كيسنجر: مشكلة أميركا مع سورية ليست النظام لكنها بسبب تنظيمات مثل «حزب الله»

العراق ليس ألمانيا.. ونحتاج إلى توافق حول مفهوم «الحروب الوقائية» * بعد 11 سبتمبر برزت مشكلة خصخصة السياسة الخارجية من قبل الإرهابيين وبروز أسلحة الدمار

TT

رأى وزير الخارجية الاميركي الاسبق هنري كيسنجر ان «الحرب الوقائية» التي شنتها الولايات المتحدة ضد نظام صدام حسين جاءت في اطار التحول الذي طرأ على النظام الدولي عقب هجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001، واعتبر في مقابلة اجريت معه وتنشرها «الشرق الأوسط»، ان يوم 11 سبتمبر «جلب معه تحدياً دولياً جديداً يتمثل في خصخصة السياسة الخارجية على ايدي منظمات ارهابية غير حكومية تمول من دول قائمة رغم ان اهدافها غير متطابقة مع اهداف تلك الدول». وقال ان «المبادئ القائمة للسياسة الخارجية لا تنطبق على هذه التنظيمات، اذ ان الردع غير مجد مع هذه الجماعات التي لا تملك ما تدافع عنه»، كما ان «الدبلوماسية لا تجدي مع هذه الجماعات التي لا تريد التوصل الى تسوية». ورأى ان هناك نظاماً عالمياً جديداً «ينشأ من انهيار الشيوعية، واسلحة الدمار الشامل، وخصخصة السياسة الخارجية، وعولمة الاقتصاد، والفجوة بين العولمة الاقتصادية والسياسية، وهذه كلها مشاكل ضخمة، لم تحدث قبل هذا العصر».

وفي ما يلي نص الحديث:

* كتب الفيلسوف الالماني جورغن هابيرماس في الآونة الاخيرة ان الولايات المتحدة بشنها الحرب الوقائية ضد العراق، فقدت سلطتها الاعتبارية في العالم. هل توافقون على ذلك؟

ـ أنا شخصيا احترم جورغن هابيرماس كثيراً، لكن انتقاده لم يأخذ بعين الاعتبار الحقيقة المهيمنة في زمننا: التحول من نظام عالمي تشكل بموجب معاهدة ويستفاليا (عام 1648) الى نظام جديد لا يزال يتشكل. فقد اسندت مبادئ تلك المعاهدة النظام على سيادة الدول وعرفت العدوان بأنه تجاوز الحدود الدولية بواسطة وحدات نظامية. لكن يوم 11 سبتمبر 2001 جلب معه تحدياً دولياً جديداً تمثل في خصخصة السياسة الخارجية على ايدي منظمات غير حكومية تحظى ضمناً او بشكل مباشر بدعم دول تقليدية. كما ان انتاج اسلحة الدمار الشامل يجلب معه تهديد الدمار العالمي.

* لكن ما علاقة هذا بالعراق؟

ـ في تفكير اولئك الذين تحملوا مسؤولية القرار، اختلطت مشكلة انتاج اسلحة الدمار الشامل بمسألة الارهاب في المنطقة التي انبثقت منها هجمات 11 سبتمبر. وأنا أتفق مع ذلك من ناحية ادراكية. تلك هي المشاكل التي تحتاج الى حد ما لحل استباقي، بحيث ان المرء لا يمكنه انتظار وقوع عمل عدواني سبق حدوثه بالفعل.

* تقصدون الهجوم الوقائي؟

ـ فقط انطلاقا من شعور وجوب مواجهة التهديد قبل ان يتحول الى واقع. لكنني لا اوافق على انه في المدى البعيد يمكن لدولة ما بمفردها ان تعرف طبيعة التهديد ومضمون الحرب الوقائية. لذلك، لا بد من اجراء نقاش بين اميركا وحلفائنا على وجه الخصوص اضافة الى دول اخرى، يتعلق بمبادئ الحرب الوقائية التي يمكن تبريرها والقبول بها. وفي حالة العراق، كان هناك وضع اضطراري لديه جذور تاريخية وتطلب اجابة قصيرة المدى الى حد كبير. وهكذا، فقد ايدت ادارة (الرئيس الاميركي جورج) بوش. ولن ادعم المبدأ على انه قاعدة عامة، دون بذل مساع اضافية لجعله قائما على اسس دولية.

