عراقيون يتوقعون عقبات أمام مهمة الحاكم المدني الأميركي غارنر ويقولون إنه وصل بعد أن تشكلت مناطق نفوذ دينية وسياسية

TT

الجنرال الاميركي المتقاعد جاي غارنر، المكلف إدارة عراق ما بعد سقوط نظام صدام حسين، وصل اول من امس الى بغداد وأجرى جولة في هذه المدينة التي تتوق الى المساعدة الاميركية لكنها تخشى الهيمنة الاميركية. وصل غارنر لتسلم مهامه في العاصمة العراقية وهو محاط بجنود مسلحين يتحركون معه في كل مكان، ومن المنتظر ان يباشر عمله بالإشراف على خطة اميركية طموحة لإعادة بناء البنى التحتية وإعادة صياغة حكومة العراق وإصلاح النظام الاقتصادي والتعليمي والسياسي.

وصل غارنر الى العراق وسط فراغ عين خلاله الشيعة محافظين ورؤساء بلديات ومشرفين على قوات امن وحراسة. ويعتقد مراقبون ان لدى العراقيين آمالا وتطلعات كبيرة لكنهم لا يثقون كثيرا في عسكري اميركي سابق ويشعرون بالقلق ازاء احتمال حكم البلاد بواسطة نظام موال للولايات المتحدة وازداد هذا القلق يوم اول من امس عندما خرج عدة آلاف الى الشوارع وسط العاصمة بغداد احتجاجا على اعتقال رجل الدين الشيعي محمد الفرطوسي الذي حاولت حوزته تعزيز سيطرتها على المستشفيات والمؤسسات المدنية الاخرى في العاصمة.

ويعتقد محللون ان وصول غارنر الى بغداد يعتبر حدثا مهما في حملة الولايات المتحدة لفترة ما بعد الحرب في العراق لإعادة بناء وصياغة العراق، رغم موافقة العراقيين على ذلك بشيء من التشكك. بعضهم قال انه لا يعرف الكثير عن غارنر ولا يشعر هؤلاء بأي أمل في انه سيفعل ما يمكن ان يؤدي الى تحسين مستوى حياتهم، فيما يقول آخرون انه ربما يكون قد وصل متأخرا للحصول على الوزن والنفوذ اللازمين لمواجهة القوى التي تهم بالفعل للحلول محل نظام صدام حسين. جدير بالذكر ان غارنر، 65 سنة، مقاول في مجال الدفاع، يشرف على «مكتب إعادة البناء والمساعدات الانسانية» الذي انشأه البيت الابيض في يناير (كانون الثاني) الماضي ويسعي الى تبديد الشكوك التي صورت ادارته كونها ادارة احتلال واستعمار.

ويعتزم غارنر تقسيم العراق الى ثلاثة قطاعات هي القطاع الشمالي ومعظمه كردي والقطاع الاوسط، الذي يضم بغداد ويغلب على تركيبته السكانية المسلمون السنة الذين سيطروا على الحكم في البلاد لفترة عقود، ثم القطاع الجنوبي، الذي يضم مناطق يكثر الغالبية فيها من الشيعة. ومن المتوقع ان يصل الى بغداد لمساعدة غارنر طاقم مكون من 500 من المستشارين والمساعدين، اذ من المنتظر تعيين المستشارين كوزراء ظل في كل وزارة عراقية، فيما سيقيم الفنيون الحاجات العاجلة في قطاع الصحة والمرافق العامة. وقال غارنر خلال حدث له مع الصحافيين انه سيلتزم بالجدول الزمني المحدد دون ان يحدد فترة زمنية محددة لبقائه في العراق، لكنه اشار الى انه سيبقى على مدى الفترة التي تتطلبها عمليات إعادة بناء البلاد، مؤكدا في نفس الوقت انه سيغادر في أسرع فرصة عقب إنجاز المهام المكلف بها.

