واشنطن تدرس نماذج النرويج وألاسكا وتشاد كخيارات لتطبيقها على مداخيل النفط العراقي

TT

مع رفع العقوبات الدولية أصبح العراق مهيأً للبدء بتصدير نفطه الخام قبل منتصف يونيو (حزيران) الحالي والبدء باستخدام ثروته النفطية التي تعد ثاني أكبر احتياطي في العالم لتغذية نمو مجتمع ديمقراطي معاصر، مثلما يقول صانعو القرار الأميركيون. لكن الحقيقة هي أنه في معظم البلدان الغنية بالنفط تكون واردات النفط التي تأتي بسهولة عائقا أحيانا أمام ما يتطلبه تطوير اقتصاد متنوع من جهود ضخمة ومن ظهور طبقة متوسطة لا تعتمد في عيشها على موارد النفط.

وهناك استثناءان هما النرويج وولاية ألاسكا الأميركية حيث يتم توزيع جزء مهم من واردات النفط كمنحة على السكان بشكل مباشر. لكن كلا النموذجين في توزيع الدخل ظهرا من مجتمعين كانا ديمقراطيين قبل اكتشاف النفط فيهما اضافة إلى أنهما كانا غنيين ولذلك فهما بعيدان عن حالة العراق الذي دمرته الحروب والذي يحتاج إلى مئات المليارات لإعادة إعماره. أما النموذج الثالث الذي يمكن مقارنته بوضع العراق حاليا فهو تجربة تبناها البنك الدولي في البلد الأفريقي الصغير تشاد حيث تقوم هذه المؤسسة الدولية بتمويل بناء خطوط أنابيب النفط. فبموجب الاتفاقية الموقَّعة مع البنك الدولي سيكرّس 80 في المائة من عوائد النفط التشادي على التعليم والعناية الصحية والخدمات الاجتماعية وتنمية الريف والبنية التحتية والادارة البيئية والمائية. أما بقية العوائد فتخصَّص لـ«أجيال المستقبل» حيث توظف ضمن ائتمان خاص اضافة إلى تطوير المنطقة التي ينتج النفط منها وتغطية احتياجات الحكومة الضرورية.

ومع ذلك يظل السؤال مطروحا عما اذا كان أي من هذه النماذج سيكون مناسبا للعراق. يقول مايكل روس، استاذ العلوم السياسية في جامعة «يو سي إل ايه» الذي درس هذه المسألة «نحن لا نمتلك نماذج جيدة من بلدان نامية ومنتجة للنفط عن كيفية ادارة موارد النفط. فالكثير من هذه البلدان أهدرت ثرواتها النفطية من خلال المحسوبية والفساد وغالبا ما تستخدمها لبناء الجيوش انها حقا ميدان بحثي جديد».

وفي واشنطن يدور الحديث حاليا حول «صندوق ألاسكا الدائم» الذي تم إنشاؤه في فترة السبعينات خلال فترة بناء «خط الأنابيب العابر لألاسكا» للتوثق من أن الأرباح المتأتية للولاية من شركات النفط ستصبح رأسمالا لا يُمس بل يستثمر وما ينتجه من فوائد يتم توزيعه على جميع سكان ألاسكا. ففي السنة الماضية تسلم كل رجل وامرأة وطفل صكا قيمته 1540 دولارا و76 سنتا. ونما الصندوق المالي إلى أكثر من 20 مليار دولار، وولَّد أرباحا لا تقل عن هذا الرأسمال نفسه كدخل صاف. وأبلغ كولن باول وزير الخارجية الأميركية هيئة من مجلس الشيوخ اخيرا أن المبدأ الذي استخدِم في ألاسكا موضوع دراسة حاليا لاستخدامه في العراق ، مشيرا إلى أن المسؤولين يريدون أن يتوثقوا من أن عوائد النفط «تذهب مباشرة إلى الشعب العراقي ليتمكن الناس بذلك من أن يقرروا بأنفسهم ما يريدون أن يفعلوه مع المال الذي يتسلمونه». لكن تيري لين كارل ، استاذة العلوم السياسية في جامعة ستانفورد ومؤلفة كتاب «مفارقة الثراء: ازدهار النفط ودول النفط»، ترى أن تجربة ألاسكا لا صلة لها بالوضع في العراق. وأضافت أن «ألاسكا هي ولاية من الولايات المتحدة وليست بلدا، لذلك فإن فكرة استخدام الوضع في ولاية صغيرة ذات عدد سكان صغير كنموذج للعراق هو شيء يبعث على الضحك».