* هل يمكن فرض السلم بالحرب؟

ـ ذلك يعتمد على ما تعنيه بالسلم. فكرة توفر السلم بدون توتر تعد بناءً فلسفيا لم تتوفر على مدى التاريخ. هل كانت هناك فترات من السلم نتجت عن حروب؟ بعد 100 عام من عصر نابليون، لم يشهد العالم حروبا كبرى. وهل يمكن للحرب تسوية جميع المشاكل؟ بالتاكيد لا. وهل يتوجب ان تكون الحرب الوسيلة الاولى؟. لا. لكن أيا من الحالتين لم تنطبق على العراق. ثم هل يمكن للحرب ان تحل ايا من المشاكل؟ هنا يمكن الاشارة الى ان المانيا تعي من تجربتها الخاصة ان الحروب بسرائها وضرائها جلبت معها العديد من التحولات.

* مفهوم الحرب الوقائية

* هل تعتقدون ان قرار الولايات المتحدة كان صائبا بشن الحرب ضد العراق بدون تفويض من الامم المتحدة!

ـ لقد ايدت بدرجة اساسية ادارة بوش في ما يتعلق بالحرب ضد العراق. معظم ازمات الحرب الباردة، مثل تلك المتعلقة ببرلين، تم التعامل معها بدون تفويض من الامم المتحدة. حربان فقط منذ الحرب العالمية الثانية كانتا بتفويض من مجلس الامن الدولي، وواحدة منهما نتجت عن حادثة مقاطعة السوفيات لمجلس الامن.

* بالنظر الى النقاط التي اثرتها لم يتوفر دليل في العراق. ولم يتم العثور على اسلحة دمار شامل بعد، كما ان مسألة العلاقة مع تنظيم «القاعدة» ضعيفة للغاية.

ـ تحدثت مع مسؤولين في الاستخبارات الاميركية والبريطانية في الادارة الاميركية السابقة. ولم استمع الى من يشكك في انه كانت هناك اسلحة دمار شامل. لم استمع الى دليل مناقض لما استند عليه الرئيس بوش ولما جعل الرئيس (الاميركي السابق بيل) كلينتون يوشك على شن حرب عام 1998.

* اذا كانت الادارة الاميركية واثقة للغاية من وجود اسلحة دمار شامل في العراق، فلماذا اشار وزير الخارجية الاميركي كولن باول الى العلاقة النووية مع النيجر في مجلس الامن، والى معلومات اخرى اثبت المفتشون فيما بعد انها كانت مزيفة؟

ـ بالتأكيد، كان ذلك رأيا نزيها من كولن باول، وهو رجل صاحب شخصية فذة.

* اذا فالخطأ يقع على عاتق العاملين في أجهزة الاستخبارات.

ـ أنا لا اقبل فرضيتك.

* هل تعتقد ان الولايات المتحدة محقة في ارسال مفتشي الاسلحة التابعين لها الى العراق؟

ـ عقب حرب شنت بسبب امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، يتحتم ان تبدأ الولايات المتحدة بالبحث عن هذه الاسلحة. وهذا النوع من الاسئلة يوحي بشيء من الخطأ الاخلاقي من قبل اميركا.

* ماذا سيحدث اذا لم يعثر المفتشون الاميركيون على اي شيء هم ايضا؟

ـ اذا لم يعثروا على أي شيء، يمكن للمرء ان يتفحص الأخطاء التي ارتكبت، لكنني لا أعتقد ان هذا سيحدث. وعلى اية حال، على المرء ان لا يشكك في النيات الحسنة لاولئك الذين اتخذوا القرارات. ولما كنت قد ألمحتَ الى ضرورة اللجوء لمفتشي الامم المتحدة، فما هو الغرض من اللجوء لوسيلة صممت للتعامل مع صدام حسين؟

* يمكنهم الآن الحصول على معلومات من العلماء العراقيين وغيرهم من الخبراء.

