المباحث الأميركية تعتذر لثمانية مصريين اعتقلوا ودمرت حياتهم بعد هجمات سبتمبر بناء على وشاية كاذبة من زوجة غاضبة

TT

الطعام هو نفسه في مطعم «كريزي توماتو»، وكذلك الأسعار والخدمة. لكن ما كان مكاناً مألوفاً للمعكرونة قبل 18 شهراً لم يعد يجتذب سوى جزء قليل من زبائنه المواظبين.

تقلص العمل في اعقاب اعتقال صاحب المطعم، طارق الباسطي، من قبل مكتب المباحث الفيدرالي (اف.بي آي) مع سبعة رجال مصريين آخرين للاشتباه بانهم كانوا يخططون لتنفيذ هجمات ضد الولايات المتحدة. ونشرت صور هؤلاء الرجال وهم يرتدون ازياء السجناء في الاماكن البارزة من الصفحات الاولى للصحف، وجرت السخرية منهم وتجنبهم، حتى بعد اطلاق سراحهم. وسرعان ما راجت الاشاعات حول دروس الطيران وقنوات المال من ايفانزفيل الى مصر.

لكن مكتب المباحث الفيدرالي قال ان الامر كله كان خطأ. وفي لقاء جرى الشهر الماضي مع ما يزيد على 100 شخص من الجالية المسلمة في ايفانزفيل، قدم مكتب المباحث الفيدرالي اعتذار نادراً لان الاشتباه بشأن الاعتقالات، الناجمة عن معلومات كاذبة، كان كالسيف المصلت فوق رؤوس الرجال لفترة طويلة، وأدى الى تعطيل حياتهم.

وقال توماس فونتيس الموظف المسؤلو عن مكتب المباحث الفيدرالي في انديانا خلال اجتماع عقد في المركز الاسلامي بايفانزفيل ان «الوضع الذي حدث لكم كان مرعباً. ونيابة عن مكتب المباحث الفيدرالي اريد الاعتذار اليكم».

وقد برأ هذا الاعتذار اسماءهم في مدينة كانوا يصارعون من اجل ان تكون موطنهم الدائم. ولكن ذلك لم يحسن المشروع التجاري الذي كان مزدهراً، ولم يمكن من استعادة ثقة الناس به. ويعترف الرجال بان مكتب المباحث الفيدرالي كان حذراً ومحترساً، على نحو مفهوم، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) 2001. ولكن هناك حدودا لفهمهم.

فكجزء من حملة مطاردة على مستوى البلاد في الاسابيع التي اعقبت الهجمات الارهابية، كان الثمانية بين 50 شخصا احتجزوا كشهود اساسيين في سجون امنية مشددة دون ان توجه اليهم تهمة ارتكاب جريمة. وكان هناك آلاف من الرجال من دول الشرق الاوسط خضعوا للتحقيق، واعتقل واحتجز بعضهم لصلات مزعومة بالارهاب وتم ترحيل الكثير منهم بزعم انتهاكهم لقوانين الهجرة. واحتجت جماعات الدفاع عن الحريات المدنية على ذلك، مشيرة الى ان عمليات الاعتقال تمت بناء على تمييز عرقي.

وقال الباسطي، 31 عاماً، وهو يلقي نظرة على مطعمه الخالي من الزبائن تقريباً «لا فرق عندي بين ان اكون مواطناً او لا، طالما انكم تطبقون صورة عربي او مسلم تلقى دروسا في الطيران» وقد اعتقل الباسطي مع عمه وستة من الاصدقاء والزملاء في العمل يوم 11 اكتوبر (تشرين الاول) 2001.

وقال روس لويد، رئيس بلدية ايفانزفيل «كان تطوراً مذهلاً تماماً. كان صدمة شاملة. وكان الناس يقولون: يا إلهنا، هذه هي ايفانزفيل».

ويقطن في هذه المدينة 120 الف شخص معظمهم من البيض، وتعتبر الجالية المسلمة المكونة من 300 شخص، والتي يجمعها الجامع الوحيد في المدينة، جالية صغيرة.

وقال المبشر دانيل شرويدر، راعي كنيسة القديس ماثيو الموحدة، وهو قس في المنطقة منذ 15 عاماً: «هؤلاء لم يكونوا مجرد اشخاص صادف ان عاشوا في نفس المدينة معنا. فقد عرفنا هؤلاء الناس».

كان كل الرجال الذين اعتقلوا يعرفون بعضهم بعضاً في القاهرة، وقد جاؤوا الى الولايات المتحدة بحثاً عن عمل يوفر لهم ان يرسلوا المال الى عوائلهم في وطنهم. وكان الباسطي اول من وصل الى ايفانز فيل عام 1994 بعد سنة من زواجه من كارولين باو، التي التقاها في مصر عندما كانت تدرس هناك. وفي البداية كان مساعد نادل، ثم اصبح مديراً في مطعم «كريزي توماتو» قبل ان يشتري وزوجته المطعم عام 1997. وجاء عم له ليساعدهما في ادارته. ثم جاء اصدقاء الواحد بعد الآخر، ومعظمهم مشاركون سابقون في فريق بلاده الوطني للتجديف. وقد وفر الباسطي عملاً لثلاثة منهم.

كانت حياتهم بسيطة: يعملون كطهاة او ندل، ويلعبون كرة القدم في الصباح، ويؤدون الصلاة في الجامع في ايام الجمع، ويمارسون حياتهم الاجتماعية في ما بينهم. وبالنسبة للرجال كانت ايفانزفيل، المدينة الهادئة على حدود كنتاكي، صدمة ثقافية بعد حياة في مدينة صاخبة تضم ما يزيد على عشرة ملايين شخص.

