«أبو عمار» في قلب الحصار: مكتبه يعاني من نقص الأوكسجين والهواتف الجوالة لا تدخله

TT

عندما كنا في عز مقابلتنا الصحافية مع الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات (ابو عمار)، بدأت أجهزة اللاسلكي من حولنا تلعلع و«الشباب» من الحرس الرئاسي وكل من وجدوا في المقاطعة، مقر الرئاسة في رام الله، يتحركون بشيء من التوتر وانعدام الراحة. وبعد انتهاء اللقاء عرفنا السبب: مجنزرات ودبابات الجيش الاسرائيلي تتحرك في عدد من الشوارع القريبة جدا من المقر. فكل حركة كهذه تؤدي الى استنفار امني هنا. صحيح ان احدا لا يفكر في الانتصار على جيش الاحتلال اذا ما قرر غزو المقر، لكن احدا لا يفكر ايضا في الاستسلام. لهذا، فان الاستنفار يبدو حقيقيا للغاية، لان الخطر محدق للغاية، فاسرائيل تتخذ من ابو عمار شماعة تعلق فوقها فشلها السياسي والامني والاستراتيجي. وبدلا من ان تواجه شعبها بصراحة، فتقول ان نظرية القوة قد فشلت وان هناك طريقة لتوفير الامن لم تجرب بعد هي اقامة دولة فلسطينية مستقلة لتحقيق السلام، نجدها تتحدث عن العنف كما لو انه سياسة عرفاتية. وتقلب الامور رأسا على عقب فتزعم ان العمليات التفجيرية ناجمة عن سياسة رسمية للرئيس عرفات، وانه هو السبب في اطلاقها. وتحتار من صفاقة هذا الاتهام، خصوصا عندما تدخل المقاطعة وتطلع على الوضع المأساوي الذي يعيشه رئيس الشعب الفلسطيني المنتخب، ورفاقه ومساعدوه.

«عادي»، قالها لنا احد السياسيين الفلسطينيين الذين كانوا ينتظرون في الممر حتى يفرغ الرئيس من لقاءاته ليدخل اليه، وقصد ان هذا الاستنفار بات يوميا تقريبا، فمنذ ان بدأ حصار الجيش الاسرائيلي لمقر الرئيس الفلسطيني، قبل سنتين ونصف السنة، يشعر كل من يوجد في المبنى او في محيط المقاطعة بأسره انه في خطر.

لكن هذه الأيام ليست عادية هنا، فاسرائيل تعيش مسلسل عمليات تفجيرية، الخليل والعفولة والقدس واحدى المستوطنات في منطقة نابلس. وقد قتل خلالها 12 مدنيا وجرح حوالي مائة. وحكومة شارون تحاول تبرير فشلها بضرب عرفات. فتجتمع ويكون البحث على بساطها طرده، وتطرح اقتراحات صريحة من بعض المسؤولين بالمساس به جسديا. وعلى الرغم من ان عرفات استنكر هذه العمليات وقال انها تتنافى مع قناعاته ومع ايمانه الديني والسياسي ومع مصالح الشعب الفلسطيني، فانهم يصرون على تحميله مسؤوليتها.

لهذا، فان الرحلة من وسط رام الله حتى مقر الرئيس عرفات، تبدو محفوفة بالمخاطر، واضواء السيارة التي تنقلنا الى مدخل المقاطعة تخلق اجواء متوترة، فما ان تدخل من بين اكوام التراب، حتى تبدأ اجهزة اللاسلكي بأيدي الحرس الرئاسي تلعلع، ويقفز امامك عدد كبير منهم يتحققون من كل شخص ويرصدون كل حركة. وانت نفسك تشعر من لحظة الاقتراب الاولى من الساحة بانك تدخل سجنا وليس مقر رئاسة لزعيم منتخب في انتخابات تمت تحت اشراف مراقبين دوليين، وتنظر حولك فتصاب بالدهشة. اين مقر الرئاسة هذا بين اكوام الجدران المحطمة والعمارات التي تحولت الى ركام؟

