«الشرق الأوسط» تنشر القصة الكاملة لساعتين و35 دقيقة من الحصار المسلح انتهت باغتيال الخوئي في النجف: صرخ الخوئي «لقد أصابوني» بعد أن اقترب أحد الغوغاء ورمى قنبلة يدوية اطارت ثلاثة من أصابع يده اليمنى

اقتادونا إلى منزل الصدر وقبل الوصول خرج أحد المرافقين وقال اقتلوا المجرمين في الشارع فشد أحد أبناء النجف الخوئي إلى متجره لكن الغوغاء حطموه واقتادوه للخارج ليجهزوا عليه

TT

ثلاثة اسابيع،هي عمر الرحلة التي رافقت فيها عبد المجيد الخوئي الامين لعام لمؤسسة الامام الخوئي الى العراق، وذلك في مشروع انساني لاغاثة ودعم العراقيين في مرحلة ما بعد صدام حسين والهدف كان تهدئة الاوضاع الامنية والحيلولة دون وقوع احداث قتل وانتقام وثارات تفتح الباب على حرب اهلية او اقتتال طائفي، شيعي ـ سني.

ثلاثة اسابيع في بلد التراب، والشمس الحارقة، واسميه بلد التراب كون ان اول ما استقبلتنا في الاراضي العراقية وبعد غياب اكثر من احدى عشر سنة العواصف الترابية التي لازمتنا حتى تركنا العراق تقريبا.

سابدأ بالحديث عن هذه الرحلة من مشهدها الاخير. المشهد العاصف الذي كاد يؤدي بحياتي خلال عملية حصار مسلح ذهب ضحيته عبد المجيد الخوئي وحيدر الكليدار سادن مرقد الامام علي، وماهر الياسري (33 عاما) الشاب العراقي الذي التحق بنا من ديترويت في الولايات المتحدة.

زمن هذا المشهد ساعتان وخمس وثلاثون دقيقة،لكنها بالنسبة لي ستبقى راسخة في ذاكرتي مهما حييت، ليس بسبب ازيز الرصاص الذي كان ينهال علينا كل لحظة، فقد كنت قد عشت احداثا اكثر خطورة من هذه خلال الحرب العراقية الايرانية عندما كنت ولثماني سنوات مراسلا حربيا في تلك الحرب العبثية،لكني سأبقى اتذكر احداث النجف لعدم منطقيتها من جهة، ولاصرار الغوغاء المهاجمين على قتلنا بلا سبب سوى تعطشهم للدم والقتل المجاني.

بهذا المشهد استهل عصر تحرير العراق على ايدي القوات المتحالفة من نظام صدام حسين، ومن غريب الصدف ان هذه الاحداث جرت يوم العاشر من ابريل (نيسان)، وهو اليوم ذاته الذي سقطت فيه بغداد وتهدمت فيها تماثيل صدام حسين، اليوم الذي كنا ننتظره منذ اكثر من خمسة وثلاثين عاما.

* بلا مقدمات

* كل شيء في مدينة النجف بلون التراب،عاصفة حمراء تلون المشهد العام، وجوه الناس بلون التراب، الوان البيوت وكل الابنية تكتسب تدرجات لونية ترابية، باستثناء قبة ضريح الامام علي تشع ذهبا،ويبرز بريقها من فوق هضبة المدينة التي يزيد عمرها عن الف واربعمائة عام.

سأؤجل هنا الحديث العام عن مدينة النجف وتاريخها لأدخل في صلب الحدث. سابدأ بسرد تفاصيل الرحلة من حيث ما انتهت وليس من حيث ما ابتدأت،من مشهد الصخب والضجيج والاسر والقتل.

كان صباح يوم الخميس العاشر من ابريل (نيسان) الموافق السابع من صفر 1424 للهجرة،على عكس بقية الايام،مشمسا ومعتدل الحرارة، بينما كانت العواصف الترابية قد منعت ليومين متتاليين وصول الطائرة التي تقل الصحافيين واجهزة الاعلام العربية والاجنبية للقاء عبد المجيد لخوئي في مؤتمر صحافي كان سيعقد صباح ذلك اليوم في مدينة النجف باعتبارها اول المدن التي تم تحريرها تماما من سيطرة نظام صدام حسين ومليشياته المسلحة.

