شاهد على رحلة الخوئي إلى العراق: زرنا بيت السيستاني وتناولنا أول وجبة إفطار عراقية، والخوئي أعد بيانا لم ينشر يدعو فيه لعدم التدخل في الشأن العراقي باسم الشيعة

أهالي النجف تحدثوا عن صفقة تمت بين مجموعة شيعية أنقذت مزبان وميليشيات فدائيي صدام مقابل الأسلحة والأموال

TT

الليلة الاولى في النجف، ونحن لسنا في النجف، لسنا في قلب المدينة وبين ناسها واهلها، كنت اتمنى ان اعود الى تلك المدينة فأمشي حرا بين دكاكين سوقها العتيق، تلك الدكاكين التي كنا نجد فيها كل شيء، حاجات لا نجدها في اسواق اية مدينة اخرى. لقد احترف شيعة العراق ومنذ سنوات بعيدة مهنة التجارة لعدم مشاركتهم في الوظائف الحكومية، لاسباب طائفية، خاصة في العهد العثماني، ومرة بسبب فتاوى من مرجعيتهم حرمت عليهم العمل مع البريطانيين المحتلين للبلاد، وثم، وفي جمهوريات الاخوين عارف ومن ثم البكر وصدام حسين، لاسباب موغلة في طائفيتها. وهذا مادفعهم الى ثلاثة اتجاهات، الاول التمسك بالحوزة العلمية كرمز لهم وبالمرجعية كمرشد لمسيرتهم الدينية والحياتية، والثاني العمل في التجارة وتوفير عيشهم بعيدا عن العوز او الشعور بالحاجة الى الحكومة، اما الاتجاه الثالث فهو المعارضة السرية لكل الحكومات المتعاقبة، ولم تكن المعارضة لغرض المعارضة، بل لانهم شعروا بالظلم خلال كل الاوضاع السياسية لتي لم تنصفهم. كنت اتمنى ان ادخل سوق النجف وارى وجوه تجاره الطافحة بالابتسامة والرضا، تجار الاقمشة (البزازين)، وتجار الاجهزة البيتية، وصاغة الذهب، حيث ان صياغة الذهب في النجف واحدة من اكثر المهن تميزا، وكانت المرأة عندما تخطب يطلب لتجهيزها عقود واساور من ذهب النجف تحديدا، وكانت المصوغات الذهبية تشع بريقا من داخل محلات الصاغة. ثم من مثل اهل النجف يخيط العباءات والثياب الرجالية؟

بين هذه الدكاكين كانت محلات الحلوى النجفية تنتشر متناثرة ومزدحمة بالزبائن، انواع من الحلوى لا يجيد صناعتها الا النجفيون، وخاصة (الساهون) و(الدهينية) و(حلاوة الحليب) و(خبز بالحليب) وانواع لا تحصى من الكعك المعجون بالسكر والحليب والسمن.

لكن اسواق النجف كانت مغلقة، والتجار انسحبوا الى بيوتهم مع بضاعتهم خشية على حياتهم من اللصوص، ليس لصوص الليل بل لصوص النهار، أولئك الذين نصبوا من انفسهم زعماء وجهزوا اتباعهم بالاسلحة من اجل الاعتداء على الناس وسرقتهم في وضح النهار.

كنت اتمنى ان اضيع في ازقة هذه المدينة التاريخية و(عقودها)، متأملا ابوابها المنحوتة على خشب الزان والصاج، مزينة بالمطارق النحاسية، بينما تطل من فوق الشناشيل (الاورسي) حسب التسمية المحلية، والتقي من تبقى من آل الجواهري، وبحر العلوم، وبقية العوائل النجفية التي كانت ترفد حركة الابداع العربي بالشعر والمقالة. فقد عرف العراق الطباعة من خلال النجف التي كانت قد انشئت فيها اول المطابع الحجرية، كما صدرت عنها اولى الكتب والنشريات الثقافية.