ـ نفس الشيء يستطيع فريق البحث الاميركي القيام به. لقد تأسس فريق مفتشي الامم المتحدة للاشراف على ما اذا كان صدام حسين يخفي اسلحة دمار شامل. ومع انتهائه، ماهي الفعالية التي بأيديهم؟ أرجو ان توضح لي: لماذا يضطر المرء لاقحام نفسه في هذه السلوكيات المعقدة التي لا يمكنها الخروج بنتائج يمكن استيعابها، اكثر من مجرد تأسيس نوع من الشرخ المعنوي؟

* لأن الدول الاخرى تود ان يسمع صوتها؟

ـ هناك اساليب افضل لاسماع صوتها، ودول اخرى تمكنت من القيام بذلك. المانيا وفرنسا تتخذان موقفا فريدا.

* وروسيا؟

ـ الا تعتقد انه مزيج غريب. المانيا وروسيا وفرنسا، وبعد ستة اشهر من توسيع حلف شمال الاطلسي؟ ان هذا لن يستمر كسلاح دائم يستهدف اميركا.

* ما بعد صدام

* لقد حققت الولايات المتحدة نصرا في الحرب في العراق، فهل ستحقق السلم؟

ـ السلم تعبير نسبي. بالتأكيد ان الوضع سيتحسن مقارنة بما كان عليه في ظل صدام. قد يكون الأمر شاقا، كما قد يكون أسهل لو تحسنت علاقات طرفي المحيط الاطلسي.

* ما هي تلك التي ستكون اكثر القضايا صعوبة؟

ـ توفير الاستقرار، واقامة حكومة توفر النظام وفي الوقت نفسه تلقي بالمسؤولية على عاتق اغلبية السكان. وبالنظر الى اختلاف القوميات والديانات، يبدو انها مسألة صعبة التحقيق.

* من يتوجب عليهم ان يكونوا في الحكومة المؤقتة وتلك التي ستليها؟ الاميركيون، احمد الجلبي.. ام من؟

ـ أي أطراف لديها القدرة على اثبات انها تستطيع انتزاع تأييد الناس. يمكن للجلبي ان يكون احد المتنافسين. لكنني اعتقد ان طبيعة زعيم العراق يمكن ان تتشكل في اعقاب بدء عملية سياسية. ففي عام 1945 كنت جنديا اميركيا في المانيا المحتلة، لكنني لم اسمع شيئا عن (كونراد) ادناور. ولم اشهد اسم ادناور يذكر في عام 1945، باعتباره واحدا ممن سيرأسون الدولة.

* في ألمانيا لم يكن هناك العديد من الجماعات العرقية والدينية المختلفة؟

ـ لا أعتقد ان احتلال المانيا يمكن مقارنته بالوضع في العراق. لقد كانت مشكلة مختلفة تماماً.

* هناك معارضة شديدة ضد تشكيل حكومة عسكرية مؤقتة؟

ـ لا يستطيع المرء الحديث عن المزاج العام، لان الناس، في هذه المرحلة، ممن اجادوا ترتيب اوضاعهم هم الذين سيستقطبون معظم الاهتمام على الارجح. لكنني لن أفاجأ اذا لقيت الولايات المتحدة معارضة، ولا يمكن للمرء المحافظة على حكومة عسكرية في بلد اسلامي لفترة غير محددة.

* هل هذا هو الخيار الوحيد في الوقت الراهن؟

ـ لابد من عدة اشهر لاستعادة النظام والبحث عن اسلحة الدمار الشامل. ثم لا بد من بعض الوقت الذي تمنح دول اخرى خلاله فرصة المشاركة في ادارة شؤون العراق. وانا شخصيا افضل البدء باعضاء التحالف، لكنني لن أحصر الأمر فيهم، وهكذا وبالتدريج سيكون هناك شكل من التنظيم الذي يوفر أساسا أوسع.

* ما هو الدور الذي يتوجب على الأمم المتحدة القيام به؟

ـ من المثير للعجب ان الكثير من هذا يعتمد على طبيعة تحسن علاقتنا بأوروبا. سيكون من السهولة بمكان الحصول على حد من مشروعية الامم المتحدة لو ان الشراكة التاريخية بين طرفي الاطلسي ما زالت على حالها. ما لا يبدو مفهوماً هو تكرار نفس الوضع الذي سبق الحرب، لأن هذا سيؤدي ببساطة الى تأثر عملية اعادة بناء العراق بكل هذا الجدل.

