أبرز خبراء أميركا بمكافحة الإرهاب: تنظيم «القاعدة» في مرحلة إعادة بناء.. وهو ليس في عجلة من أمره

جنكنز له معجبون من الإرهابيين أنفسهم ونصح الرهينة الريطاني السابق تيري وايت في الثمانينات بعدم العودة إلى لبنان

TT

يجلس برايان جنكنز منحنيا على حافة أريكته ذات الخطوط البنفسجية والزرقاء في غرفة المعيشة بمنزله المعلق على هضبة عالية مشرفة على المحيط الهادي. على الرف صورة تجمع بين جنكنز والممثلين بن أفليك ومات ديمون، وعلى الحائط لوحة عمرها قرن لجولز شيري بألوانها والتواءاتها العنيفة، الشبيهة باللوحات الزيتية لجنكنز نفسه. عيناه الزرقاوان تشعان وهو يتحدث عن الإرهاب، الموضوع الخطير الذي درسه لأكثر من 30 سنة. وقد ذهب إلى إيطاليا لدراسة الألوية الحمراء، وإلى بيرو لملاحقة الطريق المنير وإلى أوروبا والشرق الأوسط بحثا عن مليارات صدام حسين المنهوبة.

أما هذه الأيام فيركز جنكنز، 60 سنة، على دراسة تنظيم القاعدة والمجموعات الإسلامية الاصولية، وتقديم الاستشارة للحكومة الأميركية حول كيفية مواجهة وإحباط اساليبها في تجنيد مجموعات جديدة. ويقول بول بريمر، الذي رأس لجنة 2000 حول الإرهاب، والرجل الذي اختاره الرئيس بوش مؤخرا لإدارة الشؤون المدنية العراقية: «من اوجه عديدة يعتبر بريان أبا لدراسات مكافحة الإرهاب بالولايات المتحدة. هناك حوالي ستة أشخاص في كل العالم يرجع إليهم بصورة دائمة باعتبارهم خبراء في الإرهاب. وقد ظل برايان منذ بداية السبعينات هو الرجل الأول في مجاله بالولايات المتحدة».

والواقع أن أعمال جنكنز لها معجبون حتى وسط الإرهابيين أنفسهم. وقد كتب أحد أعضاء «الجيش السري لتحرير أرمينيا» من سجنه في كاليفورنيا، إلى نائب رئيس مركز راند، بروس هوفمان، وكان أحد معاوني جنكنز ليشكو «من أننا لم نعط اهتماما كافيا لخليته ولم ننوه بمنجزاته».

وقد أصبح هوفمان حاليا مرجعا قائما بذاته في مجال دراسات الإرهاب.

قال بول بيلار، خبير الإرهاب الذي يعمل ضابطا للأمن القومي بقسم الشرق الأدنى وجنوب آسيا بوكالة الاستخبارات الأميركية: «كنا محظوظين جدا لأن برايان كان في صفنا».

وبرزت مواهب جنكنز في الرسم بصورة مبكرة ونال بعثة لمعهد شيكاغو للفنون الجميلة. ولكن انهيار العمل التجاري لوالده الضابط السابق بالجيش، جعله يضع كل اسرته وممتلكاته على ظهر شاحنة ويتجه إلى الغرب. وقال جنكنز: «استقر بنا المقام بفينكس. ولست أدري ما إذا كنا قد توقفنا هناك لأن وقود شاحنتنا كان قد نفد!». وبعد أن أكمل جنكنز دراسته الثانوية وكان عمره 15 سنة ذهب إلى لوس أنجليس في دورة للمصارعة ووقع عقدا لملء الفراغ المالي. وبعد ست سنوات من ذلك التاريخ حصل على درجة جامعية في الفنون الجميلة وماجستير في التاريخ ومنحة من فولبرايت. واستغل المنحة الأخيرة للذهاب إلى غواتيمالا لدراسة التاريخ ومواصلة الرسم. ولكن بدلا من الانغماس في المراجع الموجودة بالمكتبة، كان جنكنز يجول بدراجته البخارية ليلتقي بالسياسيين ويوجه لهم الأسئلة. وسرعان ما صارت الدراجة البخارية مثيرة للشبهات في بلاد كانت تكثر فيها الانقلابات العسكرية. عندها ركزت سلطات الجيش الأميركي عيونها عليه، واعتقلته كثيرا. ولكنها لم تؤذه: «كان أكثر أعمالهم مدعاة للخوف تركي وحدي في غرفة مغلقة لعدة ساعات».