* خراب المدن

* لكن ما كنت قد شاهدته مساء ذلك اليوم في شوارع وازقة النجف من خراب سبب لي ردة فعل قادتني الى قرارة بئر حزين. لم يكن خراب البيوت او الشوارع والابنية بل هو خراب النفوس التي بدت يائسة ومنحسرة الى داخلها. وليس بمقدورنا ان نلوم الناس على ذلك، فالحياة تحت ظل نظام ظالم وقاس، مثل نظام صدام لاكثر من ثلاثة عقود، وفي مدينة فرضت عليها العقوبات الادارية لاسباب كثيرة، اولها انها شيعية ومناهضة لظلم النظام، وثانيها ان اهلها كانوا قد انتفضوا عام 1991 ضد صدام حسين الذي كان يعاني من عقدة المدن الحضارية المبدعة مثل النجف والبصرة والموصل. وما اذكره عن مدينة النجف ينطبق على بقية مدن الوسط والجنوب، مثل السماوة والديوانية وكربلاء والحلة والبصرة التي تعد ثاني مدن العراق والميناء الوحيد في البلد، والتي تقع على ثلاثة انهر، هي دجلة والفرات وشط العرب، لكن اهلها يعانون من شح الماء الذي يشترونه من الصهاريج السيارة. بل ان وضع مدينة النجف يعد افضل حالا من بقية المدن التي كانت تطبق فيها الاحكام العرفية، وغالبية محافظيها من ضباط الحرس الجمهوري.

لقد امتدت يد التخريب الى التاريخ العمراني لهذه الحاضرة الاسلامية، فهدمت سلطات صدام كل الابنية المحيطة بمرقد الامام علي، وكذلك ما تبقى من سور المدينة التاريخي بحجة التوسيع وتحديث النجف، فأزيلت العديد من ازقتها واسواقها.

والنجف عبارة عن مقبرة كبيرة، اذ توجد فيها مقبرة وادي السلام، والتي اشرت اليها باعتبارها اكبر مقبرة في العالم، فالمسلم الشيعي، واينما يكون في العالم يتمنى ان يدفن في النجف، ودفن الموتى فيها يتم في الغالب في سراديب عائلية، وليس هناك ما يثير الاستغراب اذا ما عرفنا ان القبور العائلية تقوم داخل سراديب البيوتات القديمة، وهي اشهر مدينة من حيث وجود السراديب في بيوتها.

لقد حافظت النجف على ثوابت متوارثة، فلم تقم فيها اية دور عرض سينمائي، او بارات، كما لم تقدم الخمور في فنادقها او مطاعمها، والمرأة لا يمكن ان تسير في شوارع المدينة ما لم تكن محجبة، لكن الغريب انه كان في هذه المدينة المتطرفة في شيعيتها وجود يهودي، وهناك حي كان يسكنه اليهود ما يزال يحمل تسمية (عقد اليهود). وعلى مسافة ليست بعيدة عن النجف يقع قبر النبي (الكفل) الذي يتبعه اليهود الذين كانوا يسكنون حوله.

عند الساعة الخامسة من فجر يوم السابع من ابريل (نيسان) الجاري ودعنا الشيخ حازم الشعلان مغادرا الى الديوانية التي تبعد مسافة ستين كيلومترا الى الجنوب من النجف، وهي المحافظة التي يتحدر منها حازم وتقيم فيها عشيرته، وكان قد قرر الالتحاق بعشيرته لمساعدة الاهالي هناك للسيطرة على الاوضاع الامنية واغاثتهم، وطلب الشعلان من ماهر الياسري الذي يتحدر من ناحية (البدير) التابعة للديوانية والقريبة منها مرافقته لزيارة عائلته التي لم يلتق بها منذ اكثر من اثني عشر عاما، وهو المقيم في ديترويت بالولايات المتحدة، وكان الياسري يتحرق شوقا للقاء والديه وشقيقه الشاب المصاب بالشلل نتيجة تعرضه للتعذيب على ايدي الاجهزة الامنية العراقية لمشاركة ماهر في الانتفاضة وهروبه الى مخيم رفحا ومن ثم الى اميركا.

