الأميركيون يجدون أنفسهم في تحالف غريب مع بقايا البعثيين ويواجهون مشاكل متزايدة في رسم مستقبل البلد

محللون: تركيز الأميركيين على إطاحة صدام دون التخطيط لما بعده فتح عليهم مستودع كل الشرور

TT

بعد ما يقارب الشهر من سقوط بغداد في ايدي القوات الأميركية ما تزال جهود اعادة البناء والتعمير محاطة بالعثرات: معدلات الجريمة شهدت ارتفاعا كبيرا، الغضب الشعبي يتصاعد نتيجة للبطالة وانعدام الأمن، كما ان الديمقراطية التي وعد بها الرئيس الأميركي جورج بوش تكتنفها المخاطر من كل جانب.

هذه الفوضى المتصاعدة في بلاد تعودت على الاستقرار المطلق الذي كان يفرضه القهر المطلق لنظام صدام حسين، جعلت الناس يشعرون بشكوك عميقة حول نوايا الأميركيين، ان لم تكن قد استبدت بهم نزعات عداء كاسحة ضد الولايات المتحدة. وفي حراكها العنيف للاستيلاء على السلطة وملء الفراغ، فان التجمعات الدينية والقبلية والجهوية تهدد بتمزيق البلاد وليس توحيدها.

وتدل المقابلات مع المحللين السياسيين وزعماء المنفى والعراقيين العاديين، كما تشهد التطورات التي يعج بها المسرح السياسي العراقي، على ان القوة الأميركية للسيطرة على العراق وصياغة مستقبله، معوقة بانعدام اليقين لدى الأميركيين انفسهم.

وبصرف النظر عن الزاوية التي ننظر منها، فانه يتضح لنا ان الأميركيين لم يكونوا مستعدين مطلقا لما كان ينتظرهم في العراق. ولا نستثني من ذلك الهموم العادية مثل العمل دون هواتف، او القضايا الكبرى مثل كيفية التعامل مع رغبة كثير من العراقيين في اقامة دولة اسلامية. قال وامض نظمي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة بغداد: «انشغل الأميركيون والبريطانيون الى درجة الهوس بازاحة صدام، وكانما كانوا يعتقدون ان صدام كان السبب الوحيد لكل المآسي التي يعاني منها العراق. ولكنهم فتحوا مستودع الشرور الشهير».

ويقول المسؤولون الأميركيون انهم واعون تماما لأهمية الزمن. وقال لويس لوك، قائد عمليات الاعمار في فريق جاي غارنر: «نحن نتحرك بأقصى سرعة نستطيعها. ولكنني لا اعتقد انها سرعة كافية».

ويشير المسؤولون الأميركيون الى ان الكهرباء عادت الى اغلب اجزاء البلاد، وان النفط بدأ استخراجه في الحقول الجنوبية، وان كثيرا من قوات الشرطة والمطافئ وفرق الطوارئ صرفت لها اعانة بمقدار 20 دولارا للفرد وهم يعودون حاليا الى اعمالهم. وهناك نجاحات محلية ايضا، اذ ساعد بعض القادة العسكريين على فتح المدارس وحماية المرافق العامة من النهب. لكن المسؤولين الأميركيين كثيرا ما تكبل خطاهم الرغبة في ادارة البلاد ووضعها على رجليها، دون ان يظهروا كقوة احتلال قاهرة. وهناك عقبات جمة تعرقل اشاعة الأمن واعادة الخدمات واقامة الحكومة الجديدة. ومن الامثلة المحددة على ذلك:

ـ النهب الذي بدأ بعد سقوط صدام بيوم واحد يجب ان ينتهي. فأول من امس مثلاً اقتحم جمع من الناس مبنى تركته القوات الأميركية دون حماية. واذا استمر غياب الشرطة من الشوارع فان ذلك سيحول نزعات الفوضى والانفلات الى ثقافة سائدة. وقد انتعشت تجارة السلاح في شوارع بغداد الخلفية وانتشر النهب المسلح والسرقات بالسيارات.

ـ مكتب اعادة الاعمار والمساعدات الانسانية، المسؤول عن ادارة شؤون البلاد والذي يرأسه الجنرال جاي غارنر، لم يتمكن بعد من جعل وجوده ملموسا. ونسبة لان وسائل الاعلام في المدينة انحصرت في محطة اذاعة واحدة، فان مكتب غارنر لم يهتد بعد الى الوسيلة المناسبة للتخاطب بها مع الناس. ولا يوجد أي مكتب حكومي يمكن للمواطنين العراقيين العاديين ان يقصدوه لحل مشاكلهم وقضاء حوائجهم.

