نزلاء سابقون في سجون صدام يعودون إلى «زنازينهم» ميتذكرين معاناتهم: الطابق الأول في المعتقل كان يسمى «الفردوس» والطابق الأسفل هو «الجحيم» حيث يمارس التعذيب

TT

كان هناك خيار أمام المعارضين السياسيين الذين يخضعون لأساليب التحقيق الوحشية في نظام صدام حسين: الفردوس أو الجحيم. ولم يكن خياراً روحياً. فـ«الفردوس» كان ما يسميه المسؤولون في مركز الاعتقال السياسي ذي الطوابق الاربعة في الطوابق العليا. فالسجناء الذين يتعاونون مع المحققين كانوا يحشرون، كل 20 في زنزانة، في غرف مساحتها 8 في 7 أقدام، وهي خافتة الاضاءة وبدون نوافذ. ولكنها أفضل من «الجحيم»، وهو الطابق السفلي. وكان ذلك هو المكان الذي يمزق فيه الجلادون عضلات السجناء، ويعلقونهم برؤوسهم الى الأسفل لأيام عدة، ويحبسونهم في توابيت خشبية.

ويقول أحمد عيدان إن «الزنزانة هي المكان الذي قضيت فيه 35 يوماً في فترة اعتقالي التي دامت أربعة أشهر هنا». وهو يقف في الزنزانة 21 في طابق «الفردوس». ويقول «كنا نأخذ نوبات النوم بينما كان آخرون يقفون. وقد جنّ بعض الناس هنا».

ويشعل التاجر في مدينة البصرة، 34 عاماً، عود ثقاب ويحمله مقابل الجدار. ويمرر اصابعه على الاسمنت، وهو يقرأ كلمات نقشها نزيل معه: «الخلاص قريب إن شاء الله». وبعد شهر من سقوط نظام صدام كان مئات من العراقيين يزورون، مرة اخرى، اماكن سجنهم في محاولة يائسة غالبا للعثور على مواضع مغلقة. فعدد الذين ماتوا في سجون صدام ظل سراً عبر حكم النظام الذي استمر 35 عاماً.

وبالاضافة الى الآثار الجسدية لدى السجناء السابقين هناك جراح غير منظورة. فقد شاهد كثيرون احباءهم وهم يسحبون الى المشانق. ويقول عيدان ان شقيقه الاكبر محمد كان في الثامنة والعشرين من عمره عندما شنق في السجن. ويضاف الى الآلام المبرحة انهم كانوا عاجزين عن الحديث عما عانوه. فمناقشة ما حدث في سجون صدام كان له ان يؤدي الى الاعتقال ثانية.

وقد سافر عيدان ست ساعات من البصرة مع صديقه اسعد العيدان، 35 عاما، لزيارة زنزانتهما السابقة وغرفة الاعدام حيث لقي كثيرون حتفهم حسب ما يقولون. وكلاهما من شيعة جنوب العراق، وقد اعتقلا عام 1995 متهمين بالتجسس. ويقول العيدان، المهندس الكهربائي، ان «مجرد رؤية انهيار كل شيء هنا يمنحني احساساً محدوداً بالطمأنينة».

ويضيف العيدان انه جاء الى بغداد بأمل ان يجد اناساً مستعدين لدعم خدمات استشارية في ما يتعلق بالسجناء السابقين وعوائلهم، ولم يحالفه الكثير من الحظ حتى الآن.

ويقول أولاف روزيت، الاخصائي النفسي النرويجي ان «هذه مشكلة كبيرة». ويضيف هذا الاخصائي الذي عمل خلال العامين الماضيين في بغداد لصالح اللجنة الدولية للصليب الاحمر ان «اولئك الذين اسعفهم الحظ واطلق سراحهم لم يكن لهم ابداً ان يتحدثوا عن الموضوع، ولهذا حملوا كل شيء في داخلهم لسنوات».

وفي الاسبوع الماضي قال اطباء يعملون في اطار منظمة «هيومان رايتس» ان السجناء السابقين بحاجة الى تقديم النصح والمشورة لهم اذا ما اريد منهم ان يقدموا شهادات في المحاكمات المتعلقة بجرائم الحرب بحق اي مسؤولين في النظام السابق. وقالت الطبيبة لين اموفيتش ان «تمثيل التعذيب بصورة حية والاعلان عنه قد يكون نوعاً من التنفيس بالنسبة لبعض الناجين. غير انه في غياب مساعدة اجتماعية ـ نفسية ملائمة، قد تكون له، ايضا، اثار سيكولوجية ضارة بعيدة الامد».

وقد رفض احد السجناء السابقين في البداية مسألة الصدمة العاطفية باعتبارها غير ذات اهمية. ويقول ستار جبار منسق «لجنة السجناء العراقيين الاحرار» ان «عدد السجناء الذين اعدموا يفوق عدد الناجين». وقد جمعت هذه المجموعة التي اسسها سجناء سابقون بعد سقوط الحكومة الشهر الماضي، عشرات آلاف اسماء النزلاء المعدومين من وثائق تم الحصول عليها من دوائر الاستخبارات. وقد اجتذب عمل اللجنة المئات من الباحثين عن اقربائهم المفقودين.