لكن ماهر وشعورا منه بالاخلاص للخوئي فضل البقاء في النجف لايام قليلة وريثما تستقر الامور قبل ان يغادر لزيارة اهله وعشيرته، وبالفعل ضحى الياسري بحياته خلال القتال الذي دار فيما بعد في صحن الامام علي.

سافر الشعلان الى الديوانية وقاد هناك انتفاضة سلمية ضد من تبقى من نظام صدام حسين وميليشياته، ففر المحافظ ومدير الشرطة والمسؤول الامني والحزبي، واعلى الشيخ حازم عن سيطرتهم على الاوضاع في الديوانية بعد يومين من وصوله الى هناك، وكان اول شخص في مجموعة الخوئي يتاح له تحقيق ما خطط له ضمن برنامج واهداف المجموعة، ولو اتيحت للاخرين ذات الفرصة في الوصول الى مدنهم وعشائرهم ربما كانوا قد نجحوا في تحقيق برامجهم، مثلما فعل الشعلان.

* جبن وشاي في بيت السيستاني

* قرر الخوئي زيارة آية الله علي السيستاني، المرجع الشيعي الاعلى والذي يقيم وسط مدينة النجف قريبا من مرقد الامام علي في المدينة القديمة، وكانت ميليشيات فدائيي صدام وحزب البعث، قد هربت في الليلة الماضية، وقيل ان مزبان خضر هادي الذي كان صدام قد عينه قائدا على محافظات ومدن الفرات الاوسط، كان يبيت كل ليلة في صحن الامام، خشية من القوات الاميركية واهالي المدينة.

وقبل انسحاب ميليشيات فدائيي صدام من الصحن الحيدري تركت مخازن اسلحتها من الرشاشات المختلفة الاحجام، وكميات كبيرة من الاعتدة والقنابل اليدوية، وقاذفات (آر بي جي 7)، في بعض غرف الصحن، وكانت جهة شيعية متطرفة قد سيطرت على هذه الاسلحة والاعتدة، ويصر اهالي النجف على ان اتفاقا كان قد تم بين هذه المجموعة الشيعية ومزبان خضر، وميليشيات فدائيي صدام وحزب البعث التي توفر لها الحماية وتنسحب ليلا مقابل ترك اسلحتها للمجموعة الشيعية، والبعض يصر على ان المسؤول البعثي قد منح هذه المجموعة الاموال من اجل الحفاظ على حياته.

ويؤكد الاهالي ما ذهبوا اليه هو ان مرقد الامام علي كان ومنذ فجر اليوم التالي تحت سيطرة هذه المجموعة، وهي التي سيطرت على جميع الاعتدة والاسلحة، كما ان غالبية من كانوا ضمن ميليشيات فدائيي صدام يعملون الان ضمن ميليشيات هذه المجموعة الشيعية، وقد شوهدوا وهم يقتحمون مكتب خدمة حضرة الامام علي خلال عملية اغتيال عبد المجيد الخوئي وحيدر الرفيعي وماهر الياسري.

