«الشرق الأوسط» تزور أسر الانتحاريين في حي سيدي مومن: الانتحاري كوتري كان انطوائيا وأصبح متدينا قبل بضعة أشهر فقط وزميله مهني غادر الجامعة وعمل حارسا للسيارات وحاول الهجرة سرا

TT

يتفادى سكان دوار «طوما» الواقع في الضفة الشرقية من حي سيدي مومن المترامي الاطراف، الرد على كل من يسألهم عن عنوان منزل أحد الانتحاريين. لكن في النهاية هناك من يدلك الى عنوانه خاصة اذا عرف انك صحافي.

يقع منزل الانتحاري يوسف كوتري أمام مزبلة تتراكم فيها نفايات الحي. والمنزل هو عبارة عن كوخ من طوب الاسمنت وسقفه من الحديد والخشب، وقبالته وقفت فتيات الحي لأخذ قسطهن من الماء الصالح للشرب من ماء سبيل مشترك (سقاية).

وكانت سقاية حي طوما آخر موقع تتذكر والدة يوسف ان ابنها قصده لمساعدتها على جلب الماء الى البيت لأنها كانت مريضة، وغادر ابنها البيت في الصباح الباكر من يوم الجمعة، في حدود الساعة السابعة صباحا بعد أن صلى الفجر، من دون أن تتمكن من رؤيته أو الحديث معه، فقد خرج مسرعا على غير عادته، حيث كان يعود يوميا للبيت بعد صلاة الفجر ويمكث فيه بمفرده في غرفته، لأنه بدون عمل.

«الشرق الأوسط» التقت فاطمة والدة يوسف، وهي في العقد السابع من عمرها، وبدت وكأنها تئن تحت جبال من الحزن. وقالت ان آخر مرة اجتمعت مع ابنها كانت ليلة الخميس الماضي حيث تناولت معه وجبة العشاء، بينما تناول والده واخوته السبعة (الذين يعيشون معهم الآن في المنزل) عشاءهم كل على حدة. يقطع والده محمد، 70 عاما، الحديث ليتدخل قائلا «عادة لا أتناول معه العشاء، ولم أكن على اتفاق تام معه».

وبدوره لم ير محمد ابنه يوسف صباح يوم الجمعة، لأنه (الأب) غادر المنزل قبل الفجر كعادته قاصدا سوق الخضر، لاعداد بضاعته اليومية أي أحزمة النعناع التي يشحنها في عربته ويتجول بها في الأحياء لبيعها كما دأب على ذلك منذ عقود.

وأضاف والد يوسف انه لم يلاحظ على ابنه أي تغيير في سلوكه أو ملامح غريبة في الليلة التي سبقت يوم الحادث.

وبدت على وجه الرجل تضاريس حياة مليئة بالمعاناة والتعب وغمرت عيناه الدموع، وقال لدي 10 أبناء وبنات، وأحدهم توفي قبل 10 سنوات ظلما، لأن أحد المتسكعين في الحي ضربه بحجر على رأسه فسقط ميتا. وأضاف قائلا «انني اعتبر ان موت ابني يوسف شبيه بمقتل أخيه فكلاهما ماتا وسببا لنا حرقة».

ويوسف الذي ولد سنة 1972 في دوار طوما، كان شابا منطويا على نفسه، غادر المدرسة قبل نهاية دراسته الثانوية، ورغم أنه كان تلميذا نجيبا، فقد انقطع عن الدراسة منذ 10 سنوات، لأنه لم ير فيها مستقبله، واضطر للعمل في مصنع للحدادة لمساعدة أسرته.

ووجد نفسه منذ خمس سنوات عاطلا عن العمل، فحاول ملء فراغه من حين لآخر ببيع مواد غذائية في أزقة الحي. وكان يبيع أحيانا التمر والبيض. وظهرت عليه ملامح التدين فجأة منذ شهر رمضان الماضي، وأصبح يواظب على أداء الصلاة في مسجد الحي، ويطيل لحيته ويلبس قميصا طويلا، وتعتقد أسرته أنه وقع تحت تأثير عناصر أو «جماعة سلفية متشددة» يقول عنها والده انها «ضللته وقادته الى فعل ما فعل». واضاف قائلا «لقد أثروا عليه في سلوكه اليومي، الذي تغير ايضا ازاءنا، فلم يعد يسلم علينا بل يعتبرنا غير ملتزمين بالدين». وقالت فتاة في الحي ان يوسف الهادئ الطبع واللطيف مع الجميع، أصبح فجأة لا يحيي النساء ولا يسلم حتى على الرجال الذين يحلقون ذقونهم، ويعتبرهم مثل النساء.

ويتحدث جيران الانتحاري يوسف، عنه باقتضاب شديد وتبدو عليهم ملامح الارتباك عندما يذكر اسمه، ويقول أحدهم منذ بدت عليه مظاهر التدين أصبح منطويا على نفسه، ولا يندمج مع شبان الحي، ولكنه يتدخل أحيانا مع رفاقه «السلفيين» لفض نزاع بين شبان الحي.

