برامج التلفزيون العراقي تعاني من فوضى ما بعد الحرب

الهواتف لا تعمل وزوجة طالباني تراقب البرامج بوصفها «عرافة» في شؤون الاعلام

TT

أثبتت الأيام الماضية إن استئناف بث التليفزيون العراقي، عقب فوضى ما بعد الحرب، ليس مسألة هينة، بدءا من معالجة مشكلة انقطاع التيار الكهربائي، وحتى مواعيد دوام العاملين فيه. فالهواتف لا تعمل، ومن الصعوبة بمكان تأكيد الأخبار. وهناك جدل بشأن تأثير نفوذ سلطات الاحتلال الأميركية على المادة التحريرية.

كانت سفيرة الولايات المتحدة لدى المغرب، مارغريت توتوايلر، قد كلفت بالسفر إلى بغداد لتلميع صورة الإحتلال الأميركي، لكنها، ووفقا لعدد ممن لهم علاقة بالأمر، تسببت في إثارة حالة من التمرد خلال أوائل الشهر الجاري عندما قررت، هي وموظف شاب لدى البيت الأبيض، يدعى دان سينور، التدخل بشكل سافر في وضع البرامج، وأبلغا العاملين في التليفزيون إن زوجة زعيم كردي بارز ستتولى مراجعة ما سيبث مسبقا.

ووصف العراقيون، والى جانبهم أولئك المستشارون الذين جلبتهم الولايات المتحدة من الخارج، ذلك الإجراء بأنه رقابة. وقد احتجوا بالقول إن إشراف توتوايلر وسينور على التليفزيون انتهك مفاهيم الحرية والاستقلال التي قال الرئيس بوش إن مستقبل العراق سوف يتسم بها. والأهم من ذلك، إنهم اعترضوا على فكرة ان الاميركيين اعتقدوا بأنهم أدرى بما هو الأصلح للمشاهدين العراقيين.

قال أحمد الركابي، 33 عاما، وهو عراقي الأصل ولد في المنفى وتم التعاقد معه لتقديم برامج في تليفزيون العراق «الاعتماد على أية جهة حكومية، سواء أكانت عراقية أو غير عراقية، سيؤدي إلى استبداد آخر وسيقضي على الديمقراطية. إذا ما أردنا الديمقراطية بالفعل، فعلينا حماية هذا الطفل المتمثل في الإعلام العراقي».

محطة تليفزيون العراق تقوم هذه الأيام ببث الأخبار وبرامج وثائقية. وبرغم ان حالة الهيجان خفت ولو لبعض الوقت، لكن التوتر الدائم بشأن الرقابة يعكس أهمية المحطة بالنسبة لبلد كان التليفزيون الوطني أداة بيد الدولة منذ عقود سبقت الإطاحة بصدام حسين على أيدي قوات التحالف. وعقب انهيار الحكومة، لم يظهر على السطح ما يمكنه تعويض مكانته، نظرا للدمار الذي لحق بأبراج البث نتيجة للحرب، ولعمليات السلب اللاحقة التي نالت معدات الإنتاج.

قال مسؤول أجنبي في سلطة الاحتلال الأميركية إنه يعتقد أن توتوايلر اعتمدت إلى حد مبالغ فيه على السيدة هيرو طالباني، زوجة جلال طالباني زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، والتي «كانت قد أقنعتهم جميعا بأنها عرافة عظيمة الشأن في الذوق العراقي»، بدلا من تأييد فكرة أن يدير العراقيون برامجهم. وأضاف المسؤول إن توتوايلر وسينور «يتصرفان في واقع الأمر وكأن أحدهما مدير المحطة والأخر مسؤول الأخبار».

ووفقا للعاملين في التليفزيون العراقي وللمستشارين فإن المسؤولين الأميركيين عارضا وجهة نظر الركابي مقدم البرامج، واعترضا على قراءة آيات من الذكر الحكيم. وفيما بعد، كما قال مسؤول في برنامج إعادة البناء، حدث إن سينور أعرب عن رأيه في أن الشخص المكلف بإجراء مقابلة مع باول بريمر المسؤول الأميركي عن إعادة بناء العراق، لم يكن مستعدا كما يجب. وبالتالي فقد أعد الأسئلة بنفسه خلال إجراء المقابلة وتصويرها. وتساءل هذا المسؤول قائلا «لو إن مقدم البرامج الشهير دان راذر لم يأت لإجراء المقابلة مع جورج بوش، فهل كان آري فليتشر المتحدث باسم االبيت الأبيض، هو الذي سيجريها؟».

مستشار أميركي أخر قال «لم تكن فكرة جيدة»، أن يسمح للسيدة هيرو طالباني باستعراض مواد البث، بالنظر إلى أن زوجها ظل يناضل ويتحرك من أجل استقلال كردستان عن حكومة بغداد ذات الطابع العربي. وأضاف «لا يمكنك اللجوء لشخص لديه برنامج عمل سياسي (ليكون رقيبا). وقد أشار العديد من الناس إلى أن الفكرة لم تكن جيدة».