كان الخوئي يبدو على عجلة من امره في ذلك الصباح، حتى انه قطع فطورنا الصباحي، هو وانا، وهو يقول «يله ليس هناك وقت للفطور اليوم»، وكانت علامات السعادة تتوهج في عينيه رغم التعب الذي كنا نعاني منه منذ اكثر من اسبوعين،وفي السيارة التي كان يقودها بنفسه كان يردد قائلا «نحن في العراق،نحن في النجف وصدام ولى بغير رجعة»، وكنت اقدر مشاعره، فهو من ترك مدينته مرغما قبل اكثر من اثني عشر عاما وسط احداث الانتفاضة الشعبية في آذار عام 1991، اثر اعتقال شقيقه الاصغر ابراهيم،والبحث عنه لاعدامه. سألته وقتذاك «هل انت سعيد من باب التحدي بان تكون في النجف التي ارغمت على تركها؟»، اجاب بلا تردد «بل وان نكون اول من دخل العراق، ليس مهما ان اكون في النجف او البصرة او اية مدينة عراقية محررة من سيطرة صدام حسين».

بعد المؤتمر الصحافي كان الخوئي سيلتقي بالتكنوقراط من اهالي النجف للبحث في كيفية عودة الحياة الطبيعية الى المدينة ومن ثم الانطلاق الى بقية مدن الوسط والجنوب. التحق بنا اكثر من ثلاثين من العراقيين الذين وصلوا من الولايات المتحدة وبريطانيا ضمن المشروع الاغاثي الذي ساهم فيه الخوئي.

* البداية

* كان عبد المجيد الخوئي قد طلب من القوات الاميركية عدم الاقتراب من الاماكن الاسلامية المقدسة وخاصة المساجد ومراقد الأئمة، كما رفض ان تكون حوله حماية اميركية مسلحة كونه بين اهله في النجف وليس في حاجة لمن يحميه منهم،فقد كان سلاحه المنطق والحوار والمحبة،بينما كان سلاح الآخرين انواعاً مختلفة من الرشاشات والقنابل اليدوية. فهو القادم من لندن وغير عارف الى أي مدى بلغت الامور في العراق تحت سلطة صدام حسين. عندما وصلنا الى مرقد الامام علي كانت الساعة قد بلغت التاسعة وعشر دقائق، كالعادة فقد خرج المئات من اهالي النجف للترحيب بالسيد عبد المجيد الخوئي وتحيته وهم يهللون لوصول نجل آية الله ابو القاسم الخوئي، اشهر مرجع في تاريخ الحوزة الشيعية الذي كان يلقب بـ(استاذ الاساتذة) لبقائه على منبر الدرس اكثر من سبعين عاماً.

وبعد القيام بمراسم الزيارة المعتادة زيارة مسجد الخضراء الملاصق للحضرة الحيدرية حيث يوجد قبرا والده وشقيقه، توجهنا الى مكتب خدمة المقام (الكليدارية)، وكان يفترض ان يلقي الخوئي كلمة في جموع الناس التي احتشدت لتحيته.

ادى الجميع مراسم الزيارة، وكانت غالبيتهم تغرق في البكاء لوصوله الى أرض العراق بعد سنوات طويلة من الغربة. توجهنا الى مكتب سادن الحضرة الحيدرية، وهذا ما يطلق على مرقد الامام علي.

أما السادن، او المسؤول عن ادارة الحضرة وخدمتها فيلقب محليا بـ(الكليدار) ولا ادري ان كانت هذه تسمية تركية او فارسية للسادن، وكان برفقتنا الدكتور حيدر الرفيعي (الكليدار) والذي يزور مكتبه لأول مرة منذ بدء العمليات العسكرية لتحرير العراق، وكان قد امتنع عن الذهاب الى مرقد الامام علي خشية من تصفيته على ايدي جماعة الصدر الذين يتهمونه بالانحياز لنظام صدام حسين لاستقباله له خلال زياراته للنجف.