ومن بين البلدان النفطية تقف النرويج كبلد وحيد تمكن حتى الآن من تجنب الفساد. وفي سنة 1990 وضع هذا البلد صندوق دولة لادارة عوائد النفط وضمان منح رواتب تقاعدية للمجتمع الذي بدأ المسنون يتزايدون فيه بانتظام. وفي كل سنة يضع المجلس التشريعي عوائد النفط الصافية في الصندوق بعد تغطية العجز القائم في الميزانية التي لا تستند إلى عوائد النفط ثم يتم استثمار كل ما يتبقى من عوائد النفط في الخارج لابقاء القرارات المالية متحررة من أية اعتبارات سياسية داخلية وللتحصن ضد أي انخفاض في الصناعات المحلية. وتتوقع الحكومة أن الصندوق المالي سيمثل أكثر من 130 إلى 150 في المائة من «الانتاج الوطني الاجمالي» خلال 20 سنة. لكن «معهد المجتمع المنفتح» الذي مقره في واشنطن حذر من أخذ نموذج النرويج البلد الغني والديمقراطي والذي يمتلك اقتصادا متنوعا، لكي يتم تطبيقه على بلدان أقل تطورا بكثير من النرويج. وقال احد خبراء المعهد إن «هناك شخصا ما يعرف كيف يدقق الحسابات ويقوم بعمليات الضبط وهناك شفافية قائمة منذ فترة طويلة وهناك ديمقراطية قبل اكتشاف النفط وخدمات اجتماعية وتحكم على أي شكل من أشكال الفساد».

أما بالنسبة للعراق فمع النقص في الغذاء والماء والأدوية والكهرباء والذي يسبب إزعاجات كبيرة لكل فرد وبشكل يومي، وفي غياب أية انتخابات ديمقراطية في الأفق فان هناك احتمالا ضئيلا لأن يصمم العراقيون نظاما لإدارة النفط بحيث يمكن إعطاء عوائد مباشرة للناس في الأمد القريب ، حسبما قال بعض الخبراء. وأشار هؤلاء إلى أن الدروس التحذيرية من العديد من بلدان العالم تبين وبشكل ثابت أن ثروة النفط كانت لعنة ومثلما قال خوان بابلو بيريز ألفونسو وزير النفط الفنزويلي الأسبق قبل ربع قرن فإن النفط هو «من فضلات الشيطان». أما الدول النفطية الغنية التي لا تحتاج إلى فرض ضرائب على شعوبها فهي من جانب آخر ليست موضوعا لمحاسبة شعوبها حسبما قال المحللون. وأضاف جيمس دوبنز مدير الأمن الدولي في شركة «راند كوربوريشن» ان «الناس ينتهي بهم المطاف لأن يكونوا معتمدين في معيشتهم ورفاهيتهم على الدولة بدلا من الاعتماد على أنفسهم». فبأخذ نيجيريا موضوعا للدراسة يتضح أن دخل الفرد في هذا البلد الذي يعَدّ أكبر مصدِّر للنفط الى الولايات المتحدة أقل مما كان عليه في سنة 1970 على الرغم من دخول مئات الملايين من الدولارات إلى نيجيريا كعوائد للنفط . كما ان هذا البلد ظل محكوما من قبل الديكتاتوريات العسكرية خلال الجزء الأكبر من هذا الوقت ، حسبما قال روس من جامعة «يو سي إل ايه». من ناحية ثانية عانى التحول إلى الديمقراطية في نيجيريا أواخر التسعينات من النزاعات المحلية في الجزء الغني بالنفط من البلاد. وقال روس إن «الحكومة لم تكن قادرة يوما على التحكم في كل واردات النفط فالجزء الأكبر منها يتم توزيعه على الفئات المتعارضة والسياسيين والبعض الآخر يذهب لتغذية الفساد وهذا يقود إلى نوع من عدم الاستقرار».

وبإمكان العراق أن يخصخص صناعته النفطية لكن ذلك قد يشعل حربا أثنية بين الشيعة والأكراد والتركمان الذين يعيشون في المناطق النفطية مثلما حدث في بلدان الاتحاد السوفياتي السابق. وقالت كارل إن «القضية الأساسية هي ليست أي نموذج يجب اتباعه بل هي الشفافية الكلية في إدارة الصناعة النفطية وفي العوائد وطرائق استخدامها». ومما يبعث على القلق هو أن الولايات المتحدة كقوة محتلة قامت وبشكل سري بمنح عقود لشركة «هاليبورتون» والشركة التابعة لها «كيلوغ براون أند روت» للعمل في العراق من دون أن تقدَّم هذه الحقوق عبر نظام تقديم المناقصات للشركات المتنافسة. وهذه العقود هي لدعم الوحدات العسكرية الاميركية ولإصلاح وتشغيل آبار النفط. وهذا قد أثار احتجاجات واسعة حتى الآن ولم يكن ذلك بسبب الأسلوب الذي اتبِع في منح هذه العقود بل لوجود أواصر قوية بين الحكومة الأميركية وشركة «هاليبورتون» التي رأسها ديك تشيني نائب الرئيس لفترة من الزمن. وقالت كارل: «إذا فكرت حول ذلك للحظة، أنت لديك شركة أميركية خاصة تدير المصدر الأساسي في بلد محتل وهذه الشركة كان رئيسها التنفيذي السابق هو نائب الرئيس الحالي للبلد الذي هو حاليا القوة المحتلة... إذا لم تكن شفافا وإذا لم يكن كل شخص منفتحاً وموضوعا للمراقبة ويتم تدقيق كل خطوة على الطريق حسابيا فإن ما حصل سيكون صيغة لمظالم كبيرة في المستقبل».

*خدمة «لوس أنجليس تايمز» و«واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»