* انتم لن تعملوا بشكل مباشر مع الامم المتحدة، ولا مع مجلس الامن التابع له؟

ـ طالما ظل الحلفاء في حالة انقسام شديد، ستؤدي عملية مجلس الأمن الى تكرار نفس الانقسامات. انا لا اعتقد ان هذا سيكون في صالح أي طرف. وقد يؤدي مرة أخرى الى حدوث انشقاق في صفوف التحالف الغربي. لكنني اعتقد بوجوب التغلب على الانشقاق.

* متى يتعين رفع العقوبات المفروضة على العراق؟ هل بشكل فوري؟

ـ العقوبات كانت مفروضة لاجبار العراق في ظل صدام، على الاذعان للالتزامات التي قطعها على نفسه عقب حرب الخليج عام 1991، ومن اجل تدمير ترسانته من اسلحة الدمار الشامل. كان من المفروض رفعها متى ما أوفى صدام بالتزاماته. اما الآن وقد اطيح بصدام، فان اولئك الذين يتولون الحكم ليست لديهم القدرة على انتاج اسلحة الدمار الشامل، بل لديهم كل الحوافز التي تجعلهم يدمرون ما توفر منها. اذن، ما جدوى الابقاء على العقوبات؟

* هل يمكن نقل الديمقراطية من الخارج الى بلد ما، والى العالم العربي بالتحديد؟

ـ لا توجد حتى الآن دولة اسلامية لديها ديمقراطية تعددية مثلما هو معروف في الغرب، باستثناء تركيا، بعد فترة من الحكم المستبد. جزء من ذلك سببه ان الديمقراطية في الغرب نشأت بالفعل بعد عصر النهضة، وبعد الفصل بين الكنيسة والدولة. وهذه الظروف غير متوفرة في العالم الاسلامي. وبالتالي، فان نشوء الديمقراطية في العالم الاسلامي سيكون مختلفا. لكن وكقاعدة عامة، لا اعتقد انه يمكن فرض الديمقراطية من الخارج. لكن بازالة الاستبداد، يمكن للمرء ان يخلق الظروف التي يمكن للديمقراطية ان تنشأ خلالها بشكل طبيعي. وأنا لا أجادل بأن الولايات المتحدة ملزمة او مجبرة على الاطاحة بكل حكومة قد لا تتفق معها، بالقوة.

* سورية ولبنان و«حزب الله»

* ماذا يعني هذا بالنسبة لسورية، اذ هناك ضغوط هائلة على هذا البلد؟

ـ مشكلة اميركا مع سورية ليست بخصوص تغيير النظام ولكن بخصوص التنظيمات الارهابية الناشطة في الاراضي السورية وبخصوص «حزب الله» في لبنان. وفي ظل المفاوضات بين الفلسطينيين والاسرائيليين، هناك مجال لعملية سلام سورية. وفي هذا السياق يمكن للمرء ان يتحدث عن العلاقات السورية ـ الاميركية، لا ان يعني ذلك تواصلا للحرب في العراق.

* هل يتعين ضم سورية الى «خريطة الطريق» التي عرضت في الآونة الاخيرة؟

ـ في الواقع، مفاوضات السلام السورية ـ الاسرائيلية لا تحتاج الى خريطة طريق. لقد كانوا على وشك تحقيق النجاح في لحظة ما. وهم بحاجة الى حل بشأن الحقوق المتعلقة بمياه الخليل، وبشأن مشكلة الارهاب من الاراضي اللبنانية. واذا تأملنا الواقع بوعي، فان المفاوضات السورية ـ الاسرائيلية تبدو اسهل من المفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية.

* الا يتطلب الامر من سورية التخلي عن نفوذها في لبنان و«حزب الله»؟

ـ سيكون على سورية التخلي عن نفوذها لدى «حزب الله»، وربما سيكون عليها خفض نفوذها العسكري في لبنان، لكن الجغرافيا حقيقة معاشة أيضا، كما هو حال التغيير في العراق. سيكون لدى سورية دائما نفوذ في لبنان.

