ضحايا أجهزة الأمن العراقية: النظام المخلوع أرغم الناس على التجسس على أهاليهم وأصدقائهم

TT

تعرض زهير عابد جياد لتعذيب جسدي قاس، فقد تم حشره مع 60 معتقلا آخر في حجرة ضيقة، وأوثقت يداه خلف ظهره وهدد بالإعدام. إلا ان التعذيب الحقيقي الذي تعرض له جياد بدأ عندما طالبته عناصر الأمن بالعمل كـ«صديق خاص»، وهو المصطلح الاكثر تهذيبا لـ«مخبر»، فعمله الجديد يقتضي تجسسه على اقربائه واصدقائه وجيرانه ورفع تقارير منتظمة الى اجهزة الامن التابعة للنظام السابق التي تتركز سلطتها على معرفة كل شي وعدم نسيان أي شيء. وقع زهير على تعهد فيما يلي جزء منه: «انا، زهير عابد جياد، اتعهد بأن اكون امينا وملتزما ومخلصا لثورة 17 تموز وللجمهورية العراقية وان اقدم كل المعلومات ذات الصلة بأمن وسلامة الحزب والثورة».

كان زهير جالسا في غرفة استقبال الضيوف بمنزل الاسرة، وهو محاط بأفراد الاسرة والاصدقاء عندما كان يتذكر اليوم الذي وقع فيه على التعهد المشار اليه قبل ما يزيد على عام مضى. من الواضح ان سقوط نظام صدام حسين قد منح زهير، 30 سنة، احساسا بالارتياح والحرية، ويقول ان «الفرحة ربما تأتي للشخص لمدة ساعة او اكثر، إلا ان الكرب والمعاناة يستمران سنوات».

