جولة في أسواق السلاح الجديدة في بغداد: الكلاشنيكوف والعوزي حلا محمل قطع غيار السيارات

TT

ادت حالة الفوضى واللاسلطة في العراق الى انتشار اسواق السلاح على اختلاف انواعه، اذ اصبحت بعض الاحياء البغدادية قبلة للعراقيين الباحثين عن الأمان بين معروضات السلاح التي خلفها الجيش العراقي خلال انسحابه من المعركة.

اعمار اسواق السلاح البغدادية لا تتعدى الاسبوع او الاسبوعين، لكن السوق التي دخلتها قبل مغادرتي العراق قبل ايام كان عمرها لا يتجاوز الايام الثلاثة، في منطقة العلاوي الحلة وسط بغداد، وتحديدا في شارع 6، بينما «نشأت» سوق أخرى في منطقة الكفاح وفي بغداد الجديدة اي على جانبي ضفتي نهر العاصمة. لكن، يومها لم يسعفني الحظ كثيرا لرؤيتها في شديد حركتها، نظرا لوصول انذار قبل لحظات من وصولي مع الدليل اليها، اذ استنفرت دوريات عسكرية اميركية بالقرب من المكان باعتها، ودفعتهم الى اخفاء بضاعتهم، خشية توغل المدرعات المحصنة داخل الحي في مسعى لفرض الامن على ازقة واحياء تتدحرج تحت ثقل حرمانها الى بؤر دائمة التوتر.

سوق السلاح في شارع 6 لا تشبه غيرها من اسواق السلع الاستهلاكية العريقة في بغداد كونها «متحركة»، اذ ان الكثير من رجالها واطفالها من الباعة، «يرتدى» بضاعته المشكلة من ابسط القطع النارية الى المتفجرات والكلاشنيكوف وقطع لا اتذكر اسماءها، ولو تفنن بعض التجار في ابراز تقنيات استخداماتها لي وكأنهم يتحدثون عن جهاز كومبيوتر او آلة تصوير او اي آلة «مسالمة» اخرى وليست فتاكة كتلك التي بين ايديهم. وتحاشيا لطلقة «صديقة» كنت اتحدث مع التاجر وكل اهتمامي مع تصويب اتجاه فوهة الكلاشنيكوف او الرشاش الاسرائيلي (عوزي)، اللذين كان يحملهما نحو السماء. الجولة في السوق، التي تشمل رصيفين من ذات الشارع، لم تتجاوز العشرين دقيقة، لكنها بدت اطول، فلدى دخول الحي كانت الابتسامة ترتسم على التجار من الاحداث، اذ عززت هذه المهنة احساسهم برجولتهم في سن وظرف من حياة بلادهم تفكك فيه كل شيء وسادت الشبهات الجميع. فحمل قطعة السلاح اصبح رمزا للرجولة والقوة والامان وحتى احيانا للانتماء.

اما الاكبر منهم سنا، فبدوا اكثر عصبية في الحديث، مشككين في نية التحقيق وان اي كتابات حول المسألة ستثير الانتباه الى حيهم الذي لم يكن في السابق الا شارعا متخصصا في بيع قطع غيار السيارات، التي جلها كانوا يأتون بها من دولة الامارات. واسرع نحوي احد سكان الحي حاملا ابنته على ذراعه، وهو يعترض صارخا: لماذا تريدون الكتابة عن هذه التجارة، فهؤلاء الشبان سينصرفون الى اشغالهم بعد ايام بعد ان تعود حركة البلاد الى طبيعتها»، مضيفا «انها مجرد مصدر رزق ظرفي لا اكثر».

صيحة لم يشاركه فيها غيره من الذين استحلوا مداخليها فهم ليسوا بتجار ريح بل سلعتهم حقيقية ومداخيلهم بآلاف الدنانير وعشرات الدولارات تدخل جيوبهم يوميا لكثرة المقبلين عليها. ووعود الجنرال الاميركي لاعادة تشغيل مؤسساتهم التي دمرتها الحرب تبدو خيالية الى أجل غير مسمى وهم في حاجة لاطعام اسرهم.

التقيت بشاب كويتي (بائع اسلحة) لم يستطع العودة الى الكويت منذ حرب الخليج الثانية، قالت لي والدته وهي سيدة عراقية هرعت من بيتها لدى رؤيتي اتحدث معه من نافذة بيتها: «ان ابني ابعد عن والده منذ اكثر من 10 سنوات ولم يلتقه الا قبل ثلاث سنوات وينتظر ان يعود مثل غيره، وهم كثيرون، الى الكويت». وترجتني والدة الشاب بعدم نشر صورة ابنها من خشيتها عليه، كونه من بين الشبان القلائل الذين رحبوا بالاستعراض امام كاميرتي، وكأنهم أبطال في افلام العنف الاميركية التي تعودوا على استنساخ نسخها وتوزيعها بينهم خلال سنين الحصار. وللعلم فان بغداد، قبل سقوط نظامها وجدت بها محلات متخصصة في بيع السلاح الخاص اساسا بالصيد، بحسب مصادر عراقية، لكن في الواقع فان البيت العراقي، عموما، لم تغب عنه «تحفته العسكرية»، ضمن مخطط عسكرة المجتمع وديمومة استعداده لحمل السلاح في اي لحظة.

جولتي الى السوق، (المتكونة من رصيفين) استغرقت نحو 20 دقيقة، لكن مغادرتها بدت وكأنها سنة امام تعكر الاجواء واقبال احدهم على تهديدي ومن معي بسرعة مغادرة المكان، إذ الحديث في عراق اليوم، في رأيه، لا يتم مع امرأة، قائلا له: انصحك ان تأخذها وتطلع، (اي تغادر)».

وحتى وان وددت ان نتبخر حينها امام لهجته ومجموعة الرصاص التي على طاولته، الا ان العمل بالنصيحة سيدل على ضعفنا وربما يشكك في اهدافنا. فرحنا نغادر، من دون ان نغادر متسكعين، ومحاولة ان نتوقف مع اي شخص اراد الحديث معنا في طريق العودة.

وبدأ البعض يرشقوننا بشيء من الحجارة او ما يشبهها، ما همني انها لم تكن رصاصات تنخر جسدينا. وهكذا، وصلنا الى السيارة، حيث كان السائق في انتظارنا فقلنا له ان يسرع في مغادرة المكان من احد الازقة المجاورة الخالية من وجود التجار المسلحين.

وبعد ان غادرنا المكان الى آخر أكثر أمانا، اطلعني مرافقي، ان السوق الواقعة في بغداد الجديدة شهدت قبل يومين اشتباكا بين تاجرين فيها لم يتفقا على سعر «القطعة» فأدى الاشتباك الى سقوط التاجرين قتيلين وجرح العديد من سكان الحي.