«هذه هي غرفة نوم ابو عمار»، يدلنا وزير الاتصالات عزام الأحمد، وهو يشير باصبعه الى البرج المهدم. ويردف قائلا «كان جنود الاحتلال يطوقون المقاطعة من جميع الاتجاهات. والجرافة الاحتلالية كانت تمد خرطومها وتحطم الجدران الواحد تلو الآخر، حتى وصلوا الى جدار الغرفة نفسها. وقد زرعوا العبوات الناسفة في حزام يحيط بالمبنى كله، ليهددوا بتفجيره على من فيه. وهدموا كل العمارات القائمة في المقاطعة باستثناء بعض الجدران التي اصبحت كالغرف المعلقة».

ونصل الى المدخل، فيطلب الحراس منا اطفاء الهواتف الجوالة، وذلك كاجراء امني اجباري. فبعد ان تحولت هذه الهواتف الى اداة لتفجير العبوات ونسف من يحملها، لم يعد احد يغامر بادخالها الى غرفة ابو عمار. وندخل من بين البراميل واكياس الرمل التي تعتبر رمزا محدودا للحماية من الهجوم القادم. ولما كانت الساعة تقارب منتصف الليل بدا المقر اشبه بمخيم لاجئين قد طردوا لتوهم من بيوتهم، اذ راح الحراس والموظفون والضباط، صغيرهم وكبيرهم، يفترشون الارض استعدادا للنوم. كل المكاتب تتحول الى غرف نوم بلا استثناء، وكذلك الممرات الصغيرة وبيوت الدرج والسلالم. ونرتقي الى الطابق الثاني، حيث غرفة عمل الرئيس واجتماعاته، لنجد طابورا من المواطنين ينتظرون بالدور للقائه: مجموعة شبان من مخيم اللاجئين في جنين الذين تمكنوا من الالتفاف على الحواجز ونراهم قلقين على مصير مدينتهم، اذ وصل نبأ للتو يقول ان قوات الاحتلال اجتاحت المدينة قبل ساعة.

ثم يدخل اربعة وزراء، ليعقدوا جلسة محادثات سريعة مع الرئيس، ثم يأتي دورنا للقائه، في منتصف الليل، وما زال ينتظر وراءنا آخرون: ثلاثة من قيادة الحركة (فتح)، عميد في الجيش، مستشارة قانونية، احد النقباء، قادة نقابة المعلمين وغيرهم، فالاجندة ملأى، وأبو عمار ما زال يعمل حتى الثانية فجرا.

* النقص في الأوكسجين

* غرفة عمل الرئيس عرفات الباقية، هي نفسها التي يستقبل فيها الزوار، جميع الزوار، من رؤساء الحكومات والوزراء الاجانب الى وزراء حكومته ورئيسها، الى المواطنين البسطاء. وهي غرفة الاجتماعات الرسمية ايضا، وهي غرفة الطعام، وهي نفسها «الساحة» التي يمارس فيها ابو عمار رياضة المشي، فينهض من كرسيه القديم ويدور حول طاولة الاجتماعات مئات المرات كل يوم. وعندما يضطر لاستقبال احد مساعديه في الغرفة، خلال فسحة المشي هذه، يدعوه الى مشاركته في هذه الجولات. والكثير من وزرائه يشكون من المشي بهذه الطريقة: «انا امارس رياضة المشي في كل يوم. لكنني لا استطيع ان اجاري ابو عمار فيها، واصاب بالدوار كلما يدعوني الى المشي الى جانبه»، كما قال لنا احد الوزراء.

وكان ابو عمار، كعادته، يقرأ الرسائل والتقارير ويسجل الملاحظات، حتى حضر العشاء، فدعا جميع الذين ينتظرونه بالدور الى ان يشاركوه، صحن صغير الحجم من اللبنة وآخر من الجبن وثالث من الدمس الحمص وصحن بطيخ، لكل اربعة اشخاص، وهو يتناول قطع الخضار او لقمة خبز مغمسة بزيت البركة والعسل.

ثم ينتهي العشاء ويعودون الى غرفة الانتظار.