ومثله مثل كثيرين من الشباب في منتصف الستينات أبرم صفقة مع الجيش. فقد قبل أن يكون جنديا أثناء الصيف وأن يتقاضى أجرا ما. ومقابل ذلك وافقت الحكومة على دفع نفقات دراسته العليا الجامعية. وقال: «طلب مني الالتحاق بالقوات الخاصة لخلفيتي اللاتينية الجنوبية». وقد قضى ثلاث سنوات ونصف السنة مع ذوي القبعات الخضراء بفيتنام ولاوس وكمبوديا وهو يعمل مع مجموعة متخصصة في التخطيط مكونة من الضباط والمدنيين. وفي عام 1972 ترك الجيش والتحق بمؤسسة راند بسانتا مونيكا، وهي أكبر معهد أبحاث واستشارات عسكرية في البلاد، وكانت أكثر المؤسسات ارتباطا بالابحاث العسكرية أثناء حرب فيتنام. وهو يقول في ذلك: «وهكذا سارت الأمور وأوضحت الأيام أن أدائي العسكري كان أجود من أدائي في مجال الرسم».

يقول جنكنز ان دراسة الإرهاب تشبه مشاهدة لوحة تنقيطية: «ابتعد قليلا عن اللوحة تبرز لك الأشكال، وتبرز أمامك كل التوجهات والتقاطعات».

بدأ جنكنز دراسته للإرهاب عام 1972 بتفكيك كل عملية إرهابية عالمية إلى تفاصيل أساسية مسجلة على كروت بحثية بحجم 5X3 بوصات. وكان يعمل وحده فى البداية ثم انضم إليه مساعدون. وقد اختفت حاليا الصناديق الخشبية الطويلة التي كان جنكنز يستخدمها. وصارت المعلومات المكونة حاليا من 15 ألف مادة مسجلة تحفظ بقاعدة معلومات كومبيوترية.

في السبعينات نظر جنكنز إلى معلوماته المدونة فلمح اتجاها محددا. قال:

«الإرهاب يريد أكبر عدد من المتفرجين وليس أكبر عدد من القتلى». وقال في ورقة شهيرة: «الإرهاب مسرح. وكثير من الهجمات تخطط بحيث تجتذب أكبر اهتمام ممكن من وسائل الإعلام الالكترونية والصحافة العالمية».

ولكن هذا الطابع بدأ يتغير بصورة مرعبة في الثمانينات. لم يعد قتل مجموعة صغيرة يثير الاهتمام. وتوصل الإرهابيون الى أن أعمالهم يجب أن تكون أكثر دموية، وأن ترتكب بصورة أكثر وحشية، حتى تجيء في مقدمة نشرات المساء.

ثم تحول الإرهاب في التسعينات تحولا شريرا جديدا. كان هوفمان يدرس المعلومات عندما رأى وجها جديدا يطل من بين السطور. وقد توصل مع خبراء آخرين إلى أن عدد الإرهابيين ذوي الأهداف الدينية أخذ يتزايد بصورة كبيرة ومزعجة، لأن هذا النوع من الإرهاب يفضل ضخامة عدد الضحايا. كانت تلك المعلومات مقدمات سيئة لهجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001. يقول بريمر الذي كان وقتها رئيسا للجنة القومية لمكافحة الإرهاب: «من بين جميع الناس في الولايات المتحدة كنا نحن الأقل دهشة لهجمات 11 سبتمبر، لأننا تنبأنا بها في تقريرنا للرئيس كلينتون. ولا يرجع الأمر إلى ذكائنا الخارق أو معلوماتنا السرية. ولكننا كنا ننظر إلى توجهات إرهابية كانت واضحة لكل من يرى».

لماذا فشلت أميركا إذن في رؤية 11 سبتمبر قبل حدوثها؟

أحد الاسباب أن أهتمام الحكومة بالإرهاب كان قد وصل مسبقا إلى قمته. فعدد الهجمات الإرهابية كان في تناقص، رغم زيادة عدد القتلى في الأحداث التي وقعت. وكان التمويل الذي تحصل عليه أبحاث جنكنز قد نضب. وغادر جنكنز مؤسسة راند ليعمل في شركة أمنية خاصة، حيث عمل لمدة تسع سنوات. ثم عاد إلى راند عام 1998، مقسما وقت عمله بين الشركة الأمنية الخاصة وبين المؤسسة. قال جنكنز: «في التسعينات كان الناس أكثر اطمئنانا للوضع العالمي. كانت الحرب الباردة قد انتهت، وكان الإرهاب يبدو شيئا بعيدا إذا استثنينا حوادث متفرقة مثل التفجير الأول لمبنى مركز التجارة الدولي وتفجيرات اوكلاهوما وبعض الحوادث البعيدة في افريقيا.

