أكراد العراق يؤيدون حكومة مركزية في بغداد شريطة إعادة ما فقدوه جراء «التعريب» وضمانات لحفظ حقوقهم في إطار فيدرالي

TT

عند الحدود مع كردستان العراق التي تبعد 10 دقائق بالسيارة من الاطراف الغربية لأربيل، يقوم مقاتلو البيشمركة بتفتيش وثائق المسافرين والتجار الذين يدخلون إلى أراضيهم. وفي السوق المركزي البائس يهزأ باعة الفواكه والمتداولين بالعملة العراقية التي ما زال تداولها مستمرا في أماكن أخرى، فكردستان العراق لها عملتها التي طُبعت في سويسرا وقيمتها تساوي 200 ضعف الطبعة المحلية للدينار العراقي.

وبلغتهم الخاصة وإعلامهم الخاص ونظام الضرائب المفروض في منطقتهم، عاش الأكراد العراقيون لما يقرب من 12 سنة تقريبا مستقلين. لكن الآن ومع تنافس الأكراد والعرب والتركمان والآشوريين والأقليات الاثنية الأخرى على السلطة بعد سقوط نظام صدام حسين، هناك نقاش يدور حول درجة ما سيتخلى عنه الاكراد من استقلال ذاتي وصولا الى الفيدرالية.

وهناك أيضا قدر من الشكوك بين بعض المسؤولين الغربيين، الذين يقومون حاليا بدور «القابلة» لولادة حكومة مؤقتة، حول مدى التزام الأكراد بأية وحدة وطنية مستندة إلى السلطة في بغداد في الوقت الذي ظلوا لفترة طويلة يتوقون وبشكل مفتوح لتكوين دولتهم. لكن قياديي التنظيمات والحركات السياسية الموجودة في كردستان العراق يقرون بضرورة التحلي بالواقعية ويعدون بأنهم سيدعمون الحكومة المقبلة شرط ان يستعيد الأكراد الأراضي التي صادرها صدام حسين منهم في اطار سياسة «التعريب» التي اتبعها والتي أدت إلى طرد الأكراد من مدن كانوا يشكلون أكثرية فيها وقال عبد السلام برواري المحرر السياسي في صحيفة «خه بات» اليومية وأحد الأعضاء البارزين في الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يحكم النصف الغربي من كردستان العراق «نحن سنظل نحلم دائما بالحصول على دولتنا لكننا واقعيون ونعرف حدودنا أيضا». الا ان قدرا كبيرا من الاستقلال الذاتي سيشجع، بالتأكيد، الأكراد في البلدان المجاورة للتحالف مع الأكراد العراقيين وهذا ما سيسبِّب توترا في العلاقات مع حكومات تركيا وإيران وسورية ، حسبما قال الصحافي الكردي. ويرى الحزب الديمقراطي الكردستاني أن مستقبل الأكراد سيكون مضمونا أكثر عبر عراق متحد، حسبما قال برواري، طالما أنهم استمروا في تمتعهم بالحقوق التي وفرها فرض منطقة. الحظر الجوي من قبل الأميركيين وما نتج عنه من عزل فعال لكردستان عن بقية أجزاء العراق. لكن الراديكاليين من الأكراد يهددون بتخريب الحل التفاوضي، مطالبين باستقلال كامل واتحاد لاحق مع أكراد تركيا وسورية وإيران ضمن دولة «كردستان الكبرى». وقال فاروق قادر محمد رئيس حزب استقلال كردستان: «نحن ناضلنا من أجل استقلالنا لمدة 100 سنة، نحن راغبون في دولة فيدرالية في هذه المرحلة لكن مثلما هي الحال مع ألمانيا وأميركا نحن نريد مستقبلا استقلالا 100 في المائة. نحن نريد أن يكون لنا وطننا الخاص بنا». ويقول محمد إن معظم الأكراد يشاركونه طموحاته القومية لكنه يقبل بتحذيرات الولايات المتحدة من أن الاستقلال سيؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة.

وفي منطقة كردستان العراق هناك حضور عسكري أميركي ضئيل فمقاتلو البيشمركة حافظوا على الأمن فوق أراضيهم ويُنظر للقوات الأميركية هنا بأنها حليفة للأكراد وأنها ساعدت على الدفاع عن الأكراد ضد وحشية نظام صدام حسين وتعصبه. لكن بعض المراقبين يتخوفون من تبدل المزاج العام إذا حصل الأكراد على حصة صغيرة من السلطة أو تبددت الرفاهية النسبية التي يتمتعون بها حاليا في ظل نظام ضريبي تفرضه بغداد. وقال علي قادر أحد المسؤولين المحليين في الاتحاد الوطني الكردستاني «نحن سنصر على أن تنفَق كل الأموال التي تُجمع من الضرائب في كردستان هنا. نحن غير مسؤولين عن الخراب الذي وقع في مكان آخر».

