«الشرق الأوسط» تزور واحدة من أكبر المقابر الجماعية في العراق

3100 اعتقلوا عشوائيا ودفنوا خلف تلة أثرية بعد إطلاق الرصاص عليهم أو وهم أحياء * بين الضحايا رضيعان في عامهما الأول و40 مصريا

TT

كلما ابتعدت الطريق الدولية التي تربط بغداد بالبصرة عبر منطقة الفرات الاوسط عن العاصمة العراقية ازدادت الخضرة حولها، فمساحة البناء تتراجع لصالح مزارع الخضروات وحقول الحبوب وبساتين النخيل.

وبعد المرور ببلدة المحاويل (75 كم الى الجنوب من بغداد) تبدأ غابات النخيل تتكاثف على جانبي الطريق حيث تظهر ايضا تجمعات لاشجار الاثل والكالبتوس.. ومن تحت الطريق تمر الجداول المتفرعة من شط الحلة.. وكذلك قنوات البزل التي ازدحمت بنباتات القصب اليانعة..

المكان يوحي بكل شيء ويرمز الى كل شيء.. الا الموت. نوقف سيارتنا المستأجرة هنا ونسأل عن قرية ابو سديرة التي لا تبعد الا بضعة كيلومترات عن آثار مدينة بابل. يشير احد السكان المحليين الى طريق ترابية تنحدر شرقا من طريق بغداد ـ الحلة. تنزل بنا السيارة لتتهادى باكتراث على الطريق المحفوفة من شمالها بصف طويل من فسائل النخيل التي لم تمر سنوات طويلة على غرسها، ومن جنوبها بـ«غابات» من القصب نبتت وسط قناة للبزل وعلى حافتيها. وفي نهاية الطريق تلوح تلة ترتفع بضعة امتار شكلت علامة بارزة بين بساتين النخيل وحقول الحنطة والشعير التي انتهى للتو موسم حصادها.

لاحقا عرفنا ان هذه التلة التي تقوم على ارض منبسطة على مد البصر هي تلة اثرية، وضعت هيئة الآثار العراقية على قمتها لوحا مرقما يشير الى ان التلة مهيأة للاستكشاف الاثري في يوم ما.

ما ان استدارت السيارة نصف دورة حول التلة حتى ظهر المشهد المرعب.. المصيب بالصدمة والذهول: مئات الاكياس من البلاستيك والقماش البيضاء التي حفظت بها بقايا بشرية وضعت في صفوف منسقة داخل هوة غير عميقة، وعلى تخومها، فيما ينشغل شبان في تقليب البقايا من جماجم وهياكل عظمية وملابس ووثائق محفوظة معها علهم يتعرفون على احبتهم المفقودين من عام 1991. ولن يفوتك ان نواحا وولولات من امرأة او اكثر يبكين الابن الضائع او الزوج المخطوف، واحيانا الزوج والابناء معا.

نحن الآن عند واحدة من المقابر الجماعية الكبيرة التي لا يمر يوم من دون الاعلان عن اكتشاف احداها في العراق.. والمقبرة التي اقيمت عند طرف ارض زراعية ليست كبيرة في مساحتها التي تبلغ اقل من 200 متر طولا و100 متر عرضا دفن فيها 2800 شخص، رجالا ونساء.. اطفالا وشبابا وشيوخا بعد قتلهم باطلاق الرصاص عليهم او بدفنهم وهم احياء اثناء عمليات قمع الانتفاضة الشعبية التي اندلعت ضد الرئيس السابق صدام حسين فور انتهاء حرب الخليج الثانية (1991). ولم تتسع هذه المقبرة لكل الضحايا فدفن 300 آخرون في مقبرة لا تبعد كثيرا عن المكان، حسب ما افاد المحامي صباح علي الموسوي عضو لجنة المتطوعين الذين عملوا على الكشف عن موقع المقبرة واستخراج بقايا الجثث منه والعمل على تحديد هويات اصحابها، وهي لجنة تتكون من نحو 60 شخصا. وقال الموسوي ان اللجنة كشفت حتى الآن عن 3100 رفات للضحايا وحددت هويات 1160 منهم.