وقال محمد يوسف، النادل في معظم «كريزي توماتو»، والذي وصل قبل اربع سنوات: «لقد عرفنا اميركا ببرجيها (في نيويورك) اما هذه فمدينة هادئة».

لم تكن القضايا السياسية موضوعاً ساخناً. غير ان هجمات الحادي عشر من سبتمبر غيرت كل شيء. فبعد اربعة ايام من الهجمات جاء عناصر مكتب المباحث الفيدرالي لزيارة الباسطي، وكانوا يريدون معلومات عن دروس الطيران التي كان قد تلقاها. وكانت تلك هدية من والد زوجته، وهو محام في المنطقة. لكن عملاء المكتب ارادوا معرفة المزيد، حول معلوماته عن الارهاب فأجابهم عما يعرف، ثم غادروا.

وبعد اقل من شهر من ذلك، عاد عملاء مكتب المباحث الفيدرالي واعتقلوا الباسطي وعمه وهما يقومان بطهي المعكرونة في المطعم. اما الرجال الاخرون فقد اعتقلوا في اماكن العمل او البيت. وكان كل منهم ينتظر عناصر المباحث بعدما سمع عن اعتقال الآخرين. غير انهم، وقد كانوا يعرفون عن المرة السابقة التي اعتقل فيها الباسطي، اعتقدوا ان الامر لن يستغرق سوى ساعات قليلة.

وقال خالد نصر، 27 عاماً الذي جاء الى الولايات المتحدة قبل ثلاث سنوات: «اعتقدت انهم سيوجهون لنا بعض الاسئلة العامة وينتهي الامر عند هذا الحد».

وتحولت الساعات الى ليلة بكاملها ثم اسبوع في السجن. وقد جرى عرضهم امام الكاميرات، ونقلهم جواً الى شيكاغو برفقة قيمين على السجناء من الضباط الاميركيين. كانت الدموع تنهمر، فزوجاتهم وصديقاتهم غير القادرات على التحدث اليهم، تركن، ايضاً، في وضع غامص. وتخيل الباسطي ان رعب حالات الاغتصاب والضرب التي شاهدها في المسلسلات ستمارس بحقهم خلال فترة بقائهم في مركز الاعتقال الفيدرالي في شيكاغو. وكان عمه، عبد الجليل، الذي يحتفظ بسجلات المطعم التجارية، يخشى من تعرضهم للاعدام. وما من احد كان يفهم، بالضبط، سبب اعتقالهم، سوى انهم ابلغوا بانهم سيكونون شهوداً اساسيين. وقال الباسطي انه كان يفكر مع نفسه «شهود لمن؟ وشهود على ماذا».

وقد علموا، في وقت لاحق، بأن خصاماً بين زوجين قد جاء بهم الى السجن فزوجة احد المعتقلين معهم، وهو فتحي صالح عبد الخالق، كانت قد ابلغت مكتب المباحث الفيدرالي، وهي في حالة غضب، ان زوجها انتحاري وانه خطط لقتل نفسه في حادث تفجير طائرة. واخذت السلطات الامر على نحو جدي، لكن ثبت لاحقاً ان الاتهام لم يكن صحيحاً، وعندما اطلق سراح الرجل عاد الى مصر مع احد الرجال الاخرين. اما الستة الذين بقوا فحاولوا نسيان الحادث، ولكنه ظل يلازمهم. فبعد عودة من رحلة الى مصر، في الاومة الاخيرة، اعتقل احد الرجال في المطار لمدة خمس ساعات لان اسمه ظهر في الكومبيوتر باعتباره مطلوبا لتحقيق فيدرالي. ورفض طلبه الاستئجار شقة للسبب نفسه. وهكذا، فعندما اعلن عن اللقاء في الجامع حضروا على امل الحصول على اجابات. وكان نسيبا الباسطي (احدهما محام والآخر كاتب) قد اكدا، منذ البداية، ان قانون الشاهد الاساسي الهادف الى اخذ شهادة، بالاكراه، من شخص خائف او غير متعاون، قد اسيء استخدامه لاعتقال الناس لفترة غير محددة.

وكان اللقاء بعيداً عن تقديم اجابات. وقالت كارولين باو، زوجة الباسطي «لم اتوقع شيئاً سوى ارتفاع ضغط الدم».

لكنهم حصلوا على اعتذار. وقال فونتيس، المسؤول في مكتب المباحث الفيدرالي في مقابلة لاحقة: «لقد اتهموا خطأ. لقد خسروا مشروعهم التجاري تقريبا. فهذا الشيء ترك آثاره عليهم بمختلف الطرق. ان كل من يتهم زورا بارتكاب شيء على هذه الدرجة من الخطوة يشبه معلماً يتهم بالتحرش بطفل. ومن الصعب ان يشفى المرء في هذه الحالة. فبوسعكم ان تروا ان الدموع ما تزال، بعد اشهر، مستعدة للانهمار».

ومع ذلك قال فونتيس انه لم يكن هناك خيار امام مكتب المباحث الفيدرالي، مشيراً الى انه «كان ينبغي اتخاذ اجراء. لم اعتذر عن ان مكتب المباحث الفيدرالي ارغم على اعتقالهم. كان ذلك شيئاً لا بد من القيام به».

* خدمة « واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»