ـ كثير من العقود الاساسية لاعادة بناء العراق لم تمنح الا بعد بداية الحرب، وينتظر كثيرون من المستثمرين بفنادقهم في الكويت حتى تصدر الاشارة من القوات الأميركية بأن الأمن قد توفر وانهم يمكن ان يتحركوا نحو العراق.

ـ تحاول الولايات المتحدة المساعدة في اقامة حكومة عراقية جديدة، لكن زعماء المنفى العراقيين الذين كانت الولايات المتحدة تعول عليهم كثيرا لم يتمكنوا من الحصول على سند يؤبه له وسط جماهير الشعب. اما المنظمات القوية سياسيا، مثل منظمات الشيعة المدعومة من ايران فقد اظهرت عداء سافرا للولايات المتحدة واهدافها.

ـ غياب الوجود المادي للأميركيين زرع الشكوك وسط العراقيين حول نوايا الولايات المتحدة وسبب كثيرا من الاحباط للمواطن العراقي العادي. وما زال الناس ينتظرون تعميم الخطوات المتواضعة على طريق اعادة الاعمار مثل صرف بعض الحوافز لبعض العاملين، على كل انحاء البلاد. وفي مدينة الناصرية على سبيل المثال، طالب المعلمون بصرف مرتباتهم كما ان مجلس المدينة الذي تكون حديثا هدد بالاستقالة اذا لم تصرف مرتبات كل العاملين بالسلك الحكومي.

لكن مهما تكاثرت معضلات الولايات المتحدة في العراق، فان المعضلة السياسية هي اعظمها واشدها خطرا. فهذه البلاد تتكون من فسيفساء معقدة من المجموعات المتنافسة على اسس دينية وطائفية وقبلية واثنية. وكان المدخل السياسي للولايات المتحدة، الى مسرح العراق هو مجموعات المنفيين الذين قدمت لهم الدعم في الولايات المتحدة وفي بريطانيا. ومع ان هذه المجموعات منظمة وتتحدث لغة الولايات المتحدة وتدعو الى الديمقراطية والحكومة المسؤولة، فان سندها الشعبي ضعيف ومحدود.

واتضحت هذه الروح المتشككة اثناء صلاة الجمعة في المنطقة التي كانت تُعرف باسم «مدينة صدام» والتي تقطنها اغلبية شيعية. فمع تهيؤ اكثر من 20 ألف شخص لاداء الصلاة راح الكاتب غيلان الطائي يردد اسماء التنظيمات السياسية القادمة من المنافي والمدعومة من المسؤولين الأميركيين، وقال: «هذه الاحزاب كلها جديدة ونحن لا نعرف أي شيء عنها ولعلها تأسست من قبل الأميركيين لذلك كيف يمكننا ان نثق بها؟».

ومع مساعي هذه التنظيمات، التي تضم عراقيين كانوا يقيمون في المنفى قبل سقوط صدام، لبناء قواعد لتقوية سلطتها راح قسم منها يبعث باشارات يمكن تاويلها بأن هذه التنظيمات تريد فرض قوانينها الخاصة بها على الآخرين. فهي تتحرك مع حراس مدججين بالسلاح وفي بعض الحالات قامت بمصادرة بيوت وبنايات لاستعمالها الشخصي.

واذا كانت الولايات المتحدة قد ظلت تتحدث باستمرار عن اهمية الزعماء العراقيين من الداخل الذين كسبوا اعترافا جماهيريا فان هؤلاء هم في الغالب رجال دين ويدعمون بدرجات مختلفة ظهور دولة اسلامية في العراق، وكان أحدهم هو الشيخ محمد الفرطوسي الذي اعتقل من قبل القوات الاميركية لفترة قصيرة في بغداد ولم يتضح لحد الآن سبب اعتقاله.

وعلى الرغم من ان القوات الأميركية افرجت عن الفرطوسي بعد بضع ساعات، فان الحادثة خلقت ردود فعل حادة بين الشيعة وزادت من تسليط الضوء على هذه الشخصية الدينية.