إنقاذ تيري ويت: يقول جنكنز: «عندما يكون الوقت هو منتصف الليل في اسطنبول فإن كل شيء يكون ممكنا».

ولكن يبدو أن ذلك لن يكون صحيحا هذه المرة. كان ذلك عام 1988، وقد نزل جنكنز بفندق كئيب في اسطنبول ليلتقي هناك برجلين غامضين يزعمان أن لديهما معلومات يريدان بيعها. عن تيري ويت، مبعوث الكنيسة الإنجليزية الشهير الذي اختطفته العام السابق جماعة إسلامية أصولية. وقد أنصت إليهما مليا وسألهما بعض الأسئلة ولكنه قرر مغادرة الفندق دون الوصول إلى صفقة. وقال جنكنز: «كانت لديهما علاقات دون شك ببعض الأشخاص الأشرار. وقد رأيت الأموال تدفع ورأيت الاسلحة تستخدم. ورأيت ألف مغامرة، ولكنني لم أر رهينة يطلق سراحها».

كان ذلك خيطا آخر يحمل بعض الأمل. ولكنه تحول إلى طريق مغلق يجلب الإحباط، وليلة طويلة أخرى باسطنبول.

ظل جنكنز لثلاث سنوات يوزع وقته بين راند والكنيسة الإنجليزية. «وكانت تلك واحدة من عشرات المؤسسات والحكومات التي لديها حبال ممدودة تحت الماء، تنتظر نقرة الصنارة، لإنقاذ وايت وأكثر من عشر رهائن معه كان يحتجزهم حزب الله. وقال في ذلك: «كان الجميع على صلة بالجميع، ولكن لم تكن هناك جهة واحدة تملك المعلومات كلها».

كان جنكنز قد نصح وايت بعدم العودة إلى لبنان في يناير (كانون الثاني) 1987، أي قبل شهور فقط من كشف فضيحة إيران غيت في واشنطن. وكان جنكنز واثقا من أن حزب الله يتعامل مع ويت باعتباره عميلا للغرب، وأن زيارته المحاطة بكثير من الضجيج الإعلامي نيابة عن الكنيسة الإنجليزية ولإنقاذ بعض الرهائن، لم تكن سوى غطاء لعملية تشرف عليها وكالة المخابرات المركزية. وقد قال لي: «هناك أشياء لا تعرفها».

وبعد أشهر قليلة من اختفاء وايت، وجه أسقف كانتربري، روبرت رانسي، دعوة إلى جنكنز لينضم الى الفريق الذي يتفاوض من أجل إطلاق سراح وايت. وقد نشأت علاقة حميمة بينه وبين جون ليتل، أحد كبار مساعدي الأسقف. وقال ليتل للفريق ان لديه خيط هام تحصل عليه عن طريق رجلي أعمال بريطانيين، لهما ارتباطات تجارية بلبنان. وكانت مخاوف جنكنز تتصاعد كلما أوغل ليتل في الكلام. وتساءل جنكنز في النهاية: «هل يمكن أن تكون اسماء هؤلاء هي....؟». وقد أجاب ليتل بالإيجاب والدهشة تعقد لسانه. وقال جنكنز: «نحتاج أن نتحدث على انفراد. هذان الرجلان محتالان. وهما محتالان من النوع البارع جدا».

وقد كان رد فعل ليتل هو الإعجاب الشديد بجنكنز، ولذلك نظم له اجتماعا مع الأسقف في لندن بعد أسابيع قليلة من ذلك اللقاء. توطدت عرى الصداقة بين جنكنز وليتل وصارا يجوبان كل أنحاء أوروبا والشرق الأوسط، يتابعان الخيوط ويقابلان المصادر المحتملة ويصدران الأحكام حول الصالح منها والطالح والحقيقي والمزور. يقول جنكنز: «يمكن بسهولة أن تكون فريسة للأوهام. وعليك أن تحذر كثيرا من ذلك. فأنت تدخل عالما لا تنطبق عليه المقاييس العادية. وهو على درجة من الغرابة بحيث يستعصي عليك في بعض الأحيان أن تلاحظ ذلك».

وأخيرا أطلق سراح وايت والرهائن الآخرين. ولم يحدث ذلك نتيجة لجهود الدبلوماسيين اساسا بل كان نتيجة حرب الخليج. قال جنكنز: «نحن لم نطلق سراحه، ولكن العراق غزا الكويت فأرسلنا جيشا ضخما إلى الخليج وفي ربيع 1991 أطلق سراح وايت فجأة».