كانت صورة صدام حسين قد رفعت من باحة المرقد ووضعت بدلا عنها صورة محمد محمد صادق الصدر المرجع الشيعي الذي كان صدام حسين قد فرضه على الحوزة كونه عراقيا وليس اجنبيا، ثم انقلب على النظام وتمت تصفيته وسط مدينة النجف قبل اكثر من عامين مع اثنين من ابنائه.

وبسبب وقوفه ضد نظام صدام حسين ومقتله اعتبر لدى عدد من الطبقة غير المثقفة الشيعية رمزا للتحدي، مع ان الحوزة والمرجعية الشيعية لم يعرف عنها التورط في امور السياسة بل الانهماك في الدرس والتدريس.

واعتبرت الحوزة تورط الصدر في السياسة وقتذاك خروجا على اعرافها وتقاليدها العريقة،بينما اتهمها الصدر بالجبن وسماها الحوزة الصامتة واطلق على منهجه تسمية الحوزة الناطقة او الثائرة. وكان اتباع الصدر قبل يومين يدورون في شوارع النجف فوق سيارات (البيك آب) الملصق عليها صور الصدر وهم يحملون رشاشات الكلاشنيكوف تحت عباءاتهم. ولا ادري لماذا لم يأخذ الخوئي حركة هذه الجماعة على محمل الجد او الحذر في القليل.

دخلنا الى مكتب الكليدار عند الساعة التاسعة والنصف صباحا،وبينما كنا نرتشف اقداح الشاي العراقي الثقيل والمر، فوجئنا بهتافات تنادي بحياة الصدر (لا زعيم الا الصدر) و(عاش مقتدى الصدر زعيم الحوزة العلمية). ومقتدى هذا هو النجل الاصغر للصدر (22 عاما) ولم ينه دراسة متقدمة في الحوزة العلمية، ففي اعراف الحوزة لا يتصدى رجل الدين الشيعي للمرجعية الا ويكون قد امضى اكثر من ثلاثين عاما على الاقل في الدراسة والاجتهاد وان يعترف له الشيعة بالمرجعية، أي يجب ان يكون عمره في الاقل متجاوزا الخامسة والستين عاما.

اشتدت الهتافات وتقدم حشد الغوغاء رافعين السيوف والسكاكين و(القامات) وهي اسلحة تشابه السيوف لكنها اكثر قوة وحدة، نحو نوافذ المكتب، مطالبين بحيدر الرفيعي لغرض اعدامه في باحة الحضرة وامام الناس. اقترحنا على الخوئي ترك المكان،لكن الحشود كانت قد احاطت بالمكتب من كل جهة، فقال «من يريد ان يخرج فليفعل»، وبالفعل خرج عدد كبير ممن كانوا يرافقون الخوئي، وبقينا خمسة اشخاص معه اضافة الى حيدر الرفيعي وبعض خدم الحضرة.

حاول الخوئي التحدث لجموع الغوغاء وقال لهم ان الرفيعي مسلم وشيعي كيف تريدون قتله وهو في حضرة الامام علي؟، ثم ان الرفيعي كان في صحبته وعليه ان يحافظ على حياته، ولم يدر في ذهن الخوئي ان الامر سيتعدى الهتافات حتى تحطمت النوافذ وجرح البعض بشظايا الزجاج وقارب الغوغاء من الدخول علينا.

* شاهد عيان

* كنا نقرأ علامات الشر المتطاير من عيون الغوغاء ورغبتهم المعلنة في القتل والتعطش للدم وهم ينادون «اقتلوهم، اقتلوهم»، وهذا يفند حجة الغوغاء في انهم كانوا يريدون الرفيعي فقط،بل كانوا قد خططوا مسبقا لقتل الخوئي ومن معه، بدليل انهم هيأوا انواعاً مختلفة من اسلحة الرشاش الثقيلة والقنابل اليدوية وقاذفات (آر بي جي 7) التي انهالوا بها علينا بلا سابق انذار، مع ان الاعراف تحرم ادخال الاسلحة الى الاماكن المقدسة وخاصة مرقد الامام علي، فما كان من الخوئي إلا ان اطلق طلقة من مسدس، كان قد اخذه من احد خدم الحضرة، في الهواء لابعاد الغوغاء واشعارهم بأن معنا سلاحاً للدفاع عن انفسنا.

