التحقيقات في حادث تفجيرات الدار البيضاء تكشف تفاصيل حول الأساليب السرية في عمل خلايا «السلفية الجهادية»

TT

قالت مصادر مطلعة في الدار البيضاء إن مواصفات الانتحاريين والعناصر المشتبه في تورطهم في تفجيرات الدار البيضاء، تشير من ناحية إلى خصائص متشابهة في تكوينهم الفكري، وأمزجتهم ومسارات حياتهم الشخصية، وانتماءاتهم الاجتماعية، بيد أن الاختلاف يظهر أحيانا فيما بينهم، ويبدو مؤثرا بشكل كبير على مواقعهم في التوجيه وقيادة المجموعات التي تنتظم في شكل خلايا وأنوية منعزلة عن بعضها، على نمط التنظيمات العنقودية التي كانت تعتمدها جماعات اليسار الراديكالي في مزارع بلدان أميركا اللاتينية.

وتفيد المؤشرات المتوفرة حتى الآن حول مجمل العناصر الذين اعتقلوا واشتبه في علاقاتهم بالحادث، أن الأماكن التي كانت مجالا لحركة هؤلاء العناصر لم تقتصر على الأحياء الفقيرة التي تحيط بكبريات المدن ويطلق عليها في المغرب اسم «أحزمة الفقر»، مثل الدار البيضاء وسلا وطنجة وفاس ومكناس والقنيطرة ومراكش، بل تتسع لتشمل قرى نائية ومدناً ثانوية وقرى في مناطق متعددة من البلاد مثل اليوسفية (جنوب المغرب) وآسفي (جنوب غرب) والخميسات (وسط) والناظور (شمال) ولاحظ خبير على صلة بالتحقيقات أن ما يجمع بين هذه المناطق المختلفة هو كونها تتحد في خاصية التهميش وعدم الاندماج الاجتماعي والاقتصادي وغياب نسق أمني وتأطير سياسي وديني.

وقالت مصادر ان هؤلاء العناصر كانوا يجدون في تلك المناطق مجالا فسيحا للحركة والتنقل سواء لتنفيذ الخطط المتفق عليها، أو لاستقطاب عناصر جديدة معهم يتم تأطيرها بتوجهات سلفية متشددة اعتمادا على عنصري كثافة التعبئة الدينية وسرعة الانتقال من التعبئة المعنوية إلى العمل والتنفيذ.

وتفيد بعض الأشرطة والوثائق والمنشورات والأدبيات التي ينهلون منها، بأنها تتضمن فتاوي بالتكفير وإهدار دم «المارقين عن الدين» وتشمل فئات واسعة من المجتمع، وفتوى يطلق عليها «الفيء» وتبيح الاستيلاء على أملاك الغير بهدف الوصول الى تحقيق «الأهداف الشرعية» وتطبيق «واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» و«تطبيق حدود القتل والرجم» و«الجهاد ضد اليهود والنصارى».

وتعتمد عناصر الجماعات «السفلية الجهادية» مع اختلاف مشاربها، على خطب توجيهية لمنظري الجماعات «الجهادية» في العالم العربي والإسلامي مثل جماعات «التكفير والهجرة» و«الجماعة الإسلامية» بمصر وتنظيم القاعدة اضافة لمراجع التيار السلفي في الخليج العربي.

وتفيد معلومات حول طريقة التأطير الأيديولوجي لجماعات السلفية الجهادية في المغرب بأنها تجاوزت منذ ظهورها في منتصف التسعينات، مراجع التيار السلفي التقليدي في المغرب (تعود نشأته إلى منتصف السبعينات)، وأصبحت تعتمد على تمثل النماذج «الجهادية» في الواقع أكثر من اعتمادها على الأنماط الفكرية والمناهج التربوية التقليدية التي تعتمدها عادة الحركات الأصولية.

وتهتم جماعات «السلفية الجهادية» المغربية بالنهج الميداني أكثر من اعتمادها على التربية والتكوين الفكري والسياسي، وهو ما يفسر الهجوم العنيف الذي شنه زعماء السلفية الجهادية والتي تعد حديثة النشأة بالمغرب، على جماعات أصولية أخرى مثل جماعة العدل والاحسان الاصولية (شبه محظورة) وحركة التوحيد والاصلاح (مرخص لها).

