رسام صدام: النظام خنق موهبتي وسعدت لما رأيت الناس يدمرون أعمالي

بهاء عماني قال من منزله المتواضع في البصرة إنه دعي إلى بغداد ووعد بمنزل وصالة رسم لكنه رفض

TT

بدت أرضية غرفة نوم بهاء عماني مشوهة ببقع الطلاء بينما انتشرت الثقوب في جدران الغرفة حيث اعتاد العمل. وخلال ساعات الليل وقد نامت زوجته وطفلهما، اعتاد عماني رسم لوحات تلو اخرى لصدام حسين، بلغت أكثر من الف لوحة، معظمها من الحجم الكبير. كانت تلك هي المهنة التي جعلت عماني مشهورا في البصرة، ثاني أكبر مدن العراق، باعتباره أهم رسام للوحات الرئيس هناك. وهي مهنة تطلبت منه حرصا واهتماما شديدين، ذلك انه لم يرسم أبدا قدمي صدام الغليظتين. وقد بذل جهدا كبيرا في رسم العينين والتعابير، ولم يذهب بخياله، أبدا، بعيدا عن الصور الفوتوغرافية التي استند في رسوماته اليها. وحتى حجم توقيع عماني على لوحاته كان مهما. وذات مرة أمهر احداها بأحرف صغيرة فاتهموه بتجنب وضع اسمه في لوحة لصدام.

كان عماني قد انتهى من آخر لوحة للرئيس العراقي، وكانت جدارية كبيرة الحجم، قبل ثلاثة أسابيع من بدء الحرب خلال مارس (آذار) الماضي. قال عماني، 52 عاما، عن نظام صدام: «لقد خنقوا موهبتي. وضعوني في زاوية وقالوا لي: ان هذا هو عملك. وقد كان عملا مهلكا ومملا للغاية. لكن عندما قالوا لي أن أفعل ذلك، كان علي أن أفعل».

لقد تعرضت لوحات عماني للدمار على أيدي الناهبين، جنبا الى جنب مع الفنون الأخرى التي احتوت عليها المباني الحكومية في البصرة. وقد احتفظ في منزله بلوحة وحيدة أصلية كانت تتدلى في جدران منزله، وهي رسم لنجله. وخلال الأيام الأخيرة اطاح الناهبون بقرابة مائة تمثال اسود كانت تصطف على ضفاف شط العرب. هذه التماثيل كانت تشكل ما سمي «نصب الشهداء» وقد اقيمت لتخليد ذكرى أولئك الذين قاتلوا في الحرب مع ايران التي استمرت من عام 1980 وحتى .1988 وحطم اللصوص التماثيل الى قطع صغيرة، وأرادوا انتزاع النحاس منها لكي يبيعوه.

واثار تدمير تلك التماثيل جدلا في البصرة حول قيمة التاريخ والفنون. فبالنسبة للبعض، كمدرس الفنون المساعد ماهر عبد جبار، 35 عاما، مثل ذلك الحدث خسارة البصرة لجزء من تاريخها. قال: «تلك التماثيل لم تكن تمثل صدام حسين. كانت جزءا من حضارتنا. لقد أهدرنا جزءا من حياتنا. علينا أن نحافظ على هذه الرموز لا أن ندمرها». أما النحات علي عبيدي، 34 عاما، الذي ابتكر مجموعة من تماثيل صدام التي انتصبت في العديد من المدن، فقد قال ان نهب التماثيل يشكل تدميرا لذاكرة الأمة. وأضاف: «ليس الأمر مرتبطا فقط بالفنون، بل انها كانت تعبيرا عن تاريخ العراق».

لكن بالنسبة لعماني، الذي فقد شقيقا له في الحرب العراقية ـ الايرانية، فان تدمير التماثيل لم يكن مأساة مثلما لم يكن كذلك اختفاء جميع أعماله الفنية التي ابتكرها خلال الـ 12 عاما الماضية التي أهدرها وهو يرسم صدام مرارا. وقال عن تلك التماثيل: «لم تكن ذات قيمة حقيقية. وهي ليست مهمة بالنسبة لشعب العراق. لانها لم تكن فنا حقيقيا». أما بالنسبة للوحاته فقال «لقد سعدت عندما دمرت تلك اللوحات».