زار غارنر خلال جولته مستشفى اليرموك بالعاصمة بغداد، وهو اكبر المنشآت الطبية في غرب العاصمة العراقية، اذ بات يحرسه مسلحون شيعة، شأنه شأن غالبية المستشفيات في بغداد بغرض حمايته من اللصوص. وتحدث غارنر خلال جولته مع الطبيب حيدر عابد الذي قال خلال لقاء اجري معه في وقت لاحق ان غارنر وعد بتعزيز العدالة وحكم القانون وإعادة بناء كل المستشفيات وصيانة نظام الصرف الصحي. وعلق الطبيب عابد قائلا ان هناك الكثير من الوعود، مشيرا الى ان لديه ثقة في تحقيقها لأنها الطريقة الوحيدة التي ستتمكن بغداد من ان تعيش من خلالها. إلا ان الجانب المهم لدى عابد يتركز حول ما اذا سيصبح غارنر قادرا بالفعل على تعزيز سلطته بصورة كافية بغرض السيطرة على حالة الفوضى التي تعم العاصمة. وكان حوالي 20 مسلحا شيعيا قد وصلوا الى المستشفى الذي يعمل فيه عابد واعلنوا انهم باتوا مسؤولين عنه. ويفترض عابد ان ثمة اجندة سياسة وراء مثل هذه الافعال، وأعرب عن أمله في ان يعيد المسلحون النظر الآن بعد وصول غارنر الى بغداد. وعلق الطبيب عابد قائلا انه في ظل غياب سلطة مركزية لن تكون هناك امدادات او ادوية ولا توجه محدد.

دقائق فقط بعد حديث عابد قدم شيخ ملتح يرتدي كوفية نفسه الى الصحافيين وقال انه الشيخ موفق الشموسي وانه يريد ان يعلن انه ومسلحيه استولوا على المستشفى بناء على تعليمات من السلطة الدينية للشيعة في مدينة النجف. وقال الشموسي انه ورجاله سيعملون على تأكيد امن وسلامة المرضى وسيراقبون الاطباء والطبيبات وطاقم التمريض درءا لأي فساد، حسبما قال. وأضاف قائلا «يجب ان نجري بعض التغييرات التي تميزنا عن الحكومة السابقة، ويجب ان نضع في الاعتبار ان الاسلام بات الآن جزءا من الحياة هنا. كل ما يتعارض مع النهج الاسلامي سيكون مرفوضا تماما. لن نخضع للحكم بواسطة أي عنصر اجنبي او غربي».

ولم يتضح ما اذا كان للشيخ الشموسي علاقة بالشيخ الفرطوسي، الذي افرج عنه امس، إلا ان حديثه يعكس ظاهرة محددة وهي ان الغالبية الشيعية التي ظلت تعاني من القهر في العراق تحاول الآن السيطرة على السلطة.

والاحتجاجات التي جرت على اعتقال الشيخ الفرطوسي كانت في نفس الساحة التي دمر فيها تمثال صدام حسين يوم 9 ابريل (نيسان) الحالي عندما دخلت القوات الاميركية بغداد. وتجمع المحتجون بسرعة لكنهم تفرقوا بسرعة ايضا فيما كان الجنود الاميركيون ينظرون بحذر. وقال الشيخ حسين السعدي، وهو واحد من اتباع الشيخ الفرطوسي، لهيئة الاذاعة البريطانية «بي بي سي» ان الاميركيين يجب ان يتعاملوا بحذر تفاديا لإثارة حساسيات الشيعة وإلا سيحدث «انفجار في الوضع»، على حد قوله.

وطاف غارنر والوفد المرافق له على محطة لمعالجة مياه الشرب ومياه المجاري والمحطة الرئيسية لتوليد الطاقة الكهربائية بالعاصمة حيث علموا من وحدة سلاح المهندسين الاميركية بأن نسبة 10 في المائة من كهرباء العاصمة كانت ستعود مساء اول من امس. جدير بالذكر ان التيار الكهربائي لا يزال مقطوعا عن اجزاء واسعة من أحياء بغداد مما يعني توقف استخدام الهاتف والتلفزيونات والثلاجات.