واضطر المحققون لاعادة قراءة رسالة كان قد أصدرها يوسف فكري «أمير» جماعة «التكفير والهجرة» منذ بضعة أشهر من سجنه في الدار البيضاء، والتي يمتدح فيها أعمال القتل التي أدين فيها ويعتبرها واجبا دينيا وهدد بمزيد منها. وكان ميلودي زكرياء متزعم جماعة «الصراط المستقيم» المحكوم عليه بسنة واحدة سجنا بتهمة جمع تبرعات مالية غير مرخص بها، قد تمكن من الإفلات من عقاب قاس بعد تبرئته من تهمة إهدار دم شاب تعرض للرجم في حي سيدي مومن بالدار البيضاء.

وتفيد معلومات بأن العناصر التي تقف وراء حادث الدار البيضاء، سواء منهم الانتحاريون أو المساهمون في تنفيذ العمليات ومخططوها، وكلهم مغاربة اجتازوا مراحل من عمليات العنف المتنوعة في أشكالها، واكتسبوا من خلالها خبرات قتالية وميدانية بيد أنها كانت تأخذ طابعا محليا صرفا ساهمت عوامل عديدة في حصرها في نطاقها المحلي وعدم الانتباه إلى أبعادها الخطيرة.

ورغم أن السلطات المغربية لديها ملف طازج يتعلق بالخلية النائمة لتنظيم القاعدة، كما ان المحققين عادوا للاستماع إلى عناصر هذه الخلية، فقد لوحظ أن المسؤولين المغاربة توخوا عدم ذكر اسم تنظيم «القاعدة» الذي عمد في الأونة الأخيرة على أسلوب تفويض محلي لتنفيذ عمليات وهجمات. ورصد المحققون في هذا الصدد خصائص مشتركة بين جماعات «السلفية الجهادية» المغربية وشبكات الارهاب الدولي، وتتمثل تلك الخصائص أولا في استخدام وسائل قوة مادية وتعبئة معنوية خاصة، وربط غير متوقع بينهما. وثانيا، اعتماد طرق تنظيم شبه عسكري. وثالثا، انغلاق المجموعات على نفسها. ورابعا، اعتماد درجة قصوى من السرية.

وفي سياق ذلك، كشف سجل قضائي يعود تاريخه الى اكثر من سنة أن التحقيقات التي أجريت مع عناصر جماعات «السلفية الجهادية» في الفترة الماضية، كانت تشير إلى «وجود عمليات أكبر وأكثر صدى» يخططون لها. لكن اعتقال عدد من العناصر النشيطة والمشرفة على تلك الجماعات ثم ادانتهم في قضاياعنف متعددة، أدى في ما يبدو إلى الاعتقاد بتقليص خطرهم، بينما كان يجري إعداد الانتحاريين من صفوف عناصر ليست لها سوابق قضائية وبعيدة عن أنظار أجهزة الأمن. بيد ان تقدم التحقيقات أظهر دور عدد من العناصر الذين كانوا في حالة فرار من أحكام قضائية صدرت ضدهم في السابق وكانوا على صلة وثيقة مع يوسف فكري وضمنهم يوسف عداد وعبد المالك بوزكارن.

وقال محام مغربي إن الأجهزة الأمنية المغربية واجهت خلال الأشهر الماضية صعوبات في تكييف العلاقة بين القادة الميدانيين لجماعات السلفية وشيوخها أو زعمائها الروحيين، المعتقلين منهم وغير المعتقلين، وهم يؤيدون العمليات التي نفذتها «القاعدة» ويعتبرون أن الحكومة المغربية مطالبة بعدم المضي في نهجها المؤيد لسياسة واشنطن القائمة على مكافحة الإرهاب. وضمنهم احمد الفزازي، وهو غير معتقل لكنه منع من إلقاء الخطب في مدينة طنجة. وكان يدرس في السابق بالمركز الاسلامي بهامبورغ في ألمانيا التي انطلقت منها خلية «القاعدة» التي نفذت تفجيرات نيويورك وواشنطن. وعبد الوهاب الرفيقي الملقب بـ«أبي حفص» وهو «شيخ» شاب ووالده ابو حذيفة من «الأفغان المغاربة».