كيف تمكنتم من الاهتداء الى مكان المقبرة؟

صباح الموسوي، 35 عاما، قال لـ«الشرق الأوسط» في مقابلة عند المقبرة نفسها: كانت لدى بعضنا معلومات مسبقة عن وجود المقبرة هنا، لكننا لم نكن نستطيع القيام بأي شيء في العهد المباد، وحتى الهمس في قضايا من هذا النوع يعد مجازفة كبيرة تؤدي الى فقدان الحياة وبعد انهيار نظام صدام بدأنا بجمع المعلومات عن هذه المقبرة وضحاياها.

لماذا هذا المكان بالذات اختير للمقبرة الجماعية؟

اوضح الموسوي ان ارض المقبرة جزء من ارض تعود لأحد اعوان حزب البعث، هو محمد جواد عنيفص الذي شارك هو نفسه وابن عمه قيس فرحان العلواني وشخص ثالث يعرف باسم (سيد فهمي) بقتل الضحايا.

وبعد انتهاء عمليات التصفيات كافأ الرئيس العراقي السابق صدام حسين عنيفص باهدائه احدى سياراته الشخصية وأحد مسدساته الخاصة وجعل منه شيخا عشائريا على المنطقة. وقد عمل عنيفص وعدد من المقربين منه ادلاء للقوات الحكومية العراقية للقضاء على الانتفاضة في محافظة بابل واعتقال وقتل الضحايا الذين لم يكونوا جميعا من المشاركين في الانتفاضة.

يقول الموسوي.. كان عنيفص وجماعته يجوبون شوارع مدينة الحلة ومدن اخرى بحافلات وينادون على الركاب لايصالهم الى مناطق سكنهم او وجهات يقصدونها حتى اذا امتلأت الحافلة بالركاب انطلقت الى معسكر المحاويل حيث جرى تجميع الآلاف من الناس الابرياء بمن فيهم الاطفال الرضع الذين كانوا على صدور امهاتهم. وفي المعسكر اعدم البعض فيما اعدم الآخرون في مكان المقبرة، وذلك بدعوى المشاركة في «الاعمال الغوغائية» او «صفحة الغدر والخيانة»، حسب ما كان يطلق على الانتفاضة.

وهل اقتصرت مسؤولية الاعدامات الجماعية على عنيفص ومساعديه الاثنين؟

قال صباح الموسوي ان آخرين كانوا ينفذون عمليات الاعتقال والاعدام، الا ان عنيفص كان الابرز والاقسى بينهم، واضاف ان تلك العمليات تمت في محافظة بابل باشراف محمد حمزة الزبيدي، عضو القيادة القطرية لحزب البعث ورئيس الوزراء السابق، وهو من سكان المنطقة نفسها، وقد اعتقل بعد ايام من توقف الحرب الاخيرة، حيث وجد مختبئا في المنطقة وكاد السكان المحليون ان يقتلوه قبل ان تتسلمه قوات التحالف، وهو احد الذين وردت اسماؤهم من بين المطلوبين الـ55 في القائمة الاميركية. والى جانب الزبيدي كان يشرف على العمليات ايضا ماهر عبد الرشيد التكريتي القائد السابق في الجيش العراقي وقوات الحرس الجمهوري، وهو ابو زوجة قصي الابن الثاني لصدام حسين.

وتفيد معلومات بان عنيفص اعتقل ووضع في احد السجون المحلية لكنه نقل الى معسكر اعتقال قرب ام قصر بعد ان حاول اقارب لضحايا مقبرة ابو سديرة مهاجمة السجن وقتل عنيفص. ويقال ان شريكه وابن عمه قيس العلواني (نسبة الى عشيرة البوعلوان) فر الى منطقة الرمادي غرب بغداد واختبأ لدى اقاربه من عشائر الدليم التي تتحدر منها عشيرة البوعلوان، اما الشريك الثالث (سيد فهمي) فلا احد يعرف مصيره.