وتتذكر والدة الانتحاري يوسف ان ابنها ظهرت عليه ملامح التوتر العصبي منذ انقطاعه عن الدراسة، وكان يستيقظ بشكل مفاجئ في غرفته التي ينام فيها بمفرده، ويصيح بشكل مفزع ويعود ليخلد للنوم، ويعتقد والده أنه كان مصابا ربما بمرض في الرأس توفي بسببه بعض أفراد أسرته في الماضي.

وعاد الأب المكلوم الى ذكرياته المأساوية فقال «أتيت الى هنا مع زوجتي من منطقة سطات (منطقة زراعية وسط المغرب) في منتصف الخمسينات، وأقمنا مدة 22 عاما في منزل ايجار بالحي المحمدي (حي شعبي كبير مجاور لحي سيدي مومن)، الى أن حصلنا علي مساحة ضيقة هنا في حي سيدي مومن وشيدنا عليها هذا الكوخ الذي نمتلكه». واضاف محمد بأنه يعمل منذ 55 عاما بائعا للنعناع، ولا يتجاوز دخله الشهري 2000 درهم (200 دولار) ويعيل بها أسرته بكاملها وأحيانا يساعده أبناءه الثلاثة المتزوجين ببعض المواد الغذائية.

وتقول والدة الانتحاري يوسف انه كان متألما لأنه لا يستطيع مساعدة الأسرة، وحاول مرات عديدة الحصول على عمل لكنه أخفق، وآخر مرة تدرب على السياقة وحصل على رخصة، وكان يظن أنه سيجد بفضلها عمل سائق لكنه فشل مرة أخرى. واضافت قائلة: «لقد كان يتميز بثقة كبيرة في النفس ولم يكن يفكر في الهجرة ولم يكن لديه جواز السفر».

وتدخل الأب محمد مرة أخرى ليقول «أنا متألم، مجروح، اشعر بغصة، لأنني أمضيت حياتي أكافح من أجل اعالة اسرتي وتربية أبنائي، وأفجع اليوم بما حدث».

وأضاف أنه سمع نبأ مقتل ابنه في حادث تفجيرات الدار البيضاء صباح يوم السبت عندما أتى رجال الأمن لاستنطاقه مع زوجته. وأمضيا ثلاثة أيام في التحقيقات في مركز أمني بمنطقة المعاريف في وسط الدار البيضاء. وقال محمد ان رجال الأمن عاملوه معاملة عادية ولم يتعرض لأي أذى خلال فترة اسجوابه وكانوا يسألونه عن تفاصيل حياة ابنه.

وقال والد الانتحاري يوسف «لم نصدق أبدا ما حدث حتى ووجهنا بالحقيقة المرة، ولو كنت أعرف ما يخالج صدر ابني أو ما يمكن أن يصدر عنه لقمت بنفسي وقدمته للسلطات لاعتقاله وسجنه بضع سنوات عوض القيام بما قام به والذي اساء الينا والى بلدنا».

وأضاف «ان ما ارتكبوه هو ورفاقه أمر لا يصدق وهو فاجعة للمغرب، وليس لدي ما اقوله لأسر الضحايا الذين سقطوا في ذلك الحادث الرهيب».

ويستدرك الرجل حديثه، وقد تدفقت الدموع من عينه، قائلا «لقد عشنا سنوات طويلة من القهر ولا أحد يكترث لحالنا، وحتى الدولة والشرطة، لا تأتي الى الحي، انهم يتوقفون في دورياتهم عند حدود مركز الحي ولا يدخلونه، لقد تركونا طويلا نعاني وحدنا تحت وطأة المتسكعين والأوباش وتجار الحشيش وكافة مظاهر الانحراف، ولا أحد فينا يستطيع أن يتكلم لأنه يخشى أن يطعن بسكين قبل أن ينطق لسانه»، مشيرا الى ظروف مقتل ابنه الذي يصغر يوسف سنا بعد أن ضربه احد الأوباش بالحجارة على رأسه ضربة قاتلة.

وقبل مغادرة بيت أسرة الانتحاري يوسف سألت والده: ما هي الرسالة التي تريد تبليغها الآن؟ فرد قائلا «فقدت ابني، وفقدت أسر كثيرة أبناءها، واعتقد انه كان حريا بالمسؤولين في الحكومات التي تعاقبت على البلاد منذ عقود، معالجة مشاكل هؤلاء الفقراء والمهمشين الذين يعيشون في حي سيدي مومن وعشرات الأحياء المماثلة، قبل فوات الأوان والاستيقاظ على الكارثة».

وداخل دوار طوما بحي سيدي مومن تطوف الأزقة الملتوية بحثا عن منازل أسر ضحايا انتحاريين آخرين وهم عديدون في ذلك الحي، كانت أبواب بعضها موصدة ولا أحد يرد على طارقها، لأن أهلها هجروها بعد ما حدث، مثلما هو حال والدة الانتحاري «فتاح» التي غادرت المنزل بعد أن استدعيت من قبل الشرطة لاستجوابها، وهي أرملة كانت تعيش مع ابنها الوحيد الذي فجر نفسه. وتقول سيدة تسكن بجوار منزل الانتحاري «فتاح» لقد كان متدينا وملتحيا ولا يسلم على النساء ويتفادى الحديث مع شبان الحي، ولا يكاد جيرانه يرونه في سائر الأيام لأنه كان يغادر المنزل مبكرا ويعود اليه متأخرا.