وقد سلم جبار في ما بعد بالقول بأنه لم يتغلب على آثار سنوات سجنه. ويقول انه وضع خلف القضبان من عام 1985 حتى عام 1992 بسبب عمله في منظمة معارضة شيعية محظورة، وخضع لتعذيب منظم. وما تزال لديه آثار في كاحليه من الضرب قبل ما يقرب من 15 عاماً. ويضيف «أنا نفسي اشعر بالانسحاق من الناحية النفسية. فانا اجد الخوف في كل شيء. وانني سأكون سعيد الحظ اذا تمكنت من النوم ساعتين أو ثلاثاً في الليل».

وباستثناء اللجنة التي ينتمي اليها جبار، لم تؤسس منظمات كثيرة خلال الشهر الذي مضى على زوال حكومة صدام.

ويقول العيدان «التقيت بالكثير من السجناء ممن يبحثون عن منظمة تساعدهم». فالضغوط التي تتعرض لها السجناء السابقون تتجاوز اساءة التعامل مع الناجين، فقد «كان هناك الكثير من المعاناة بالنسبة للعائلة بأسرها. فالجيران يمكن ان يوجهوا الاهانات للاباء والامهات والاشقاء والشقيقات، مشيرين الى اننا جواسيس اميركا. ويمكن ان تتعرض البنات الى انتهاكات».

وتعود ذكريات العيدان ورفيقه الى الماضي وهما يتجولان في مركز الاعتقال وسط بغداد، وسجن ابو غريب الذي يقع على بعد 20 كيلومتراً عن العاصمة. وقد اعفي عن احمد عام 1998 بعد ان قضى اربع سنوات خلف القضبان. اما اسعد فقد حكم عليه بالسجن لمدة 20 عاماً لكنه قضى منها سبع سنوات. وقد اطلق سراحه خلال عفو في اكتوبر (تشرين الاول) الماضي عندما فاز صدام بما قال مسؤولون عراقيون انه استفتاء شعبي على رئاسته بنسبة 100 في المائة.

ويقول اسعد، وهو يهز قفلاً كبيراً مفتوحاً في باب زنزانة «في مرات كثيرة كنا نسمع قفل الزنزانة ينفتح بضربات مثل هذه. وكانت تلك لحظة مرعبة، وتعني ان احداً يستدعى الى التحقيق».

وفي نهاية زيارتهما يصل احمد عيدان واسعد العيدان الى غرفة الاعدام ذات الطابقين في سجن ابو غريب. يتوقف احمد وينحني مقابل جدار ويخفض رأسه. انه لا يريد الدخول. اما اسعد فيخطو داخلاً ويسير باتجاه الموضع الذي تتدلى منه انشوطتان معلقتان في السقف. واذ يرفع بصره نحوهما ينشج بصوت عال ويبكي لدقائق عدة.

ويقول العيدان عندما تمكن من الحديث ثانية ان «كثيرين ماتوا بسبب الجوع بينما كانوا بانتظار الاعدام». ويضيف ان قلة من السجناء ممن اوقف اعدامهم في اللحظة الاخيرة رووا تفاصيل عن غرفة الاعدام عندما اعيدوا الى السجن العام. ويقول «لم يكن هناك اي شيء تقريبا لتناوله. وفي بعض الاحيان كانوا ينتظرون 45 يوما قبل اعدامهم، ذلك انه كان يجب ان يوقع صدام حسين على ذلك. واذا ما لمحوا طيراً عند النافذة، كانوا يريدون الامساك به لأكله».

وفي ارضية السجن يلتقي العيدان بزوجين كرديين كبيرين. لقد جاءا من شمال العراق للبحث عن ابنهما المفقود. ويوضح الأب ان جميع السجناء اطلق سراحهم ما عدا قلة ذكر النزلاء المحررون انهم اعدموا اوائل ابريل (نيسان) الماضي.

«أهو حيدر؟» يسأل العيدان عن الابن المفقود، مضيفاً «كنت اعرفه جيداً. فقد كنا في السجن معاً سنوات عدة». وكان حيدر خضر ابراهيم في السابعة والثلاثين من عمره عندما قتل، افتراضاً، اثناء دخول القوات الاميركية الى بغداد. ويشعر العيدان بصدمة نبأ الموت المحتمل لرفيق سجنه. ويقول «كان يتمتع بحس ظريف بحيث ان الجميع كانوا يحبونه».

ويؤدي البحث بالعائلة وبالعيدان الى رائحة عفنة لجثث متفسخة تحت برج مراقبة شاهق. فهناك ما لا يقل عن تسع جثث متحللة في قبر ضحل العمق. ووفقا لما ذكره ناجون من سجن ابو غريب فان هؤلاء السجناء اعدموا اوائل ابريل الماضي عندما اقتحمت قوات المارينز الاميركية بغداد.

والد حيدر، ابراهيم خضر، 78 عاما، ينبش القبور بقطع من مواد السقف المهدم المتروكة على الارض. ويواصل العمل في الموقع بالرغم من درجة الحرارة الشديدة.

يلتمس منادياً «أين المجرفة؟ رجاء ساعدونا.. ساعدونا». يغطي انفه بقطعة قماش بسبب الرائحة التي لا تقاوم. تظهر اجزاء الجثث من التراب. وبعد نصف ساعة من الحفر المسعور يكف خضر، وهو يقول «هذا ميئوس منه. ابني ليس هنا. اين استطيع البحث اذن؟».

* خدمة «يو إس إيه توداي» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»