ويردد الكثير من رجال البيشمركة أنهم يؤيدون فكرة الحكومة الفيدرالية في بغداد والتي تسمح لكردستان بالاحتفاظ باستقلالها الذاتي وبقاء الميليشيات. وقال سامي سرحد، 42 سنة، أحد رجال البيشمركة الذي يحرس نقطة الجمارك على الحدود الفاصلة بين الموصل وأربيل: «لقد عانينا الكثير من التضحيات والعذاب لتحقيق حريتنا ونحن لا نريد أن نفقد ذلك». ويصر سرحد على أن الأكراد يحتاجون إلى دولتهم الخاصة، لكنه يردد الخط العام الذي يؤكده الزعماء الأكراد والقائل بإمكانية قبول الأكراد بالحكومة المركزية شرط أن يكون لهم تمثيل عادل فيها مع توفر ضمانات أخرى لهم. وقال رجل آخر من البيشمركة كان قد سمّى توأمين ولِدا له «بوش» و«بلير»: «إذا تحكم الأميركيون والبريطانيون في اختيار النظام اللاحق، فذلك سيكون مقبولا. لكننا خائفون من عودة النظام القديم شيئا فشيئا حال انسحاب القوات وتركنا مرة أخرى لهيمنة العرب».

وتبدو كردستان حاليا بحقولها المزدهرة بالحبوب الناضجة وشوارعها الضاجة بالحياة على نقيض بغداد الفقيرة والمخربة بالقنابل، لكن حتى المنطقة الكردية العراقية نفسها منقسمة على نفسها حيث يحكم شطرا منها الاتحاد الوطني الكردستاني ويحكم الحزب الديمقراطي الكردستاني شطرا آخر. والانقسامات العميقة القائمة داخل السياسة الكردية تجعل تكوين جبهة مفاوضات موحدة عملا عسيرا جدا على الرغم من أن الجميع يرددون تأييدهم للحكومة المركزية وكلا الحزبين لديهم ممثلوهم وهؤلاء يقومون بكسب تأييد الوسطاء الدوليين لهم في بغداد قبل انعقاد المؤتمر الوطني الذي ستترتب عنه حكومة مؤقتة في يوليو (تموز) المقبل.

وفي سوق أربيل المركزي يردد الناس مجموعة مختلفة من الآراء فبعضهم على استعداد للتخلي عن عملتهم القوية مقابل اقتصاد أكثر ازدهارا لصالح بلد قوي. وقال التاجر دلير محمد: «من الأفضل أن تكون هناك عملة واحدة فهي ترمز إلى عراق موحّد... كردستان الآن غنية لكنها ستصبح أفضل للعمل التجاري إذا كانت هناك منطقة تبادل تجاري أوسع والجميع يستطيعون التحرك بدون قيود». أما قاسم حسن، 31 سنة، رجل الأعمال فيقول إنه يثق بالأميركيين والبريطانيين في المساعدة على تحقيق إدارة عراقية جديدة مع تمثيل عادل للإثنيات لكنه مثل بقية العراقيين يريد أن يرى انتخابات سريعة بحيث تصبح إدارة وطنهم من خلال شخص اختاره الناس بأنفسهم. وقال إسماعيل رسول أحمد: «نحن نريد حكومة واحدة للعراق، نحن لا نهتم بما يقوله زعماؤنا.. لا يهم من يكون في السلطة طالما أنه إنسان جيد قد يكون كرديا أو عربيا أو أميركيا أو بريطانيا. بل حتى لو كان إسرائيليا إذا كان يعمل لخدمتنا».

ويؤمن المسؤولون الأميركيون أنه على الرغم من الحديث الدائر حول الاستقلال فان الزعماء الأكراد على استعداد كامل للقبول بحكومة عراقية موحدة. وقال مسؤول أميركي يشارك في المفاوضات الجارية الآن: «أنا تماما مؤمن بأنهم يفهمون بأنه بغضّ النظر عن درجة الحكم الذاتي فهم قادرون على التمتع به من خلال دولة العراق. هم يعرفون بأنهم إذا حاولوا عكس ذلك فإنهم سيفقدون دعم الولايات المتحدة وهذا سيطلق مشاكل جديدة من كل الأنواع». لكن في مقهى «ميشكو» حيث يجتمع الكتّاب والمثقفون بعد الغروب، قال الروائي عزيز ملا روش: «نحن لسنا عراقيين أو أتراكاً أو سوريين نحن أكراد ونحن نريد دولة مستقلة. نحن محتلون من قبل اقوام أخرى ونريد كردستان مستقلة ومنفصلة لضمان حقوقنا».

*خدمة «لوس أنجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»