ومع عدم منح الولايات المتحدة أي اهتمام متميز للزعماء من داخل العراق اصبح اولئك الذين عادوا من المنافي اكثر ثقة من انهم سيسيطرون على المرحلة اللاحقة للحكومة العراقية. وقال زاب سثنا المتحدث باسم المؤتمر الوطني العراقي الذي يتزعمه احمد الجلبي والذي يحظى بتأييد وزارة الدفاع الأميركية وحصل على دعم مالي من وزارة الخارجية الأميركية، ان «الأميركيين قد ادركوا ان الحديث الكثير الذي ظل يدور حول ظهور زعامة من الداخل ليس سوى وهم». واذا كانت الولايات المتحدة تركز كل اهتمامها على هذا النوع من المناورات فان جماعات اخرى غير مرتبطة بواشنطن راحت وبشكل هادئ تكسب مواقع بين الناس في مناطق بغداد الفقيرة وفي اوساط الشيعة في جنوب العراق وفي المناطق القبلية السنية. فبدلا من ان تحاول هذه الجماعات ان تؤسس احزابا سياسية اتخذت قرارا سياسيا استراتيجيا من جعل نفسها ضرورية لجمهورها. فبعد مرور عشرة ايام على سقوط بغداد بدأت المساجد بتزويد خدمات اساسية لم تستطع الولايات المتحدة تنظيمها مثل توزيع الماء وجمع القمامة وتوفير الأمن.

اما القوة الموازية الاخرى من وجهة نظر المحللين فهي تضم انصار حزب البعث الذي كان يدير البلد بأكمله، اذ ان هؤلاء يعرفون كيف ينظمون الناس ولديهم قاعدة سياسية ومعرفة ادارية ملموسة. لكن بالنسبة للولايات المتحدة فان أي تحالف مع البعثيين هو سيف ذو حدين، اذ بدونهم تصعب عملية ادارة البلاد وبالعمل معهم تتجذر مشاعر الشك لدى العراقيين حول نوايا الحكومة الاميركية.

وحتى الآن، لا يزال المسؤولون الأميركيون يحاولون استخدام الطريقتين مع البعثيين. فلاعادة شبكات الكهرباء والهواتف وادارة الوزارات يعمل المسؤولون الأميركيون مع الكوادر الوسطى المنتمية لحزب البعث. ويزعم الأميركيون ان الموظفين البيروقراطيين هم غير مسيَسين وان الوزراء فقط هم الذين يرتبطون بصدام حسين. لكن آخرين يقولون ان الوضع غير واضح تماما. وقال سثنا المتحدث باسم أحمد الجلبي: «لقد كنا صريحين جدا مع غارنر والحكومة الأميركية بأنه من الخطأ اعادة البعثيين الى مواقع السلطة، فهذه هي الطريق الاسرع لخلق مشاعر العداء للولايات المتحدة».

وما يعقد المشكلة ان الكثير من المتعاقدين الذين اختارتهم الولايات المتحدة لم يصلوا بعد الى العراق او انهم بدأوا للتو اداء عملهم. فعلى سبيل المثال تعاقدت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية يوم 11 أبريل (نيسان) الماضي مع «معهد البحوث المثلثية»، ومقره نورث كارولاينا، لتاسيس 180 ادارة محلية في العراق. ووفق العقد الذي قيمته 167 مليون دولار سيكون واحد من المهام المطروحة على هذه المؤسسة هو المساعدة على اختيار العراقيين «المناسبين» لملء المناصب الحكومية في القرى والمدن.

لكن المنظمات الانسانية التي لا تعمل من اجل الربح لن تبدأ بالوصول الى بغداد قبل غد (الاربعاء) وفي ظل غيابها قام كل شخص سواء كان بعثيا سابقا او رجل دين قريباً من الايرانيين بتنصيب نفسه في مواقع بارزة في شتى انحاء العراق. ويعتقد الكثير من العراقيين انه سيكون صعبا جدا على الأميركيين ان يحسِّنوا الاوضاع ويكسروا دائرة العطب القائمة في عمل المؤسسات الحكومية ناهيك عن التمكن من كسب تأييد الناس لهم. وقال عبد علي الكبيسي تاجر الحرير من مدينة الفلوجة الذي اغلق محله خوفا من السرقة: «وعدنا الأميركيون بتوفير العمل والأمن والسلامة ولم يتحقق أي من هذه الاشياء».

* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»