عند الساعة السادسة غادرنا مقرنا في معمل اسمنت الكوفة الى وسط المدينة، وبالتحديد الى منزل المرجع السيستاني، وكنا اربعة اشخاص نرافق عبد المجيد الخوئي، اياد جمال الدين، ابن شقيق مصطفى جمال الدين، والذي كنا قد التقينا به في معمل اسمنت الكوفة قادما من الامارات العربية المتحدة، ولم يكن ضمن مجموعتنا، وعبد الحسن الخفاجي، وماهر الياسري، وانا. لم يكن أي منا يحمل اية قطعة سلاح، وكانت هذه هي المرة الاخيرة التي ندخل فيها الى اطراف المدينة برفقة القليل من افراد الحماية الاميركية اذ لم يوافق الخوئي على ان ندخل المدينة وهم برفقتنا غير مبال بالمخاطر التي قد تفاجئنا، وغالبا ما كان يردد قائلاً «يحموني من من؟ من اهلي، واخوتي واصدقائي في النجف؟ لقد جئت لمساعدة الناس ولم آت بحثا عن نفوذ او منصب سياسي، ولست ممن يمشون وتحيط بهم الميليشيات المسلحة خوفا من ابناء بلدهم». وبقدر ما كان الخوئي محقا بهذا الطرح، الا انه كان قد منح الجانب الاخر، ثغرة يتسلل منها لينفذ جريمته فيما بعد، فالخوئي كان قد ترك النجف منذ ما يزيد عن اثنتي عشرة سنة، وحدثت خلال هذه السنوات الكثير من التغييرات في النفوس، وتقسيم النفوذ، وكان هناك جيل من الفتيان او الصبية قد ترعرعوا في ظل توجيهات وتعاليم صدام حسين التي تحرض على القسوة والقتل المجاني، وهؤلاء لن ينفع معهم المنطق والحوار.

تمشينا راجلين الى منزل المرجع السيستاني، كانت المدينة تصحو توا، بعض المقاهي وافران الخبز والمحلات التي تبيع (القيمر) العراقي والعسل قد باشرت اعمالها، وهناك عدد من الرجال والصبية الذين يتسوقون الفطور الصباحي. كنا، ماهر وانا ننظر الى المخابز ومحلات القيمر ونحن نتمنى قطعة خبز والقليل من القيمر بعد ان مللنا من علب طعام المارينز المجفف، قال الخوئي «اصبروا قليلا وسوف تشبعون خبزاً وقيمراً».

دلفنا الى زقاق ضيق وتوقفنا عند باب بيت نجفي تقليدي، وراح الخوئي يطرق الباب، وقد اعجبت بذاكرة الخوئي وحفظه للعناوين، تجمع حولنا بعض الرجال من جيران السيد السيستاني وهم ينظرون الى الخوئي غير مصدقين وجوده بينهم، ولم يتجرأ احد بسؤاله ان كان هو ابن الخوئي ام لا؟ بل سألونا نحن بالرغم من وجوده قربنا، فأكدنا لهم انه هو السيد عبد المجيد الخوئي، فهبوا اليه لتحيته بشوق عارم، فتح باب بيت السيستاني، واطل منه احد العاملين في البيت، وبعد التحية عرف الخوئي نفسه للعامل الشاب والذي لم يكن يعرف الخوئي كونه من اهالي مدينة كربلاء، لكنه سمع بالخوئي لهذا ادخلنا مباشرة الى البيت حالما عرف الاسم.

كان طراز البيت ساحرا من الداخل، فهو طراز عراقي اصيل، مجاز ضيق ثم الباحة (الطارمة) التي تقع على يمينها (البراني) وهي الغرفة المخصصة للضيوف حيث تحولت الى مكتب يستقبل فيه المرجع اتباعه والناس الذين يتوجهون اليه باسئلتهم الفقهية. في شمال الباحة يصعد السلم بدرجاته المبنية من الكاشي الى الطابق الثاني وسطح البيت. هناك في عمق البيت تقع صالة كبيرة (غرفة المعيشة) التي تحولت الى مضيف مفروش حسب الطراز الشرقي، وبقية الغرف.

دخل الخوئي واياد جمال الدين الى المضيف بينما جلسنا نحن في صالة الاستقبال، طلب مني بلطف بالغ عدم التصوير، فوضعت الكاميرا في حقيبتي احتراما لطلبهم. وبينما كان الخوئي يتحدث مع النجل الاكبر للسيستاني، قدموا لنا الشاي العراقي الثقيل والخبز الساخن والجبن النجفي الابيض ذا الطعم الحلو والكامل الدسم. كانت هذه اول وجبة فطور عراقية حقيقة تناولناها في اول بيت عراقي ندخله، وهو بيت آية الله السيستاني، وشعرنا انها اطيب وجبة تناولناها في حياتنا.