ويعتقد محققون بوجود «مسافة فاصلة» بين «الشيوخ» الذين يتولون التوجيه العام والقادة الميدانيين لهذه الجماعات، وهو ما قاد المحققين لتعقب الخيوط المؤدية لارتباط مع تنظيمات وشبكات ارهابية عالمية. وتشير المصادر إلى عناصر كثيرة التحرك خارج المغرب مع دول الخليج العربي ومنها إلى افغانستان، وعبر قنوات الجالية المغربية في الخارج وخصوصا في بلدان أوروبا الغربية مثل بلجيكا وايطاليا واسبانيا وفرنسا والمانيا، اضافة لاستفادتهم من فرص التواصل مع الخارج عبر شبكات التهريب وخصوصا بين مدينتي سبتة ومليلية الواقعتين تحت النفوذ الاسباني.

واستنادا إلى ذات المصادر فإن عناصر «السلفية الجهادية» مروا في تكوينهم الميداني والقتالي بمراحل تدريجية، لكنهم يلاحظون أن هنالك مسافة سريعة جدا بين تلك المراحل التي كانوا يقطعونها وبين عمليات تفجيرات الدار البيضاء. وشكلت العمليات السابقة التي نفذوها خبرة ميدانية وقتالية، وضمنها أعمال قتل واعتداءات واختطافات واستيلاء على ممتلكات. وكانوا يستخدمون لتنفيذها وسائل عنف تقليدية مثل السيوف والخناجر والبنادق والقنابل والمتفجرات التقليدية الصغيرة. لكنهم كانوا يقومون بتطوير خبراتهم في تصنيعها، وضمنها تطوير بنادق الصيد عبر تزويدها بعيارات أكثر خطورة على الضحية التي تصيبها، واستخدام قنينات غاز مسيلة للدموع. كما اعتمدت المجموعة على خبرة عدد من عناصرها في الميدان العسكري وأحدهم شاب تلقى تكوينه في مدرسة تابعة للبحرية الملكية ومدرسة للطيران ويدعى محمد حسونة، اضافة لمحمد الرتيوي، شقيق عبد الرزاق الرتيوي، الذي اعتقل وتعتقد أجهزة الأمن بأنه من العناصر المدبرة للعمليات. ومحمد الرتيوي هو عسكري سابق وكان مورطا في حادث سرقة أسلحة من ثكنة عسكرية بمدينة تازة (شرق المغرب وأفادت المصادر أن عناصر «السلفية الجهادية» نهجوا منذ فترة أسلوبا خاصا في الحصول على مصادر تمويل مستبعدين القنوات المصرفية العادية على الأقل لأنها تخضع للمراقبة الصارمة، وضمن وسائلهم أسلوب الاستيلاء على خزائن ومصارف وأملاك أشخاص أثرياء اعتمادا على فتوى «الفيء»، وكان القضاء قد أدان مجموعة يوسف فكري في عمليات من هذا النوع في مدن سلا وطنجة والدار البيضاء. كما كانوا يستخدمون السيارات المسروقة ويعتمدون في اتصالاتهم على هواتف نقالة مسروقة، أو اتصالات مباشرة توخيا للسرية المطلقة.

وما تزال السلطات تلاحق عنصرا ثريا في مدينة مكناس اسمه عبد الوهاب الرباعي، وتطارده السلطات منذ أربعة أشهر للاشتباه في علاقته بعملية سرقة الأسلحة السنة الماضية من ثكنة عسكرية بمدينة تازة. ويعتقد محققون أن تمويل عملياتهم يعتمد أيضا على شبكات التهريب وهو ما يفسر حضورهم في أسواق التهريب في مناطق شمال البلاد.

وللوصول الى المواقع الحساسة التي يريدون الاستيلاء عليها أو مراقبتها للحصول على معلومات، يعتمدون على مخبرين من عناصرهم الموالين وغالبا ما يكونون حرفيين بسطاء يعملون في ميادين البناء والصباغة والحدادة وإصلاح الأقبية.