وثيقة سرية حصلت عليها «الشرق الأوسط» تكشف عن أرق صدام وأجهزته الأمنية في الأيام الأخيرة من حكمه إزاء قضية المفقودين وانعكاساتها على الحرب مع أميركا

TT

كشفت وثائق حصلت عليها «الشرق الاوسط» في بغداد محاولة السلطات العراقية التقرب من مواطنيها غداة بدء اميركا استعداداتها مع اعداد قرار مجلس الامن 1441 الذي مهد لاستخدام القوة لخلع نظام الرئيس صدام حسين.

وتفطن الرئيس العراقي لأهمية كسب رضاء شعبه في الحرب المتوقعة انذاك، فقام في 20 اكتوبر (تشرين الاول) عام 2002 باصدار عفو شامل عن السجناء. وافرغت السجون من روادها، لكن العشرات او المئات من العائلات بقت على عطشها وخابت آمالها في رؤية عودة ذويها اليها.

وكشفت الوثائق التي حصلت عليها خلال وجودي في العراق ان اجهزة الامن العراقية اجتمعت باوامر رئاسية وشكلت، على عجالة، لجنة تحقيق حاولت ان تفسر العدد الهائل من المفقودين وتقديم مقترحات من شأنها طي ملفهم في فترة اعترفت اللجنة بأنها «مهمة جدا وخطيرة».

واقرت اللجنة بوجود 8591 مفقودا، في احصاء اولي للاسماء المسجلة من قبل العائلات العراقية التي تقدمت الى الدوائر الرسمية خلال الفترة بين 22 و23 من ذات الشهر حتى تاريخ اصدار التقرير في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. واشارت الى ان 5669 من بين العدد الاجمالي فقدوا خلال احداث عام 1991 التي شهدت انتفاضة العديد من المحافظات الجنوبية للعراق التي تلت اجتياح القوات العراقية للكويت.

ويعتقد الكثير من اولياء هؤلاء بأن ابناءهم ما يزالون سجناء سراديب تحت الارض، لذلك طاردوا الجنود الاميركيين منذ ان وطأت اقدامهم بغداد مطالبين ومتوسلين لاطلاعهم على مصير ابنائهم. وشغلت هذه المسألة العراقيين، اذ ان الحديث عن السراديب التي لا باب لها والاصوات التي يسمعونها من تحت الارض كان على لسان الصغير والكبير، والمرأة قبل الرجل في بغداد. فـ«تحرير» العراق، لم يعن لدى غالبية هؤلاء شيئا اذا لم يحرر ابناءهم وازواجهم واقاربهم من المغارات التي يعتقدون، خطأ او صوابا، انهم زجوا فيها.

ومن خلال قراءتي للوثائق حول المسألة، والتي جاءت في شكل خطابات «سرية وشخصية» بين المدير العام للامن العام و«سكرتير رئيس الجمهورية» المدعو عبد حمود حميد، لا يبدو ان هناك املاً كبيراً في العثور على المفقودين، اذ نفذت فيهم احكام اعدام مدونة واخرى غير مدونة. وناهزت وتيرة الاعدامات احيانا في عقد الثمانينات في اليوم الواحد، كما تشير وثيقة مؤرخة في 23 مارس (اذار) عام 1985، بقرار صادر من رئاسة محكمة الثورة (الملغاة لاحقا) ما يزيد على 130 محكوما عليه «بالاعدام شنقا حتى الموت» (نسخة رقم 1).

وما تنشره «الشرق الاوسط» اليوم هو من بين الوثائق التي استطعت ان انقذها من تفتيشين دقيقين لأمتعتي استغرقا تقريبا ثلاث ساعات في مركز حدود الكرامة الاردنية العراقية لدى عودتي من بغداد، اذ صادرت الجهات الامنية الاردنية في حدود الكرامة ملفاتي، التي فاق عددها 200 ورقة بين صور لعرب متعاونين مع الامن العراقي ومراسلات سرية بين السفارات العراقية في الخارج ووزارة الخارجية واخرى عن عمل عصابة تزوير العملة عراقية شاملة للبنانيين ومصريين وعراقيين، الى غير ذلك من مراسلات «سرية» دارت بين مسؤولين دبلوماسيين وآخرين في الامن خلال عامي2000 و2002.

وكان من المتوقع، طبعا، ان تبقى هذه الوثيقة، تحديدا، طي الكتمان كونها تمت بتكليف هاتفي من قبل مكتب الرئيس صدام شخصيا لشخص مديرالامن العام، الذي لايشير الى اسمه في الوثائق الا من خلال الامضاء لبحثها ورفع تقريره لمكتب الرئيس شخصيا لاصدار توجيهاته.

وجاء رد المسؤول على طلب الرئاسة في فترة لم تتجاوز الاسبوع، مقدما صورة اولية ومقترحات لسكرتير الرئيس للتعامل مع المسألة في خطاب ارسله اليه في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2002 سبقه آخر بتاريخ 31 اكتوبر (تشرين الاول).