وقضى غارنر اول ليلة له بالعاصمة بغداد وسط حطام قصر الفاو الذي كان من افضل المجمعات الرئاسية لدى صدام حسين. وبات غارنر مضطرا الآن لمواجهة الشيعة. كما ان احمد الجلبي، الذي يعتبر الخيار المفضل بالنسبة للكونغرس، لم ينجح حتى الآن في كسب شعبية واسعة في العراق. تجدر الاشارة الى ان اختيار محمد الزبيدي من قبل الجلبي لرئاسة لجنة لادارة بغداد تسبب في انتقادات محلية وخارجية لما اعتبره البعض محاولات لفرض نفسه على السياسة المحلية، كما ان ممثلة بغداد لدى غارنر، السفيرة الاميركية السابقة باربرا بودين، قالت ان واشنطن لا تعترف بالزبيدي، وعلقت بودين خلال جولتها مع غارنر قائلة ان واشنطن لا تعرف الكثير عن الزبيدي سوى انه اعلن نفسه رئيسا لبلدية بغداد.

وقال متحدث باسم الجلبي ان المؤتمر الوطني العراقي وذراعه العسكري، قوات العراقيين الاحرار، منشغل الآن بإجراء اتصالات مع العديد من المجموعات وسط العراقيين وفي بعض الاحيان يعمل المؤتمر كوسيط بين العراقيين والاميركيين. واشار المتحدث الى ان من ضمن المجموعات التي التقاها الجلبي ضباط سابقون في الجيش العراقي والحرس الجمهوري والحرس الجمهوري الخاص. وقال صحافيون ان غارنر استقبل بحذر وتحفظ من العراقيين في الشوارع التي مر بها تحت حراسة الجنود الاميركيين في العاصمة العراقية، بيد انه لم تكن هناك أي اشارات عدائية واضحة. وقال غارنر، الذي يضع على ياقته شارتين احدهما تمثل العلم الاميركي والاخرى العلم العراقي، بلهجة يبدو عليها تفاؤل واضح انه سيكون هناك انتقال سريع وهادئ للسلطة الى حكومة عراقية مؤقتة.

واشار غارنر الى ان عملية إعادة البناء على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي ستكون ناجحة ايضا، ذلك ان العراقيين، طبقا لقوله، «سيبنون بلدهم». واعرب عن ثقته في ما سيحدث مستقبلا ، وأضاف انه من الصعب تقدير العمل المقرر انجازه، كما اشار ايضا الى انه ليس من السهل الوقوف على الوضع الحقيقي من على السيارة التي كان يستقلها خلال جولته. إلا ان غارنر اقر بأنه لم يكن يتخيل ان حجم الدمار الذي تعرضت لها بغداد كان كبيرا بهذه الصورة.

وحاول غارنر تبديد الصورة التي عكستها عنه وسائل الإعلام العربية كغاز يعتزم فرض اهدافه الخاصة على الشعب العراقي. وفي هذا الجانب علق قائلا «ان هذا اذا كان شعورهم، فليست لدي النوايا التي يتحدثون عنها». جدير بالذكر ان اختيار الجنرال المتقاعد غارنر من قبل الرئيس الاميركي جورج بوش جاء بناء على خبرته السابقة في شمال العراق عام 1991 عقب حرب الخليج الثانية عندما قاد عمليات مساعدة وغوث اللاجئين الاكراد وإعادة توطينهم، اذ نجح بالفعل في إعادة توطين ملايين الاكراد الذين فروا الى المناطق الجبلية بالقرب من الحدود العراقية ـ التركية عقب فشل الانتفاضة الكردية ضد نظام الرئيس العراقي المخلوع.

* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الاوسط»