* هل تعتقدون ان الوضع الحالي للنزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي يشبه واقع الحال عقب حرب الخليج السابقة عام 1991؟، وهل سنشهد انطلاقة عملية سلام جديدة كمدريد وأوسلو؟

ـ الوضع الآن مختلف. العملية السلمية بين اسرائيل والفلسطينيين يمكنها ان تبدأ وستبدأ. فقد عانى الطرفان ما فيه الكفاية من الانتفاضة، الى الحد الذي يفرض عليهما استئناف المفاوضات. المشكلة الرئيسية تكمن في البدء. ففي الماضي، كنت افضل خطوات محدودة مقارنة بمشاريع شاملة كـ«خريطة الطريق»، لكنني لا أريد استباق الامر قبل ان تبدأ المفاوضات بالفعل.

* العالم العربي لا يثق في الولايات المتحدة. كيف يمكن تغيير هذه المسألة؟

ـ هذا مؤكد. ويمكن تغييره فقط بالأداء لا بلغة الخطابة. لكن بشكل عام، كان العالم العربي أهدأ من وسائل الاعلام في المانيا وفرنسا.

* هل أنتم متأكدون من ذلك؟

ـ (مبتسما) ليس من المجدي مناقشة ذلك. فنحن الآن في مرحلة يمكن للادارة الاميركية ان تطرح فيها وجهة نظرها بشأن التطورات الايجابية في انحاء مختلفة من العالم. واعتقد ان هناك فرصة سانحة. وأنا شخصيا سأفضل ان افعل ذلك عن طريق الحوار مع الاصدقاء التقليديين. لكن هذا أيضا يتطلب من اصدقائنا ان يظهروا شيئا من الفهم للنفسية الاميركية وللقناعات الاميركية، اضافة الى شيء من الثقة في ما تسعى اليه اميركا.

* كان احد الاهداف الرئيسية في سياستكم الخارجية يتمثل في العمل من اجل «استقرار الدول» وليس بالضرورة جعلها ديمقراطية.

ـ ذلك تبسيط مبالغ فيه. فهناك حدود لما يمكن لأية دولة ان تفعله لتغيير العالم، اذ يتطلب الامر بشكل خاص ان تكون معتدلة في محاولتها التدخل في الاوضاع الداخلية للدول الاخرى. أرى ان هناك حالات نادرة يجب ان نتدخل فيها. لقد ايدت التدخل في البوسنة، على سبيل المثال، وكنت سأؤيد التدخل في رواندا. في المقابل، ليس هناك تقدم حقيقي بدون استقرار. كلما تعرض النظام للتدمير، كلما لزم الأمر استخدام القوة لاعادة تأسيس شيء من النظام. أنا لا أرى ان الاستقرار والتقدم متضادان، بل هما شرطان ملزمان لبعضهما البعض. هناك شيء واحد مؤكد: نحن الآن نمر بفترة غير عادية من التغيير العالمي.

* هل يعني هذا نظاما عالميا جديدا؟

ـ في كل لحظة من الزمن، هناك نظام عالمي يمثل نوعا من النظام الدولي. والعالم الآن يمر بعملية بناء نظام عالمي جديد، ينشأ من انهيار الشيوعية، وأسلحة الدمار الشامل، وخصخصة السياسة الخارجية، وعولمة الاقتصاد، والفجوة بين العولمة الاقتصادية والسياسية. هذه كلها مشاكل ضخمة، ولم تحدث على الاطلاق قبل هذا العصر الذي يتعين فيه ادارة السياسة الخارجية وفق اسس عالمية. كذلك لم يحدث على الاطلاق من قبل ان تابع الناس كل شيء وقت حدوثه. فلديك ظرف باتت فيه الحاجة ملحة لتفكير بعيد المدى، والقدرة على هذا التفكير بعيد المدى باتت محدودة بضغوط السياسات الداخلية وبطبيعة الاتصالات الحديثة.