كانت تتوفر في مكتب الكليدارية رشاشتان من نوع كلاشنكوف ومسدس لغرض حماية الحضرة والمكتب عند الضرورة، فاستلم ماهر الياسري رشاشة، وشخص آخر الرشاشة الثانية، بينما بقي المسدس مع الخوئي، وبدأ تبادل اطلاق نار غير متكافئ، فقد كان عددهم يربو على المائة والخمسين، وهم يتوفرون على اسلحة متطورة، وكان العتاد الذي معنا محدوداً للغاية لهذا اقترح علينا لخوئي التقشف في استخدامه، فكانت تنطلق من جانبنا رصاصة لنستقبل مائة رصاصة.

بعد عشرين دقيقة اصيب ماهر الياسري برصاصة، وهنا توقفنا عن اطلاق النار،وصاح الخوئي بالغوغاء لأن يتوقفوا وعيناه تدمعان حزنا لمقتل الياسري، وقال لهم حرام عليكم لقد قتلتم شاباً مسلماً في حضرة الامام،هل جئنا لنشهد قتل الشيعة للشيعة، دعونا ننقذ هذا الشاب قبل فوات الاوان ولم يكن يعرف الخوئي بان الياسري كان يلفظ انفاسه الاخيرة متأثرا بجراحه. وكان الجواب رشقات متلاحقة من الرصاص الذي مزق الجدران.

كان لا بد من الدفاع عن انفسنا،كنا نحاول منع الخوئي من الحركة كي لا يتعرض للقتل ونحن في غرفة لا تزيد مساحتها عن 5 في 6 امتار، ملحق بها حمام اختبأ به الاخرون. اخذ الخوئي الرشاش الذي كان يقاتل به ماهر واعطاني المسدس الذي كان معه وكان كل ما بحوزتنا من سلاح هو رشاشتا كلاشنيكوف ومسدس واحد كنا نشاغلهم به.

ادركت اننا مقتولان لا محالة، وكنت اتنقل هنا وهناك للدفاع عن الخوئي الذي صرخ بي لأكثر من مرة بأن اترك المكان واذهب مع الآخرين في الحمام فرفضت، ليس بدافع البطولة ولكن الموقف كان يحتم علينا القتال حتى آخر رصاصة.

اندفع الغوغاء نحو باب جانبي للمكتب محاولين اختراقه، رفعنا اريكتين (كنبتين) وجهاز تكييف واسندناها على الباب لايقاف الهجوم، كما اطلقنا الرصاص لابعاد الغوغاء، لكن بابا صغيراً آخر كاد يتحطم علينا، فاطلقت رصاصتين باتجاهه لابعادهم ولايهامهم باننا نملك الكثير من الاسلحة. كنا نناور بقليل من الرصاص، وكان الخوئي قد اتخذ لنفسه موضعا خلف اريكة قرب الباب لابعاد موجات الغوغاء التي كانت تصل الى الباب ثم تهرب بعد ان نلاقيها بالرصاص.

بعد اكثر من ساعة ونصف لم يسد الهدوء خلالها ولو للحظة خاصة من جانبهم، دخلت انواع جديدة من الاسلحة عرفت في ما بعد انها نقلت من مدرسة القوام الدينية الكائنة قبالة المقام العلوي، وسمعنا اصواتا تبشر بمجيء مقتدى الصدر، وتفاءل احد الخدم بأن مجيء مقتدى سوف يحل المشكلة، لكننا فوجئنا بعدها بشراسة الهجوم، وباستخدام القنابل اليدوية. وعندما تاكدنا بان نهايتنا قد اقتربت اقترح احدنا على حيدر الرفيعي بتسليم نفسه لهم، لكن الخوئي رفض هذا الاقتراح وقال «انا من اصطحبته الى هنا، كيف اسلمه لهؤلاء الغوغاء».

