عراقيون يتهمون عناصر النظام السابق بحرق المباني الحكومية للتخلص من الوثائق السرية... والعراق سيواجه أزمة بسبب «إعدام السجلات الرسمية»

TT

يمرر مثنى جابر أصبعه على قائمة من الأسماء التي وضعت فوق نوافذ حافلة مهملة بوسط بغداد، ويتوقف فجأة محدقا النظر في القائمة ثم يقول بهدوء: «لقد وجدتهما.. انهما شقيقاي». لقد تمكن مثنى أخيرا من العثور، في نسخة من وثيقة تم استخراجها من ملف للامن، على اجابة لسؤال ظل يشغله لمدة 22 عاما. فهذه الوثيقة اكدت اخيرا أن شقيقي مثنى، اللذين اختفيا خلال عام 1981 من منزل العائلة، كانا قد اعتقلا. ولم يراهما أحد منذ ذلك الحين على الاطلاق. من ركام الحرب، ما يزال العراقيون يواصلون جمع المعلومات المتعلقة برعب نظام صدام حسين الذي استمر زهاء 24 عاما. كما يواصلون تجمعاتهم لتبادل الحكايات. والعديد منهم اقتحموا الأنفاق الأرضية السرية التي يعتقد انها ما تزال تحوي عشرات السجناء. لكن يبدو ان مهمة الكشف عن أسرار صدام صعبة لدرجة الجنون. ففور سقوط بغداد في التاسع من الشهر الحالي اشتعلت الحرائق في مبان عدة بأنحاء العاصمة. وقد أتت النيران على كل شيء، تاركة فقط ما يمكن اعتباره حطاما متناثرا في أنحاء جميع المباني الحكومية الرئيسية تقريبا. وبينما أمكن انقاذ بعض الأوراق من الحطام، تبدو أجزاء من الوثائق الرسمية والسرية مفقودة ـ أوراق قد تكشف عن أسرار نظام بشع وعما أصاب أناسا مفقودين. هذه الوثائق التي اختفت تعد بالنسبة للبعض سجلات أساسية لازمة للمواطنين العاديين الذين يرغبون في استئناف أعمالهم وتدوين مسيرة حياتهم.

ويقول سكان بغداد الفزعين انهم يعتقدون بأن مبانيهم العامة أحرقت بشكل منظم كمحاولة يائسة من نظام صدام. وهم مقتنعون بأن ما تم كان مسعى للتخلص من عقود من الأسرار والأدلة التي تؤكد أعمال التعذيب. ويقول على منصور، الذي شاهد مجموعة من الرجال وصلوا يوم 10 ابريل (نيسان) الى مبنى وزارة التعليم العالي وأشعلوا النيران فيها: «الطريقة التي أحرقوا فيها المباني بدت منظمة للغاية ومعدة مسبقا». هذا المبنى الشاهق الذي بني من الاسمنت المسلح وبات محترقا بنوافذه المحطمة، يقع بجوار منزل منصور. وهناك أيضا مبنى وزارة التجارة الهائل وكانت هناك لوحة لصدام تتدلى أعلى مدخل المبنى الضخم. الآن لم يعد هناك سوى حطام وآثار الحريق. وبداخل بهو المبنى هنالك فقط جدران محترقة وأرضية يكسوها الرماد وبقايا قطع الأثاث المحترقة. ويقول منصور، الذي يعتقد ان عمره قد تجاوز الستين عاما، ان سكان الحي أدركوا ان منفذي الهجوم على المباني كانوا من الموالين لصدام. ويضيف انهم وصلوا الى المنطقة بعدما كانت عمليات السلب والنهب قد بدأت، موضحا: «كان الناهبون يسألون أولئك عن سبب حرق الأشياء (لأن ذلك) محرم في الاسلام. وقد أجابوهم بالقول: أنتم واصلوا عملية السلب واتركونا نقوم بعملنا : اشعال الحرائق».

يشعر العديد في بغداد بأن الولايات المتحدة سمحت بتدمير معظم المباني الحكومية. ويقول هؤلاء ان القوات الأميركية حددت موقفا بحماية مبنى وزارة النفط بمجرد وصولها الى العاصمة. ذلك انه كان المبنى الوحيد لوزارة هامة لم يتعرض للأذى. والجهد الذي بذل لحماية ذلك المبنى ساهم في تأجيج مشاعر العراقيين بأن الولايات المتحدة اهتمت فقط بثروة البلاد النفطية.

كما ان مبنى وزارة الداخلية، الذي قد يحتوى على وثائق ذات علاقة ببرامج أسلحة العراق المحظورة تعرض لأضرار نسبية، بعدما وفرت له الدبابات الأميركية شيئا من الحماية عقب سقوط بغداد.

لقد احتفظ العراق ولسنوات عديدة بسجلات دقيقة. أما الآن فقد تم حرق وثائق حكومية لا تحصى، كتلك المتعلقة بملكية العقارات والسجلات التجارية وعوائد الضرائب وبيانات العربات ووثائق الطلاق - وغيرها مما يخص مهام الدوائر الحكومية. ويقول سكان بغداد انهم فقدوا وثائق هامة خلال تلك الحرائق. ويوضح عفيف سرحان، وهو في الرابعة والعشرين من عمره، انه اقتحم كلية الصيدلة في جامعة بغداد لانقاذ سجلات الدارسين في الكلية، لكنه لم يعثر عليها. وكان سرحان على بعد شهرين من التخرج قبل أن تندلع الحرب، وهو يقول: «أصحو كل يوم من النوم وأنا أتمنى لو ان هذا لم يحدث. انه حلم مزعج. فالدارسون ليس لديهم ما يثبت علامات اختباراتهم».