لا تزال هناك مهام هائلة ضمن عملية إعادة بناء العراق، إلا ان هذه العملية تتضمن ايضا مواجهة العراقيين لواقع السنوات التي قضوها تحت سيطرة الرئيس العراقي المخلوع. وفيما يبدو، فإنهم بدأوا في فحص الوسائل والطرق التي استخدمها قادتهم في افسادهم واستغلال رغبتهم الطبيعية في البقاء وتحويلهم في نهاية الامر الى التجسس على بعضهم بعضا. عندما سقط نظام صدام حسين اسرع ضحاياه الى مكاتب الأمن التي خضعوا فيها للاستجواب والى السجون التي اخضعوا فيها لأقسى صنوف التعذيب وحتى الى خزانات الملفات التي تحفظ فيها التواريخ والتفاصيل ذات الصلة بهذه التجارب القاسية. فكل شيء كان موثقا بخط اليد حتى عمليات الإعدام والاستجواب. تم تفحص هذه الملفات بواسطة المعتقلين والمسجونين السابقين. وفي بعض الحالات دمر بعضها بواسطة من كانوا خائفين على اسرار تدور حولهم في طيات هذه الملفات. ووسط الغضب العام والرغبة الجماعية في الانتقام من الرجال والنساء الذين استفادوا من نظام صدام حسين، فان هناك بعض الشفقة تجاه اشخاص مثل زهير عابد جياد. يقول المهندس الكيماوي مهدي سالم، 36 سنة، ان اشخاصا مثل زهير جياد لم يكن امامهم سوى خيارين، فإما الإعدام واما توقيع الإقرار بالعمل مع اجهزة الامن. بدأت محنة جياد في 9 مارس (آذار) عام 2002 عندما داهمت عناصر الامن محلا للنجارة في بغداد حيث كان يستمع وبعض من زملائه في العمل الى اشرطة صوتية تحتوي على مواد دينية محظورة. منذ ذلك الحين وحتى سقوط نظام صدام حسين وجد جياد وكل من له به صلة داخل شبكة من اجهزة الامن التابعة للنظام العراقي السابق. اتسم نظام صدام حسين بالقسوة وعدم التسامح، فهو لا ينسى على الإطلاق. اذ بعد مرور سنوات طويلة على شنق او إعدام او تعذيب شخص، تستمر اسرته واصدقاؤه في دفع الثمن. فهناك طالب لم يستطع الالتحاق بالجامعة لأن والديه اعدما عندما كان عمره 5 اشهر، فضلا عن حرمانه من العمل والرعاية الطبية الكافية والسفر الى الخارج. سيطرت عناصر امن النظام المخلوع على افراد وعلى اسر بكاملها مستخدمة مختلف الوسائل بغرض معرفة ادق تفاصيل حياة افراد هذه الاسر. فكل عملية اعتقال كانت بمثابة فرصة لتجنيد مخبر وكل عملية إعدام كانت بمثابة فرصة لكسب اسرة، فالنظام خلق جوا من الخوف وعدم الطمأنينة، وهذا بالطبع هو هدف النظام السابق، أي العمل على إحداث انقسام مستمر بين الناس. نشأ سعيد مهند، 38 سنة، مع زهير جياد في واحد من احياء الطبقة الوسطى وكلاهما يتحدر من اسر شيعية متدينة، اذ تربط بين اسرتيهما علاقة وثيقة وقديمة، ولكن في اليوم الذي خرج فيه زهير من المعتقل لم يعد سعيد يثق فيه. ويقول سعيد في هذا الجانب معلقا: «تخيل انني صديق لزهير ولم احضر لتحيته بعد ان خرج من المعتقل. لقد اصبحت الاسرة مراقبة وهذا سيتسبب في مشاكل كبيرة لي انا شخصيا، فقد كنت اشعر في داخلي بالخوف». وأضاف سعيد ان زهير بات ينتقد النظام العراقي السابق علنا أمامه بعد إطلاق سراحه، في إشارة الى انه كان يحاول استدراجه الى انتقاد النظام هو الآخر لكي يرفع عنه تقريرا الى الجهات الامنية، بيد ان سعيد كان دائما ما يحول موضوع الحديث تجنبا للخوض في أي حديث عن النظام الحاكم. وجدير بالذكر ان نظام صدام حسين كانت يستهدف بصورة رئيسية الاغلبية الشيعية في البلاد. كان عمر عارف هاشم خمس سنوات عندما اعدم والده ووالدته بتهمة الانتماء الى حزب الدعوة الشيعي المحظور. عرف عمر ما حدث لوالده ووالدته من خلال تعامل السلطات العراقية معه مما اضطر اقرباءه الى نقله الى مدرسة اخرى خارج الحي حتى لا يعرف المعلمون شيئا عن تاريخ اسرته. وبعد مرور سنوات تقدم عمر للالتحاق بالجامعة المستنصرية ببغداد، إلا ان القبول توقف على حصوله على خطاب من الفرع المحلي لحزب البعث. توجه عمر الى المكتب المحلي للحزب وحصل الخطاب المطلوب، إلا القلق ساوره ازاء ما هو مكتوب داخل الخطاب المختوم بالشمع، وفي نهاية الامر فتح عمر الخطاب بعد ان تأكد من انه سيتمكن من قفله مرة اخرى دون ان يلاحظ المسؤولون. الملاحظة التي وجدها عمر في خطاب الفرع المحلي لحزب البعث هي: «اعدم والده لأنه كان عضوا في حزب الدعوة الخائن». اعدم عمران حسن حسين عام 1980 بسبب ادعاء حول انتمائه لحزب الدعوة، بيد ان اسرته لم تبلغ بما اذا كان حيا ام ميتا. وفي عام 1986 رفع عمليا تقريرا الى السلطات اورد فيه ان «موقف الاسرة ليس ايجابيا ازاء الثورة» و«ان الحزب (البعث) حاول ان يضمهم كأعضاء لكنهم رفضوا» وان «سلوكهم تجاه اعضاء الحزب ليس جيدا». ظلت اجهزة الأمن بعد ذلك تفرض ضغوطا ورقابة مستمرة على هذه الاسرة الى ان بدأت تظهر النتائج بعد بضع سنوات، فقد كتب عنصر في واحد من اجهزة الامن العراقية عام 1995 ان محمد، شقيق عمران، «عنصر مفيد في عمل الامن». واشار التقرير الى ملاحظة بأن اسرته «محافظة ومحترمة».

يعيش زهير واسرته من معاش التقاعد الذي يتقاضاه والده، 78 سنة، بعد عمله لمدة 40 عاما كسائق قطار في بغداد. وخلال تلك الجلسة الاسرية تذكروا الضغوط التي كانوا يشعرون بها عندما كان زهير معتقلا. كانت عناصر الامن تتردد على المنزل بانتظام، فيما كان من المفترض ان يرفع زهير تقاريره على نحو منتظم. ويؤكد زهير انه لم يحدث ان ادلى بأية معلومات حول أي شخص، لكنه لن يعترف في الغالب بذلك في ظل وجود اسرته واصدقائه حوله. اصدقاء زهير وافراد اسرته كانوا يشعرون بالحرج مما حدث واكدوا انهم سامحوه على ما حدث، اذ يقول شقيقه نديم انه يتفهم ما حدث لزهير ولا يعتبره بأية حال خائنا وانما ضحية.

* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الاوسط»