بعد ما يقرب من ساعة وخمس واربعين دقيقة من المشاغلة، صرخ الخوئي «لقد اصابوني»، كان كف يده الايمن ينزف دما، اذ كان قد اقترب احد الغوغاء من الباب ورمى بقنبلة يدوية انفجرت قرب الخوئي فمزقت ثلاثة من اصابعه. هرعنا لسحبه الى الداخل واسرعت لربط كف يده بقطعة قماش مزقتها من قميص كان متروكا هناك، ولففت كفه بقطعة منشفة الحمام، مما ادى الى ان تصطبغ ملابسي بدمه.

كان عتادنا قد انتهى وخاصة عتاد المسدس الذي كان معي ورشاشة الخوئي، ولم تبق سوى عدة اطلاقات مع احد المرافقين. فجأة خرج احد الخدم الذين كانوا معنا وهو يحمل المصحف المبارك وقطعة قماش بيضاء اعلانا بالاستسلام، توقف اطلاق النار،وهجم الغوغاء علينا، حاملين اسلحتهم ليتأكدوا من اننا لا نملك السلاح.

دخل علينا الشيخ رياض، هكذا عرف نفسه بوصفه مدير مكتب مقتدى الصدر، وهو يتحدث معنا عبر مكبر للصوت، ولا ادري لماذا كان يتحاور معنا عبر مكبر الصوت هذا مع ان المسافة بيننا وبينه هي اقل من نصف متر؟ وتعرف على الخوئي الذي عاتبه قائلا «هل وصلت الامور لأن يتقاتل الشيعة في مقام الامام علي؟»، فاجابه رياض «لا تتحدث بأية كلمة انتم الآن اسرى لدى السيد مقتدى» واستغربت من وصف «اسرى»، كانت حشودهم تتوافد علينا وهم ينادون بضرورة قتلنا والتخلص منا، وبالفعل حاول احدهم اطلاق النار علينا لكن هناك من ردعه وهو يقول له «لنأخذهم الى السيد مقتدى وهو يقرر مصيرهم، ثم انهم بين ايدينا الآن أين سيذهبون منا».

كان هناك شاب يرتدي ملابس رياضية هو اكثرهم حماسا لقتلنا،وآخر يرتدي ثوباً اسود حاملا رشاش كلاشنيكوف كان جاهزا للانقضاض علينا، قال الشاب ذو الملابس الرياضية الذي عرفت في ما بعد من اهالي النجف بأنه كان من اكثر المتحمسين لصدام وانه قاتل مع ميليشيات فدائيي صدام، وهو يخاطبنا «عملاء، جواسيس» ثم انبرى شاب آخر كان يرتدي ثوباً ابيض ويحمل سكينا وقال للخوئي «انت كنت امبراطوراً في لندن لماذا جئت الى هنا؟ ماذا تريد ان تفعله في النجف؟ انت لا تعرف كم تغير العراقيون طول هذه السنوات، ما لك والنجف؟ «ثم قام بتفتيشنا بحجة البحث عن السلاح، لكنه كان يبحث عن محافظنا، واول من سرقه هو الخوئي الذي وجد في جيبه حفنة من الدولارات التي تقدر قيمتها بنحو خمسة آلاف دولار اميركي وبعض العملات العراقية، ثم فتش حقيبة عراقي أخر كان قادما من اميركا واسمه حميد فوجد في حوزته اكثر من سبعة الاف دولار جاء بها ليساعد اهله بواسطتها، ثم سحب حقيبتي التي كانت تضم كاميرا ديجتال واخرى فيديو ديجتال جديدتين وهاتف نوكيا جوال واكثر من خمسة آلاف دولار وخمسمائة جنيه استرليني كنت احتفظ بها لمساعدة الاهل والاصدقاء في العراق، جمع كل هذه الثروة (بالنسبة له) وهواتف ثريا، ووضعها في حقيبة حميد وقال «هذه غنائم وسوف تتسلمونها من مكتب السيد مقتدى الصدر».