نتجول بانظارنا داخل المكتب وجنباته. في المرة الماضية لاحظنا وجود اكياس الرمل تغطي الشبابيك. ولكن في هذه المرة بني جدار من حجارة البلوك وقد بني وراء الشبابيك، يحجب عن الغرفة ليس نور الشمس وحسب، بل حتى الهواء وسبب هذا البناء ان قناصا اسرائيليا تمكن من اصابة احد حراس المقر بالرصاص من وراء اكياس الرمل، فقرروا اقامة الجدار ليحمي من في الدار، بمن في ذلك ابو عمار لكن احد الاطباء المترددين على المكتب لاحظ ان هناك ضررا صحيا من هذا البناء، اذ يوجد نقص في الاوكسجين وافراط في الرطوبة في الغرفة، وهذا بدوره يمس بصحة الرئيس الفلسطيني وزواره الدائمين. لذلك جلب جهازين لبث الاوكسجين وجهازين آخرين لسحب الرطوبة وتجفيف اجواء الغرفة.

في احدى الزوايا كومة من الملفات، عرفنا لاحقا انها نسخ من «خريطة الطريق»، باللغتين الانجليزية والعربية. يقوم ابو عمار بتوزيعها على بعض زواره، ويبدي حماسا لها. ويشرح ايجابياتها، ويقتبس لنا بعض فقراتها الاساسية، خصوصا ذلك البند الذي يتحدث عن الانسحاب الى حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967 لاقامة الدولة الفلسطينية المستقلة عليها.

بالطبع، تحيط بأبو عمار تلك الرموز التي يحرص دائما على ابرازها والحديث عنها، صورة كبيرة للقدس، شمعة غرس فيها الصليب قدمت له هدية من المصلين المسيحيين في الكنيسة التي يصلي فيها الرئيس السابق للولايات المتحدة، بيل كلينتون، مجسم للصخرة المشرفة في القدس، وصورة لكنيسة المهد في بيت لحم، التي تعرض تمثال مريم العذراء فيها لقصف اسرائيلي من سبع قذائف، يعرضها ابو عمار على زواره باستمرار وهو يشكو بصوت عال: لا احد في العالم يهتز لهذه الاعتداءات حتى العالم المسيحي لا يقول لاسرائيل شيئا.

عندما دخلنا اليه كان يقرأ تقريرا قصيرا وصل اليه للتو من غزة، فتجهم وجهه وكتب عليه بالحبر الاحمر: للتوزيع، واذا به يحكي عن نتائج اطلاق الرصاص من قبل جنود الاحتلال على مجموعة من المواطنين، بينهم طفلة فلسطينية في الخامسة من عمرها، ادت الرصاصة التي اخترقت رأسها الى اصابتها بالموت السريري: «تصوروا هذه الجرائم انها تتم يوميا. لو ان تلك الطفلة كانت يهودية واصيبت برصاص احد الفلسطينيين ايا كان انتماءه او اهدافه، ونحن لا نؤيد المساس بالمدنيين، فما الذي كانوا سيفعلونه؟ وماذا كان يمكن ان يكون رد فعل العالم؟ هل دماء الفلسطينيين مهدورة في عالمنا وعصرنا؟!»، تساءل ابو عمار.

وبدأنا اسئلتنا، فكان يرد عليها واحدا واحدا بلا تردد. وفي كثير من الاحيان رد على السؤال بسؤال لنا من عنده. وقد بدا الحزن حينا والغضب حينا آخر، فيدل على انه في ضيق حقيقي. وعندما يشعر انه قال كلمة قاسية او تعبيرا جارحا او انتقادا لاذعا لأي طرف سياسي في العالم، يلجم نفسه بسرعة، ويروح يتكلم بالايجابيات عن تلك العناصر. فهو مضطر الى اجراء الحسابات الدبلوماسية واصول البروتوكول، ولا يريد ان يتهم احدا عينيا، ولا ان يغضب اي زعيم ولا ان يدخل في سين وجيم مع اية دولة، مع ان التذمر لديه واضح لا يمكن اخفاؤه.