عضو آخر في لجنة المتطوعين، وهو عامر محمود مال الله، 48 عاما، قال ان الضحايا الذين امكن التعرف عليهم وتسلمت عوائلهم بقاياهم تم تحديد هوياتهم من خلال الوثائق الرسمية التي كانوا يحملونها ودفنت معهم فيما تعرف الاهالي على الآخرين من اقاربهم من خلال الملابس او الساعات او الخواتم او الفكوك او الارجل او الايدي البلاستيك بالنسبة للمعوقين او من خلال قطع الحلي بالنسبة للنساء.

واوضح مال الله وهو يراجع سجلا باسماء الضحايا الذين تحددت هوياتهم ان النساء شكلن نسبة 4% منهم والاطفال 1%، بينهم طفلان كان عمرهما يقل عن سنة واحدة، والشيوخ شكلوا نسبة 15%. واضاف ان بعض الضحايا كانوا عوائل كاملة اعتقلت في منازلها او في سياراتها. وقال مال الله ان من بين ضحايا هذه المقبرة 30 مصريا تسلم احد المصرين الذين يسكنون في ناحية المدحتية (محافظة بابل) رفاتهم واجرى اتصالات مع السفارة المصرية في بغداد لنقل هذه الرفات الى مصر. اثناء وجودي في المقبرة حضرت امرأتان وسألتا اعضاء لجنة المتطوعين عما اذا كان من تبحثان عنهما مسجلين لديهم. وبينما حملت احداهما احدى الوثائق الشخصية لابنها المفقود راحت الاخرى تبحث بين اكياس البلاستيك والقماش عما يمكن ان يهديها الى من تبحث عنه.

كانت حسنة سلمان الدلي تولول وتبكي عندما تقدمت منها لاعرف بعض تفاصيل محنتها: «يمه ادور على (ابحث عن) وليدي».

واوضحت انها سبق وان جاءت الى هذه المقبرة ولم تعثر على أي اثر لابنها انبهار راضي جبر حمادي، ثم ذهبت الى مقابر اخرى في محافظة بابل ومحافظات مجاورة فلم تحض بما يهديها الى قبر وليدها واضطرت الى العودة الى مقبرة قرية ابو سديرة تجديدا لأمل يبدو انه لن يتحقق.

قالت حسنة الدلي انها من سكان حي الاسكان بمدينة الحلة (مركز محافظة بابل)، وان ابنها، انبهار، كان عمره 16 عاما يوم اختطفوه من بيته في العام 1991. شرحت ما حدث في ذلك اليوم قائلة ان مجموعة من المسلحين داهمت بيتها بالقوة في صباح ذلك اليوم: قلت لهم لا يوجد احد في البيت غيري وغير ولدي الصغير التلميذ في المدرسة. اما الكبير فكان جنديا اخذوه الى الحرب في حفر الباطن، عندما دخلوا كان انبهار يسألني عما اذا اعددت له الفطور ام لا، فردوا عليه بانهم سيأخذونه معهم ليفطر.. اخذوه ولم يعيدوه لحد الآن.

اما علية جواد عبود فأوضحت انها من سكان بلدة المحاويل القريبة، وانها تبحث عن أي اثر لابن زوجها علي خلف كاظم: كان وليدي.. انا الذي ربيته وكبرته. لم يرزقني الله بطفل فجعلت منه ابنا لي. وعندما سألتها عن عمره يوم اختطافه قالت: ( رجل.. يمه رجل)، واوضحت انه كان راكبا سيارته متجها من المحاويل الى بغداد عندما اوقفوه في نقطة التفتيش واخذوه الى جهة مجهولة.