أما ابن عم سرحان، جمال جمعة، وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، فقد قال انه استورد اخيرا شحنة من السكر تبلغ قيمتها 150 الف دولار لصالح الحكومة. وحتى الآن لم يحصل على نقوده. فقد ضاع عقد الاتفاق عندما أشعلت النيران في مبنى وزارة التجارة. وفقدت زوجة جمعة، هديل المشهداني، وهي في الثالثة والثلاثين من عمرها، شهادة تثبت انها طبيبة جراحة أسنان، عندما أحرقت مباني وزارتي الصحة والتعليم العالي. فحكومة صدام منعت الأختصاصيين الطبيين من الاحتفاظ بوثائقهم في منازلهم لمنعهم من مغادرة البلاد للعمل في دول أخرى. وكانت جماعة حديثة لحقوق الانسان قد ذكرت الثلاثاء الماضي انه تم العثور على عشرات الآلاف من الوثائق السرية التي تشير الى حوادث الاعدام والاعتقال والاستجواب في ظل نظام صدام، وذلك في المباني وأماكن اقامة الموظفين السابقين في أجهزة الأمن العراقية. وقال ابراهيم الادريسي ، مؤسس لجنة السجناء الأحرار، لوكالة الأنباء الفرنسية الثلاثاء الماضي «لدينا العديد من الملفات وهناك المزيد مما نتوصل اليه كل يوم». وقال ان العديد من الوثائق أحرقت وتم تدميرها على أيدي مسئوولين كانوا يخشون من ترك آثار تدينهم، مضيفا «لكننا تمكنا من انقاذ العديد منها وسنستخدمها لتخفيف معاناة أولئك الذين تعرضوا لأذى».

وبالنسبة لجابر وغيره، كانت حرائق بغداد الهائلة سببا في المزيد من الألم والاضطراب. فقد اكتشفوا وثائق فسرت جزءا مما أصاب شقيقيه المفقودين. وقوائم الأسماء التي تم عرضها في نوافذ الحافلة المهملة بحي الكراده في بغداد، كانت من بين الوثائق المحدودة التي تم انقاذها مما أصاب مقر الشرطة السرية في الحي. ورغم ان جابر عثر على دليل مكتوب يؤكد اعتقال شقيقيه، الا أن الوثائق التي قد تفسر ما حدث فيما بعد ، ما زالت مفقودة. ويقول جابر، الذي عثر على اسمي شقيقيه من بين من اعتقلوا في ذلك العام: «ظلت والدتي تبكي منذ عام 1980 بدون توقف. والآن سيتوجب عليها التأقلم مع ما حدث».

تلك المعلومة ظهرت من بين وثائق تم انقاذها خلال الساعات الأخيرة المضطربة لنظام صدام، بعدما تخلى العاملون في الشرطة السرية عن مكاتبهم. ويقول حسن الحسيني، 34 عاما، والذي يعمل في متجر للأغذية، وساهم في انقاذ الوثائق: «انتزعت ما أمكنني من الورق قبل أن يتمكنوا من احراقها. وبعد فترة قصيرة من اشعالهم النيران في المبنى».

ويضيف الحسيني: مع اندلاع الحرب، توقع سكان بغداد أن يقوم المسؤولون بتدمير الوثائق التي تفسر عقودا من الاعتقال التعسفي وأعمال القتل. ولذلك فعندما اتجهت الدبابات الأميركية نحو العاصمة، في الثامن من الشهر الحالي، وضع الحسيني ومجموعة من أصدقائه خطة للتحرك نحو مكاتب الشرطة السرية الكائنة في حي الجادريه الراقي.

لقد بدا مبنى المكاتب الكائن في شارع رقم 31 والمكون من طابقين، مشابها لغيره من المباني المحيطة، مع حجب الأشجار لرؤية نوافذ طابقه الثاني. لكن ثلاثا من غرف الطابق الأعلى مكسوة الآن بالدخان. وقد تناثر الرماد في أنحاء المبنى دليلا على حرق الملفات والأوراق. والخزائن الحديدية لحفظ الوثائق بدت مهشمة من الحريق. ويقول وسام عبد اللطيف، دارس اللغة الانجليزية في الـ 21 من العمر الذي يسكن في الجوار، انه شاهد عملية التدمير من مسافة آمنة. أما الحسيني فيقول انه هرول الى المبنى خلال فترة وجيزة في 10 ابريل (نيسان)، قبل أن يأتي الرجال لاشعال الحريق فيه. واضاف «لقد أراد رجال الاستخبارات أن لا يتركوا أثرا على ما فعلوه. وكانت الحرائق أفضل وسيلة لتدمير الوثائق الخاصة بالحكومة السابقة». وقال الحسيني انه أراد القيام بمهمة خاصة. فقد أراد العثور على معلومات بشأن ابن عمه المفضل، الذي اختفى وهو في الثامنة عشر من عمره. وقد عثر الحسيني على الملف. وقد تضمن العنوان الذي حمله ذلك الملف، مصيره المؤلم: «ان ماجد الحسن أعدم في عام 1982».

* خدمة «يو اس ايه توداي» و«تريبيون ميديا سيرفيسس» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»