن عمه علي حسن المجيد وزيراً للداخلية خلفاً لسمير عبد الوهاب لكي يتمكن من اعادة السيطرة على المدن التي سيطر الشعب عليها. والمعروف عن المجيد انه قادر على البطش بجميع الوسائل المتاحة لديه. وكان استعمل الاسلحة الكيماوية ضد الاكراد في كردستان العراق عام 1988 مرتين الاولى في مارس (اذار) ضد سكان حلبجة وقتل اكثر من 5000 مواطن واستخدمها فيما بعد ضد الاكراد حينما توقفت الحرب العراقية الايرانية في 25 اغسطس (آب) 1988. ورغم خبرة المجيد في قمع المقاومة الوطنية الكويتية خلال اشهر خضوع الكويت للسلطة العراقية، فانه فشل في السيطرة على الانتفاضة رغم استخدامه لاسلوب الارض المحروقة.

حققت الانتفاضة خلال الاسبوعين الاولين انجازين مهمين. الاول، استطاعت ان تتحول الى ثورة منظمة نسبياً. والثاني، هو قدرتها على الاتساع. ويقول شهود عيان انها بدأت في محلة في غرب مدينة البصرة وانتشرت بسرعة في محافظة البصرة قبل ان تنتشر الى مدن الجنوب والوسط وبعدها اتسعت نحو الشمال العراقي.

خاض المنتفضون معارك ضارية بمختلف الاسلحة التي اتيحت لهم، وتمكنوا من الاستيلاء على اسلحة وحدات عسكرية لاذت بالفرار خلال المواجهات. وشهدت البصرة، معارك عنيفة اسفرت عن احراق 10 دبابات، والاستيلاء على 30 دبابة أخرى سالمة، وتم إحكام السيطرة على محافظة البصرة. وقد حاولت القوات الموالية للنظام القيام بهجوم جديد على البصرة على المحور الشرقي، مستخدمة 12 دبابة، وتم لقوات الانتفاضة دحر الهجوم، بعد تدمير 4 دبابات والاستيلاء على الدبابات الثماني الأخرى.

أما في كردستان، فقد سيطرت قوات الانتفاضة على مدينتي أربيل وكركوك، ومناطق واسعة من كردستان، واستولت على كميات كبيرة من الأسلحة والمعدات، ووقعت في الأسر وحدات كبيرة من قوات الجيش.

واستطاعت قوى الانتفاضة السيطرة على مدينة الحلة، بعد قتال شرس مع قوى النظام، وجرى اعتقال جميع المسؤولين الحكوميين فيها. وقامت القوات الموالية للنظام بمحاولة لاستعادة كربلاء، والعمارة، بعد أن مهدت للهجوم بقصف مدفعي، واستخدمت الطائرات المروحية في قصف المدينتين كذلك.

في 13 مارس (آذار) أعلنت القيادة السياسية للجبهة الكردستانية سيطرتها التامة على كافة منطقة كردستان، وأعلنت حل المجلسين، التشريعي والتنفيذي، اللذين أقامهما النظام العراقي، وتشكيل إدارة مؤقتة، لحين إجراء انتخابات عامة في كردستان. وفي اليوم التالي أحكمت قوات الانتفاضة سيطرتها على كافة محافظة العمارة، وقتل محافظها، وجرى تعيين محافظ جديد لها من قبل قوى الانتفاضة. وطالت الاشتباكات المسلحة مدن المحمودية، القريبة من بغداد، والمسيب واليوسفية وسدة الهندية والقاسم والحمزة. وتمكنت قوات الانتفاضة من السيطرة على كافة مراكز الشرطة وأسلحتها، وتم إطلاق السجناء الوطنيين من سجونها. وخلال معارك الحلة، قتل كل من المحافظ عدنان حسين ومدير الشرطة جبر محمد غريب، وأمين سر حزب البعث لفرع الحلة طه ياسين، ومدير أمن الحلة المقدم مزعل.

وفي الديوانية تمكنت قوات الانتفاضة من السيطرة التامة على المدينة، وانضم محافظ المدينة إلى قوات الانتفاضة، فيما قتل أمين سر حزب السلطة خالد عبد الله التكريتي، كما سيطرت قوات الانتفاضة على مدينة النعمانية، وسيطرت على مراكز الشرطة، ودوائر الأمن فيها ، خلال ساعات رغم استخدام قوات النظام طائرات الهليكوبتر ضد قوات الانتفاضة، التي تمكنت من إسقاط 3 طائرات منها. كما دارت معارك شرسة بين قوات الانتفاضة والقوات الحكومية في الكوت. وتعرضت مدينتا كربلاء والنجف يوم 14 مارس (آذار) إلى قصف مدفعي، وبالدبابات، طال الأحياء السكنية، ومراقد الأئمة، التي أصيبت بإصابات مباشرة، وفتحت ثقوب في قبابها.

وبالنظر الى افتقار الانتفاضة الى قوة سياسية منظمة، فقد بدأت بالانحسار بعد منتصف مارس (آذار)، حيث سمحت الولايات المتحدة وحليفاتها لقوات الحرس الجمهوري بالعبور، كما سمحت للنظام العراقي باستخدام طائرات الهليكوبتر، وحتى الطائرات الحربية ذات الأجنحة الثابتة، وصواريخ ارض ـ ارض، وسائر الأسلحة الأخرى، لقمع الانتفاضة، ووقفت قوات التحالف تراقب قوات النظام العراقي وهي توجه كل أسلحتها نحو الشعب العراقي الذي انتفض على حكومته، وتخلت الولايات المتحدة عن كل دعواتها لإسقاط النظام، بل تغاضت، ومكنته من شن هجومه على قوى الانتفاضة، وعلى ضرب المدن بكل ما توفر له من الأسلحة.

كان سقوط النظام متاحا في ذلك الوقت، وكان قرار وحيد يحول دون استخدام النظام لاسلحته ضد مواطنيه كافيا لتحويل الهزيمة العسكرية الى نصر مزدوج لقوات التحالف وللشعب العراقي في آن واحد، نصر يسمح بتحرير الكويت من الغزو وتخليص العراق من نظام صدام. ولكن الأمر تطلب 12 عاما أخرى من المعاناة، قبل ان يسقط نظام صدام في حرب جديدة قادتها اميركا وبريطانيا في ظل معارضة دولية واسعة.