لم نكن نهتم بالأموال او الكاميرات او الهواتف بل ما كان مهما هو حياتنا التي صارت رهن هؤلاء الغوغاء. اقترح احدهم ان يأتوا بسيارة تقلنا من هناك الى بيت الصدر، فردعه الآخرون عن مقترحه هذا، واقترح الشيخ رياض ان يأتي مائة من طلبة الحوزة من اتباع الصدر ليرافقونا الى بيت الصدر، ولاقى مقترحه الموافقة من قبل زملائه المعممين. وعندما حضر طلبة الحوزة وكان عددهم اقل من مائة، شدوا ايدينا من الخلف بالحبال.

واقترح البعض عصب أعيننا ايضا، لكنهم رفضوا هذا المقترح، وعندما سألتهم عن ضرورة شد ايدينا قالوا «اسكت انت جاسوس وأسير»، قلت لهم انا صحافي فصاح احدهم «يعني اعدامك حلال»، عندها آثرت السكوت فالحديث مع هكذا نوع من البشر قد يكلفني حياتي في وقت مبكر.

اجبروا الخوئي على ان يخلع الدرع الواقي من الرصاص بينما كان كف يده ما زال ينزف دما، وعندما جردوا الخوئي من الدرع الذي كان يضعه تحت ثوبه ادركت انهم قرروا قتلنا في الطريق الى بيت الصدر، والا لماذا يجردوه من درعه؟. تم شد وثاق الخوئي اولا ثم الآخرين، وشدوا وثاقي مع حيدر الرفيعي.

عندما خرجنا الى باحة مرقد الامام علي كان اول ما التمع في عيني بريق السيوف والقامات والخناجر الملوحة في الهواء، وبدأ كل منا يأخذ نصيبه من الضرب، وسط صيحات مختلطة، بعضها من الناس الذين كانوا يقولون «حرام لا تضربوهم» واخرى من جماعة الصدر التي تحث على قتلنا «اقتلوهم، اقتلوهم».

كان هناك حشد كبير لم استطع تقدير عدده، لكنهم كانوا يزيدون عن المائتي شخص، يضاف اليهم زوار المرقد الذين كانوا محاصرين بسبب الرمي. انهالوا اولا بالسكاكين والسيوف على حيدر الرفيعي، مما ادى الى سقوطه، ولا ادري كيف حل وثاقي وقت ذاك حيث علمت في ما بعد ان احد الزوار من اقارب صديق لي هو الذي غامر وحل وثاق اليد اليمنى بينما تكفلت انا بحل وثاق اليد اليسرى لأنسحب تدريجيا وابقى سائرا مع الموكب كمتفرج كي لا اثير انتباه جماعة الصدر.

قبل ان نترك الحرم العلوي قتل حيدر الرفيعي، بينما شاهدت عبد المجيد الخوئي وهو يدافع عن نفسه بيده اليسرى وقد كان متعبا بسبب نزف يده اليمنى. كان الموكب يتجه نحو بيت مقتدى الصدر حسب اوامره التي بلغنا بها قبل خروجنا مكبلين، وكان الغوغاء يهجمون على الخوئي في محاولة للإجهاز عليه، وقبل الوصول الى بيت الصدر خرج اليهم احد مرافقيه ليبادر الحشد قائلا «يقول السيد اقتلوا هؤلاء المجرمين في الشارع ولا تدخلوهم بيتي». وكان هذا الامر كافيا لاعطاء الضوء الاخضر بقتل الخوئي.

كنت اراقب المشهد على بعد خمسين مترا تقريبا،اقترب احد ابناء النجف وكان صديقا للخوئي وادخلهم الى محله (يملك محلا لبيع مكائن سنجر للخياطة) في محاولة لانقاذ ما يمكن انقاذه، فهجم الغوغاء وحطموا واجهة المحل مقتادين الخوئي الى الخارج ليجهزوا عليه، بعد دقائق وعندما كان آذان صلاة الظهر يرتفع من مقام الامام علي سمعت الاصوات تقول ان الخوئي قد مات،وكان الوقت الثانية عشرة وخمس دقائق ظهرا.

انسحبت من المكان لألجأ الى بيت احد الاصدقاء. وفي الليل عرفت أن بعض المقربين من الخوئي قد قاموا بدفنه في مقبرة العائلة بمسجد الخضراء الى جانب والده وشقيقه محمد تقي الخوئي، ولم يتم تشييع جثمانه حسب الأصول.