بعد حديث ليس قصيرا بين الخوئي ونجل السيستاني تركنا المكان، وعرفنا فيما بعد ان المرجع الشيعي قد انتقل الى مكان سري خشية على حياته من الظروف السائدة في النجف، وكانوا محقين باتخاذ هذا الاجراء لا سيما ان الحوزة العلمية والمرجعية الشيعية هما اول ما تعرض للتهديد بعد تنفيذ جريمة قتل الخوئي.

في اليوم التالي خرج الاعلام الايراني الرسمي، بخبر يقول ان آية الله السيستاني رفض استقبال عبد المجيد الخوئي مبعوث وزارة الخارجية البريطانية، والحقيقة هي ان السيد السيستاني لم يستقبل وحتى اليوم اية شخصية ومهما كانت درجة قربها منه باستثناء افراد عائلته بالطبع، كما ان نجل السيستاني كان قد وعد الخوئي بلقاء خاص مع والده ريثما تهدأ الامور. فالسيستاني لم يكن في داره ليرفض استقبال الخوئي، كما انه لا يعرف ان الخوئي كان موجودا في النجف، وان الخوئي لم يذهب حسب موعد مسبق مع لمرجع الشيعي بل طرق باب البيت ودخل. كان يفترض ان نترك بيت السيستاني ونعود الى مقرنا بسبب عدم تأكدنا من حقيقة الاوضاع الامنية في وسط مدينة النجف، لكن الخوئي وجد ان المسافة بيننا وبين مرقد الامام علي قريبة، وان ابواب المرقد مفتوحة فقرر التوجه لزيارة المرقد من غير ان يتردد ولو لحظة واحدة.

ونحن نقطع الشارع الرئيسي باتجاه المرقد اوقف سائق سيارته وسط الشارع وهو يصيح «السيد الخوئي هنا، السيد الخوئي هنا» وعانق الخوئي باكيا، وسرعان ما تحلق الناس حوله محيين قدومه، وكانهم لا يصدقون ما يشاهدونه بأم اعينهم. قال شيخ كان يعرف الخوئي «الحمد لله انك بيننا، ليس علينا ان نقلق بعد اليوم» وسأله فيما اذا كان سيبقى ام يرحل بعد ايام، فطمأنه الخوئي بانه باق لمساعدتهم.

وما ان اجتزنا بوابة المرقد التي قبلها الخوئي، ودخلنا لزيارة الضريح حتى هرع الجميع لملاقاة نجل مرجعهم السابق مهللين فرحين، تقدم اليه احد الشيوخ وقال له «لقد سرت يوم امس شائعات وجودك في النجف ولم نصدقها، قلنا كيف يمكن ان تترك اعمالك في لندن وتأتي الينا». ادينا مراسم الزيارة، وكان الخوئي يجهش بالبكاء غير مصدق انه في مدينة النجف مرة اخرى وفي حضرة الامام علي.

وبعد ان انهى الخوئي صلاته، وقف امامه احد طلبة الحوزة وهو يغرق بالبكاء مرددا «لقد صبرتم على ما اصابكم من فواجع، وها قد نلتم نتائج صبركم يا سيدي» ثم احتضن الخوئي وهو ما يزال يبكي، وكان يشير الى المصائب التي لحقت بعائلة الخوئي منذ وفاة والده وهو تحت الاقامة الجبرية، ومرورا بالقاء القبض على شقيقه الاصغرابراهيم واعدامه عام 1991، ومن ثم اغتيال شقيقه الاكبر محمد تقي عام 1994. كما ان هناك اكثر من اربعين من عائلة الخوئي واصهاره لقوا حتفهم على ايدي سلطات صدام حسين.

كان من الصعب ابعاد الناس من حول الخوئي، فهؤلاء اهله ومحبوه وليس هناك من له الحق بمنعهم من تحيته، كما انه كان يرفض وبشدة منع أي شخص كان من السلام عليه والحديث معه، فقد كان خجولا، متواضعا، محبا للناس بشكل كبير، ولا يتردد عن تقديم المساعدة لكل من يطلبها او قبل ان يطلبها.