وعلى بعد 100 مترا تقريبا، يوجد منزل أسرة الانتحاري محمد مهنى، وتقول والدته انها أنجبته في الحي المحمدي سنة 1978، وانتقلت الأسرة بعد ثلاث سنوات الى حي سيدي مومن حيث استقر بهما المقام في المنزل الذي يقطنوه الآن وهو عبارة عن كوخ يتكون من ثلاثة غرف كان ينام محمد في احداها وينام شقيقه الأصغر في الغرفة الثانية ووالداهما في الغرفة الثالثة، بينما تنام الشقيقات الأربع في بهو المنزل.

وتقول والدة الانتحاري محمد انها سمعت مع أفراد الأسرة نبأ التفجيرات مساء يوم الجمعة الماضي عبر التلفزيون، وفجعت صبيحة يوم السبت عندما داهمت الشرطة المنزل واقتادت أبا وأم وشقيق محمد للتحقيق معهم، وأخلي سبيل الأم والشقيق لكن الأب لا يزال محتجزا للتحقيق معه.

وأضافت والدة الانتحاري محمد قولها «نحن لم نصدق ما حدث، أتى الى هنا رجال الشرطة وجمعوا كل مالديه من أوراق و أمتعته وصوره التي لم يجدوا منها الا القليل، لأنه أقدم علي تمزيق صوره الشخصية قبل فترة من الحادث، ولم يترك منها سوى صور الطفولة التي حجزت لدى الشرطة».

ويتحدث شقيق الانتحاري محمد قائلا «انه كان شخصا هادئ الطبع، ويتواصل معنا ومع الناس الآخرين، ولم نصدق حتى الآن أنه ارتكب ما حدث». وأضاف أن محمد لم يسبق أن حدث أفراد أسرته عن انتمائه الى جماعة متشددة، وان كانوا يعرفون تدينه والتزامه الأخلاقي.

وقالت أمه ان محمد غادر البيت صبيحة يوم الجمعة بعد الساعة التاسعة تقريبا، وكان قد صلى الفجر في مسجد الحي، وكانت ملامحه عادية ولم يكن قد حلق ذقنه، وقال لوالدته انه سيتوجه لأداء صلاة الجمعة كما جرت العادة في احد الأحياء البعيدة عن حي سيدي مومن أي في الحي المحمدي او حي أناسي، لأن هناك اماما خطيبا يفضل أداء الصلاة وراءه.

وقالت والدة الانتحاري محمد «انها تشعر بمزيج من الحزن العميق على ابنها والأسف العميق على ضحايا الحادث الذي تسبب فيه ابنها، وهي حتى الآن لا تصدق بأن ابنها ارتكب ما فعله».

ويتحدث صالح عن ظروف حياة شقيقه الانتحاري محمد قائلا انه «اضطر منذ بضع سنوات للانقطاع عن الدراسة من السنة الثانية في كلية الاقتصاد بجامعة المحمدية (شمال الدار البيضاء) لأنه بدأ يشعر بأنه لا جدوى من الدراسة في ظل غياب فرص العمل بعد التخرج. واضاف أن شقيقه اضطر ليعمل حارسا في موقف للسيارات في حي كوثر، كما عمل في مجال البناء في حي البرنوصي، وكلاهما يقعان في التخوم الفقيرة لمدينة الدار البيضاء. واضاف صالح أن شقيقه كان يحاول مساعدة الأسرة لكنه لم يتمكن سوى من توفير الحد الأدنى لنفسه.

وقال صالح ان أسرته حاولت تحسين وضعها ومغادرة حي سيدي مومن، لكنها لم تفلح، واستخرج محمد منذ سنوات جواز سفر، وحاول الهجرة سرا عبر عدد من الموانئ وآخرها ميناء الجرف الأصفر، في محاولة للتسلل سرا عبر سفن البضائع، لكنه أخفق. وكان يحلم بمغادرة البلاد الى أي وجهة من العالم، واستحال عليه التفكير في الهجرة عبر القوارب التي تعبر مضيق جبل طارق، لأنه لم يكن يتوفر على المبالغ المالية المرتفعة التي يطلبها أصحاب تلك القوارب.

وتقول والدة الانتحاري محمد انها لاحظت على ابنها تغييرات في نمط حياته منذ ان ظهر عليه تدين شديد سنة 2001، وبدأ يطيل لحيته ويلبس قمصانا طويلة حتى الركبتين ولم يعد يعتني كثيرا بملابسه أو ينتقيها كما كان في السابق، ولكنه ظل شخصا يحسن معاملة أفراد أسرته، وهو ميال بطبعه للكتمان وحبس معاناته الاجتماعية.