ما زال جنكنز يحمل في محفظته ورقة صغيرة كتبت عليها الشفرات التي كان يتفاهم بها مع ليتل. وكان يسمي آية الله الخميني «كنغ بين» و«وايت هاردي» كما كان الرهائن يسمون «الزبائن». ويضيف جنكنز أن جون ليتل لم ير الرهائن عند إطلاقهم. فقد توفي بنوبة قلبية داهمته في أحد شوارع لندن قبل ايام فقط من اطلاق الرهائن.

* «القاعدة»

* أواخر أكتوبر (تشرين الأول) 2001، عندما كانت الولايات المتحدة تدمر طالبان، وتطارد أسامة بن لادن في جبال أفغانستان، مرر ابراهيم ميلدين، أحد قادة الجماعة الإسلامية استطلاعا أنيقا لآراء أتباعه في أحد مساجد سنغافورة. وجاء في القسم ما يلي: إنني أتفهم مسؤولياتي ومقدراتي، وأنا على استعداد لعمل الآتي: أن أدعو الله لنصرة طالبان والمجاهدين.

أن أتبرع بالمال لحركة طالبان.

أن اقوم بأعمال التخريب خارج سنغافورة وضد المصالح الأميركية.

أن أدعم كل نشاط ضد مصالح الولايات المتحدة.

أن اتطوع لأكون مهاجما انتحاريا ضد المصالح الأميركية.

قال جنكنز: «يتم هذا على مسمع ومرأى من الآخرين. ولذلك ينطوي على مظهر مسرحي».

وقال إن أعضاء الجماعة الإسلامية يقفون وراء المصلين ليحثوهم على التعهد بارتكاب مزيد من الأعمال الجهادية. ويقولون لهم «حتى النساء تعهدن بأكثر من ذلك».

ويقول ان هذه فترة مليئة بالاضطرابات بالنسبة للحركات الإرهابية الإسلامية. ومع أن شراسة الحربين ضد افغاستان والعراق يمكن أن تكون قد أخافت الدول الداعمة للإرهاب، «إلا أنها كانت فرصة لابن لادن واشباهه لتجنيد المزيد من العناصر. إنهم يجندون دون انقطاع. وقد استفادوا من حربنا ضد العراق، ومن وجودنا ببغداد، حتى ولو دلت بعض المظاهر على أننا استقبلنا بترحاب وفرح». أما بالنسبة للقاعدة نفسها، فيقول جنكنز: «أنا واثق أنهم يمرون حاليا بفترة إعادة بناء، مثلهم مثل أية شركة عانت بعض الخسائر. ولن يكونوا في عجلة من أمرهم وهم يفعلون ذلك. وهذا بالنسبة لهم رسالة حياة، ولا يقيسونها بالاعتبارات الزمانية الضيقة التي نقيسها بها».

حماية الجبهة الداخلية: على مستوى الجبهة الداخلية يشعر جنكنز بقلق شديد لمنهج أميركا المتذبذب تجاه الإرهاب.

وقال إننا إذا سمحنا بسريان حالة الهلع الحالية دون مقاومة «فإننا ننجز أعمال الإرهابيين بالنيابة عنهم. في مكافحتنا للإرهاب يجب ألا نخلق جو الإرهاب دون أن يفعل الإرهابيون شيئا».

ويبدو أن النهاية المنتصرة لحرب العراق جعلت الناس يشعرون ببعض الاطمئنان، ولكن جنكنز يحاول أن يرفع علامات الخطر التي أثارت مخاوفه من قبل. «أمر جيد أن يشعر الناس بالاطمئنان. ولكن يمكن بسهولة أن ننزلق إلى حالة من الرضى عن النفس. هناك خطر كبير، وذلك الخطر الكبير لا يتأثر بكيفية شعور الناس نحوه».

وقال جنكنز ان تحذيره من المبالغة في الانفعال ومن المبالغة في الطمأنينة ربما يبدو لبعض الناس نوعا من العصاب. ولكن هذين القطبين يمثلان انتقال الأميركيين من حالة الاطمئنان القصوى التي كانوا عليها على مدى سنوات، وحالة الغضب الشديد بعد حدوث الهجمات الإرهابية في بلادهم.

فماذا يريد جنكنز من الاميركيين أن يفعلوا؟

إن رسالته الاساسية هى التالية: كونوا واقعيين، وأكثر من ذلك كونوا شجعانا.

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»