ومن الواضح من خلال الوثائق ان مدير الامن العام اجرى اتصالاته مع اجهزة الامن المختلفة في البلاد التي زودته بما لديها من معلومات كما تشير الوثيقة (نسخة رقم 2) التي وجهها له مدير امن بغداد الكرخ.

وهكذا، جاءت اجابات الامن العراقي حول مسألة حساسة ستستمر تبعاتها تؤرق الحكومة العراقية المتوقع تشكيلها مستقبلا لعدم انطفاء نار حرقة العائلات التي لم تعثر على اثر لذويها، اذ يفوق عدد المختفين في العائلة الواحدة احيانا الاثنين.

وافاد التقرير: « لقد اجتمعت بتاريخ 2 نوفمبر (تشرين الثاني) وناقشت موضوع مراجعة ذوي المفقودين الى مقرات دوائر الامن العام، وربما الى دوائر اخرى واستمرار ذلك منذ صدور قرار العفو العام، وحتى الآن، للاستفسار عن مصير المذكورين، واسباب عدم اطلاق سراحهم ظنا منهم ان الكثيرين موجودون في السجون ولم يشملوا بقرار العفو العام اسوة بالآخرين».

ويعترف جهاز الامن في رده بعجزه عن توفير معلومات دقيقة حول عدد المفقودين لعدم وجود تدوين باسماء الكثيرين من السجناء الذين اعدموا من دون تسجيل اسمائهم او اصدار شهادات وفاة لذويهم. واضاف الرد«ولذا نوجز المعلومات المتيسرة عن المذكورين آنفا:

أ ـ ان عددا منهم (لا يتوفر رقم محدد) تم القبض عليهم من قبل الاجهزة الامنية في الاعوام ما بين 1980 ـ 1990، بسبب ارتباطاتهم مع احزاب وحركات سياسية معادية، وقد تم اعدامهم ولم تسلم جثثهم الى ذويهم في حينه.

ب ـ نظمت لاغلب المذكورين قضايا تحقيقية لاحقا من قبل محكمة الثورة الملغاة، واصدرت بحقهم احكاما بالاعدام، بغية توثيق تلك الحالات.

ج ـ سلمت لعدد قليل من ذوي المحكومين آنفا، شهادات وفاة نظمت في حينه ولم تسلم لغالبية ذوي المحكومين الآخرين.

د ـ هناك اعداد (لايتوفر رقم محدد) من الذين تم القاء القبض عليهم في الفترة المشار اليها في الفقرة ا، لم تنظم لهم قضايا تحقيقية، ولم تصدر بحقهم احكام من محكمة الثورة الملغاة، ولم تبلغ عوائلهم بمصيرهم في حينه.

هـ ـ ان غالبية المفقودين الذين يجرى الاستفسار عنهم الآن، هم ممن فقدوا في احداث صفحة الخيانة والغدر عام 1991واستخلصت اللجنة، امام ادراكها للمرحلة التي تجتازها البلاد وملاحقتها دوليا بتهمة «امتلاك اسلحة الدمار الشامل»، ثلاث توصيات هي فرز المفقودين الذين نظمت لهم قضايا تحقيقية وصدرت بحقهم احكام اعدام في فترة الثمانينات، ومن تم تبليغ ذويهم بمصيرهم وتسليم شهادات الوفاة لهم واصر المسؤولون عن الامن ان يتم تبليغ الاهالي باوقات متباعدة وبشكل متفاوت ولاعداد قليلة موزعين على المحافظات «كي يتم تجنب الاثارة وردود الفعل».

اما المفقودون خلال «احداث الخيانة والغدر عام 1991»، فاقترحوا ان يتم تبليغ ذويهم ان «تلك الفترة حدثت خلالها حالات فوضى في اغلب المحافظات وهناك من تصدى للقطعات العسكرية اثناء عمليات التطهير وقتل، وهناك من قتل من قبل المخربين وآخرين هربوا الى ايران او السعودية او الى بلدان اخرى، فلذا لا تتوفر معلومات أكيدة عن مصيرهم».

وتعترف ذات الدوائر في تقريرها السري بأن «ارقام المفقودين مرشحة للزيادة طبعا»، وهذا ما دفعها الى توقع «استمرار تأثير هذا الواقع على عمل الامن العام.

ومن بين المشاكل التي واجهت عناصر الامن في العثور على عدد المفقودين، هو الغاء محكمة الثورة التي كانت تقوم باصدار احكام الاعدام والمضي في تنفيذها، بطريقة يبدو انها لا تمت بصلة لعمل اي جهة قضائية، اذ لم تبلغ عوائل الاشخاص الذين صدر ضدهم الاعدام.

وخلصت الوثيقة السرية الى القول، إن «السكوت والتغاضي عن الموضوع اصبح غير ممكن حاليا ولذلك فان المعالجة (التي ربما تحتاج الى قرارات قيادية) صارت مطلوبة ووفق المعطيات التي اشرنا اليها سيما ان الاعداء يتربصون الفرص وهذا الموضوع غير خاف عنهم وهو واحد من اوراقهم للاستهداف».