على إن تراث زمن صدام حسين مايزال يمثل تحديا بالنسبة لمنتجي البرامج، الذين يتوجب عليهم اتخاذ قراراتهم الخاصة بشأن المواد التي سيبثونها من موقع البث البعيد. حتى إن البعض منهم لم يتمكن من حسم مسألة وضع شعار محطة التليفزيون العراقي السابق عقب الحرب. وذات مساء، خاض العاملون في المحطة سباقا مع الزمن وهم يعدون برامج أخبار ومنوعات خلال موعد أقصى مدته ساعتان فرضه جدول انقطاع التيار الكهربائي. وحدث ذلك عندما أجرى سينور مقابلته مع بريمر. وعندما انقطع التيارالكهربائي قبل موعده المحدد، سخر صحافي عراقي مما حدث وقال «جميل. دعوا بريمر يوفر لنا بعض الكهرباء لكي نبث مقابلته على الهواء».

وقبل إسبوعين من تلك الليلة، تعطل صحن بث الإرسال عبر الأقمار الإصطناعية التابع للمحطة. وقد اضطر فريق العمل للاستعانة بالطبق الخاص بمكتب هيئة الإذاعة والتلفزة البريطانية (بي بي سي)، لكنه هو الآخر لم يتحمل الضغط. ومع قيام فريق إنتاج ببث أولى مباراة كرة القدم التي شهدتها البلاد عقب الحرب، قام أحدهم متعمدا بقطع سلك باهض الثمن. وقد أدت المشاكل الفنية إلى إضعاف مستوى البث وحصره في حدود قطر يبلغ مداه 75 ميلا حوالي بغداد.

والمعدات المستخدمة قديمة إلى درجة «إن بعضها بات معروضا في متحف بالعاصمة واشنطن»، كما قال أحد المستشارين الذي طلب كغيره عدم الإشارة إلى اسمه، خوفا من إثارة غضب توتوايلر أو بعض أفراد طاقم بريمر المتنفذين. وأضاف هذا المستشار «حتى الأن لا يمكن القول إن العمل يتم بشكل مهني، لكننا نأمل أن نتمكن من عرض الحقائق فقط، بطريقة تحظى ببعض الثقة من الناس».

وحتى قبل الجدل المتعلق بالرقابة على المواد التحريرية، اتفق الجميع على ان المصداقية هدفهم. لكنهم اختلفوا بشدة حول كيفية تحقيق هذا الهدف.

وفي ذروة الخلاف، تعجب مستشار رفيع في برنامج إعادة البناء، من تمكن توتوايلر وسينور من تحقيق «ما راود البيت الأبيض كحلم منذ سنوات... وهو السيطرة على برامج الأخبار المسائية». وبشيء من الإعجاب الممزوج بالفزع، وصف توتوايلر بأنها «إمرأة تضم فريقا من الأخصائيين في العمليات النفسية».

موظف آخر قال إن توتوايلر، التي حظيت بدعم بريمر والسيدة طالباني، رأت انه سيكون من الخطأ السماح للركابي بتقديم البرنامج، خشية أن ينظر إليه على أنه أجنبي مفروض من قبل الولايات المتحدة. وكان الركابي قد ولد لأبوين عراقيين مغتربين في براغ، في عام .1969 وقد أمضى سبعة أعوام في محطة إذاعة سويدية قبل أن يصبح مديرا لمكتب إذاعة العراق الحر في لندن. لكنه لم يعش أبدا في العراق. العاملون في المحطة والمستشارون الذين تم استقدامهم من الخارج، وقفوا إلى جانب الركابي، الذي شعروا بأنه دفع الثمن بقضائه معظم سنوات حياته معارضا لحكومة صدام حسين، رغم ان ذلك تم عن بعد. وتساءل الركابي ومؤيدوه عما إذا كان البديل سيتمثل في شخص ينتمي للمجموعة السابقة من الموظفين (البعثيين) ليقوم بتلقين العراقيين حرية العمل التليفزيوني؟

وطبقا لدون نورث، المواطن الأميركي من منطقة فيرفاكس الذي استقدم مؤخرا ليعمل مستشارا للتليفزيون العراقي، وسبق له العمل لدى قناتي «إن.بي.سي» و «إي.بي.سي» في أميركا، فإن العاملين العراقيين أجروا نقاشا حادا حول أيات الذكر الحكيم، حيث أصر بعضهم على «وجوب بث آيات من القرآن الكريم»، فيما طرح آخرون انه لا يمكن الجمع بين الدين ومصداقية البث التليفزيوني. وفيما بعد إتفق فريق العمل على سلسلة من القراءات المحدودة.

وقال المستشار الأميركي «لقد كانت تلك قرارات اتخذها جميع العراقيين. أن أقول لهم ما إذا كان بإمكانهم أن يتلون القران أم لا، هو آخر ما أريد القيام به».

حينها رضخت توتوايلر وشركاؤها للأمر. واتفقت الأطراف المعنية على بقاء الركابي بعيدا عن البث المباشر خلال الإسبوع الأول، وإن المحطة ستسعى لاستقطاب المزيد من الشخصيات، وإنه سيتم التعامل مع المجموعة الأولى من البرامج على انها تجريبية. كما تقرر السماح بتلاوة القران، كما أراد فريق العمل. وعلى انه يمكن للسيدة طالباني أن تقدم نصيحتها، لكنها لن تستعرض النصوص وأشرطة التسجيل مسبقا. ووعد سينور بأنه لن تكون هناك رقابة.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»