عندما تركنا الحضرة الحيدرية (هكذا يسمون مقام الامام علي)، كان هناك حشد من الناس يحيط بالخوئي ويمشون خلفه، وكان السؤال الملح حول حقيقة الاوضاع في بغداد، وفيما اذا كان نظام صدام قد انهار ام لا. ذلك ان اهالي النجف لا يريدون ان يكرروا تجربة عام 1991 عندما انتفضوا ضد صدام حسين وتخلت عنهم القوات المتحالفة التي سمحت لصدام وقت ذاك باستخدام الطائرات لقمع لانتفاضة خشية قيام نظام شيعي موال لايران، فخسرت كل عائلة نجفية تقريبا ثلاثة او اربعة من ابنائها سواء كانوا قد شاركوا في الانتفاضة ام لا.

* العراق للعراقيين

* عدنا الى موقعنا بعد الثانية عشرة ظهرا، وكانت اجهزة الاعلام العربية والاجنبية قد صحت على خبر وجود الخوئي في النجف الذي نشرته صباح ذلك اليوم صحيفة «الشرق الأوسط»، فانهالت على الخوئي المكالمات الهاتفية، بعد ان حصلوا على رقم الهاتف المتصل بالاقمار الصناعية من مقر مؤسسة الخوئي في لندن.

اتصالات من محطات تلفزيونية واذاعات وصحف ووكالات انباء غربية وعربية وهندية وباكستانية وفارسية.

كان هناك من يسأله عن تعليقات ايرانية واخرى من شخصيات شيعية في لبنان أو في اماكن اخرى من العالم حول الوجود الاميركي في النجف فكان الخوئي يرد قائلا «ان القوات الاميركية على بعد ثمانية كيلومترات من الاماكن المقدسة، وهذه القوات غير مسموح لها بالاقتراب من هذه الاماكن» ثم طلب من هذه الاصوات ان تترك الشأن العراقي للعراقيين وهم قادرون على حل مشاكلهم وادارة بلدهم بجدارة، وتساءل قائلا «اين كانت هذه الاصوات عندما كانت سلطات صدام حسين تظلم وتضطهد وتعدم العراقيين وتغتال العلماء من السنة والشيعة وتعتدي على الحوزة وتقصف الاماكن المقدسة في النجف وكربلاء والمدن العراقية الاخرى، لماذا لم تحتج هذه الاصوات او تعترض او تخرج في تظاهرة مضادة لممارسات صدام حسين ومناصرة للشعب العراقي؟».

وابدى الخوئي قلقه من التدخل الاجنبي في شؤون العراق والحوزة العلمية والمرجعية، والعمل على التفريق بين سنة العراق وشيعته او بقية الاديان وتهديم الوحدة الوطنية باسم الشيعة وبحجة الحرص على المرجعية، وبعد نقاش غير مطول تم الاتفاق على صياغة بيان في هذا الشأن، وانصرفت لصياغة وطباعة البيان الذي قرأه، وابدى ملاحظاته عليه، وعدل فيه، وكان كمن يقرأ مستقبل ما سيحدث بوضوح.

الا انه لم يتسن له للاسف نشر هذا البيان او توزيعه، والبيان ما يزال محفوظا في كومبيوتري الشخصي(لاب توب) منذ طباعته هناك.