وخلال 12 عاما، كانت هناك لوحة واحدة لصدام رسمها عماني ويتذكرها بفخر. وقد رسمها خلال عام 1992 لحساب شركة نفط في البصرة وأهديت لصدام في ذكرى ميلاده، وفيما بعد قال مسؤولو حزب البعث لعماني ان اللوحة أثارت اعجاب الرئيس الشديد. وقال عماني: «لقد شاهدتها على شاشة التلفزيون. وأخبروني ان صدام قال لهم ان الرسام كان الوحيد الذي تمكن من التقاط جميع تفاصيل وجهه». لم يلتق عماني بصدام أبدا، وشاهده شخصيا في مناسبة واحدة فقط ـ قبل أن يبدأ عماني برسم اللوحات الرئاسية، عندما قام الرئيس السابق بزيارة وحدة الجيش التي كان الرسام يؤدي الخدمة العسكرية فيها. كانت المهام المتعلقة بلوحات صدام عاجلة للغاية، الى درجة ان عماني كان يمهل يوما واحد أو يومين للانتهاء من اللوحة. ومع ذلك لم يحصل على الترقيات والمكافآت بنفس قدر شهرته ونجاحه. ويقول عماني انه لم يكن عضوا في الحزب، كما انه لم يأبه أبدا بالانضمام للحزب. وقد تمت دعوته الى بغداد ووعدوه بمنزل وصالة رسم، لكنه امتنع عن قبول العرض. كان عماني يحصل على ما بين 75 الفاً و100 الف دينار مقابل كل لوحة، لكنه لم يكن ثريا على الاطلاق. فقد تراوحت قيمة الدينار العراقي، مقابل الدولار الأميركي، بما بين 1500 الى 2500 دينار للدولار الواحد، خلال الفترة التي اشتغل فيها باللوحات الرئاسية. وهو لا يمتلك مسكنا، حيث يعيش في مأوى متواضع لا سجاد فيه ولا زخارف رائعة. كما انه لا يمتلك مرسما، بل يقوم بعمله في حجرة تضم في احدى زواياها جهاز تلفزيون قديما، اضافة الى مصباحي اضاءة. وقد تحدث عن هذه الحجرة قائلا: «في العادة يكون الرسامون أثرياء، لكن انظر الى حالتي. هذا لأنني لم أنتمي لحزب البعث . فقد كنت ببساطة أمقت السياسة».

ويقضي عماني معظم وقته في مأواه، وهو لا يغادره بعيدا خشية تعرضه للانتقام لما قدمه للنظام. وهو ما يزال يخشى مسؤولي الحزب، الذين أعرب عن اعتقاده بأنهم ما يزالون هناك، يراقبون وينتظرون، تماما كما اعتادوا مراقبته في الماضي خشية عدم اجادته لعمله أو ظهور عيني الرئيس أو وجهه على غير ما يرام. وأشار عماني الى ان أحد الرسامين ممن اعتادوا رسم لوحات لصدام اعتبرت ضعيفة الجودة، فقد عمله وتعرض للسخرية خلال العام الماضي. وأوضح: «لقد اعتادوا جلب صور فوتوغرافية التقطت له وهو شاب. وأحيانا كنت أجعله يبدو أكثر وسامة، بحيث أتخلص من التجاعيد المحيطة بعينيه. وقد كنت حذرا للغاية». وقال عماني انه أمضى معظم الوقت وهو يرسم لوحات صدام، الى درجة انه فقد فرصة تطوير قدراته وأسلوبه. فقد كان حلمه المحبط أن يفتتح مرسما ويتخصص في رسومات الأطفال فقط.

واليوم يقول عماني انه يشعر بحالة من التفاؤل والحرية، لكن لا توجد فرصة أمامه للعمل. فهو متخصص في رسم اللوحات، وفي ظل هذه الأيام المضطربة لا أحد يبدو مهتما برسم لوحة شخصية له. ومع تأمله لجدار غرفته، وتفكيره في اللوحات التي قد يكون رسمها أو تلك التي كان عليه رسمها، يمتنع عماني عن السماح لمشاعر الأسى بالسيطرة عليه، ويقول «أنا الأن أشعر بالحرية. فهناك مواهب بداخلي كنت أكتنزها. وسأقوم الآن باستغلال كل طاقتي الابداعية». واختتم عماني حديثه قائلا: «أنا الآن لا أعمل، لكن أرجو ألا تعتقدوا انني لست سعيدا، ذلك ان الأشياء ستكون رائعة في المستقبل، وحينها سأكون أسعد شخص في العالم».

* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»