* ماذا تقصدون بخصخصة السياسة الخارجية؟

ـ بالتأكيد ان التنظيمات الارهابية جماعات خاصة وليست منظمات حكومية. انها تمول من دول قائمة، لكن اهدافها ليست متطابقة مع اهداف تلك الدول. بعض المبادئ القائمة للسياسة الخارجية لا تنطبق على هذه التنظيمات. فالردع غير مجد مع الجماعات التي لا يوجد لديها ما تدافع عنه. والدبلوماسية غير مجدية مع الجماعات التي لا تريد التوصل لتسوية. وبالتالي، فان مبادئ معاهدة «ويستفاليا» لن تؤت ثمارها، عندما يكون لديك تنظيمات خاصة تنفذ سياسة خارجية ثورية، او عندما تكون معرضا لتهديد كبير لا يمكنك معه الانتظار حتى يتحول الى حقيقة. عليك ان تتصرف وفقاً لتقييمك للتهديد. هذه مشكلة سيواجهها العالم مع كوريا الشمالية، وبالتأكيد مع دول اخرى.

* كيف سيؤثر النظام العالمي الجديد على السياسة الخارجية للولايات المتحدة؟

ـ سنقوم، بدون شك، كما هو حال جميع الدول، بإجراء مناقشات حيوية حول السياسة الخارجية خلال الاعوام الخمسة المقبلة. في اوروبا، وخاصة في المانيا وفرنسا، هناك وجهة نظر تقول ان في اميركا نوعا من الحكومة غير الشرعية، وهذه هي الحكومة التي لا يمكنك التواصل معها. وذلك خطأ. اذاً لا بد من حوار جاد مع اولئك الذين يصنعون بالفعل سياسة اميركا الخارجية، وهم يتمثلون كما هو الواقع في الرئيس.

* لقد بدأتم بألمانيا وفرنسا؟

ـ بعد ما حدث، اعتقد انه سيكون من الافضل، لو ان المسعى الاول، او على الاقل المسعى الرمزي، يبذل من قبل المانيا وفرنسا. لكن على الولايات المتحدة ان ترد بشكل ايجابي وسخي. ذلك ان التحالف سيتهشم اذا لم يبذل جهد، والعالم الغربي، الذي حقق انجازات حضارية مدهشة، سبق له ان تعرض لتدمير عضوي، فقد دمر نفسه من الداخل من خلال خصوماته الداخلية. السؤال هنا: هل سيتسنى للحضارة الغربية العثور على شيء من التعريف المشترك للعالم الذي وجدت نفسها فيه، وللفرص المتاحة وللمخاطر التي يجب عليها مواجهتها؟

* وما هي الإجابة؟

ـ استنادا الى الأداء الراهن، يمكنك الحديث عن واقع سلبي. وانا شخصيا اكره قبول ذلك. وآمل ان نتمكن من بدء حوار بشأن قضايا انتاج الاسلحة والعولمة والارهاب. علينا التوصل لمواقف مشتركة. فنحن لن نشبه بعضنا البعض في جميع الاوقات. وقد شعرت باحباط شديد لما حدث خلال الاشهر الاخيرة، لان جيلي كان يؤمن بعالم الاطلسي، وقد اصبح ذلك الآن مهددا بالانقسام. الآن تتحدث معظم السياسات الاوروبية عن نفسها بإيجاد اسس لتحدي الولايات المتحدة.

* وما هو الدور الذي تلعبه روسيا في كل هذا؟

ـ يجب الترحيب بروسيا كشريك بناء في النظام الدولي. وأنا افضل لو ان التجمع الاطلسي التقليدي توصل الى نوع من التفاهم وألحق روسيا به. أسوأ شيء يمكن القيام به هو تشجيع روسيا على السعي للقيام بدور من اجل تحقيق توازن السياسات في اطار العالم الغربي، لأن هذا قد يساعد على نشوء القومية الروسية مجددا، والتي كانت سببا في هلاك روسيا أيضا. من الافضل لروسيا ان تنضم للاسس القائمة بدلا من السعي لشق طريقها بالقوة نحو الفجوات المتروكة بين المؤسسات القائمة.

* سيكون للاتحاد الاوروبي في القريب العاجل وزير للخارجية. هل سيمثل هذا رقم الهاتف الوحيد الذي اردتم دائما الحصول عليه؟

ـ من ناحية تقنية، نعم. لكن سيعتمد الامر على مضمون هذه السياسة الخارجية الأوروبية.

* خدمة «تريبيون ميديا سرفيسس» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»

* والترود كيسرر هو المحرر الدبلوماسي لصحيفة «ولت إم سونتاج» الألمانية