قال الخوئي في بيانه «اليوم حيث يتحرر عراقنا بهمة شعبنا، من اجل اشاعة الحرية والحفاظ على حياة وكرامة وحرية كل العراقيين، وبجميع انتماءاتهم الدينية والقومية، يعز على البعض ممن يكنون الحسد والكراهية للعراقيين ان يروا شعبنا حرا كريما، وبلدنا متحضرا وفي طليعة دول المنطقة. كما يغيظ هذا النفر من العناصر الدخيلة، والتي تريد ان تتسلط على مقاديرنا وتحت تسميات مستوردة ومستنسخة من تجارب سياسية فاشلة كانت قد اقحمت الدين الاسلامي الحنيف، ومذهب اهل آلبيت، من شيعة علي، عليه السلام، محرضة المسلمين على عداء اهل الكتاب من الاديان الاخرى، وراسمة للاسلام في اذهان الاخرين صورة ارهابية لا تتناسب وموقف ديننا السمح. يغيض هؤلاء ان يتحول العراق الى بلد ديمقراطي دستوري، وان يختار الشعب العراقي نظامه باسلوب الاقتراع الحر ومن غير أي تدخل اجنبي مهما كان مصدره. لهذا يريد هذا البعض تدمير كل انجازاتنا التي ضحينا بالغالي والنفيس من اجلها، ودفعنا الارواح الزكية ثمنا نبيلا لها، وها نحن نناضل لاستمرارها وكي تعيش الاجيال المقبلة بعزها».

واجد من الاهمية ادراج فقرات اخرى من هذا البيان الذي قال فيه عبد المجيد الخوئي الامين العام لمؤسسة الخوئي في لندن «ان هؤلاء الذين يعلنون اليوم عن انفسهم تحت تسميات اسلامية شيعية او سنية، وخلال بيانات تمجد القيادات غير العراقية وتدعو الى الديكتاتورية الدينية والطائفية وتحت شعارات شوفينيةلا تخدم مصلحة العراق والعراقيين، ولاغراض سلب المرجعية الدينية من النجف الاشرف، مرقد سيد الائمة، الامام علي (عليه السلام) معتقدين ان شيعة العراق، سيتبعون اليهم ويناصرون شعاراتهم وخطاباتهم الموغلة في الطائفية».

وخاطب الخوئي العراقيين، محذرا اياهم من المحاولات (المشبوهة)، فقال «يا ابناء العراق الشرفاء: ونحن نخاطبكم باسم الدين والانسانية، وباسم العراق، وباسم النجف الاشرف، وباسم آل البيت (عليهم السلام)، ومرجعيتهم الرشيدة، لاخذ الحيطة والحذر وتحاشي مثل هذه الطروحات الطائفية التي تستهدف حريتنا وكرامتنا ووحدة شعبنا وسلامة ديننا ومذهبنا. تماما مثلما فعل صدام حسين ونظامه المقبور. ذلك ان شيعة العراق ما تبعوا طوال تاريخهم الا مرجعيتهم في النجف الاشرف,وما تعلموا الا في حوزتها العلمية التي تأسست عبر قرون من العلم والاجتهاد والتبليغ. تاريخ مخضب بالدم الطاهر والتضحيات الشريفة. وما نحسبهم اليوم سيضحون بكل هذا التاريخ المجيد والتضحيات الزكية وبارواح الشهداء الطاهرين، ويجعلون من انفسهم تابعين لارادة واهواء سياسات غيرهم.

تلك السياسات التي تبعد شيعة العراق عن دينهم ومذهبهم ومرجعيتهم, كما تشتت وحدتهم الوطنية وانتمائهم الوطني المخلص.

في الوقت ذاته نحذر من كل المحاولات المشبوهة التي تسيء الى شيعتنا ومرجعيتنا ووطنيتنا، رافضين وبشدة كل من يزايد على عراقيتنا وشرف انتماءاتنا، فنحن ما ناضلنا وصبرنا وضحينا وتحملنا قسوة نظام مجرم لنمنح ثمار هذا النضال لمن يريد اذلال العراقيين مرة اخرى.

ونهيب بابناء عراقنا المخلصين الانتباه والحذر من محاولة استغلالهم ومصادرة ارادتهم وكلمتهم من قبل مجموعة من الحاقدين الذين ينظرون، ويؤدلجون لحقدهم الاعمى على العراق تحت مختلف التسميات. والله ولي التوفيق».

بعد ظهر ذلك اليوم ابلغا بتحضير امتعتنا للانتقال الى مقر آخر اكثر قربا لمدينة النجف، من جهة، واكثر راحة من ورشة المعدات الثقيلة في معمل اسمنت الكوفة.