أحياء «فاس» المغربية الهامشية مرتع جماعات متشددة لها نظم أمنية ليلية وتتقاسم النفوذ مع اللصوص والمنحرفين

TT

تعود مسألة نمو ظاهرة الجماعات المتشددة في أوساط الأحياء الفقيرة المحيطة بمدينة فاس المغربية الى عقد من الزمن تقريبا، حيث اقامت هذه الجماعات نظاما خاصا بها داخل تلك الأحياء واضعة بذلك حدا لسطوة العصابات والمنحرفين الذين كانوا يثيرون الرعب فيها في ظل غياب الأمن وسيطرة الشرطة.

بينما تكاثرت المساجد العشوائية التي لا تراقبها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وشكلت تلك الجماعات في مرحلة لاحقة جمعيات خاصة بتلك الأحياء حصل عدد منها على ترخيص قانوني، وأصبحت تلك الجماعات تتوفر على مقومات نظم أمن محلية داخل تلك الأحياء تبدو مظاهرها على الخصوص في الليل.

وخلال حملتها على الجماعات المتشددة اتخذت السلطات المغربية في الأشهر القليلة الماضية، تدابير صارمة ضد النشاط في المساجد غير المرخص لها من قبل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وتم إغلاق عشرات المباني التي كانت تستعمل للصلاة وعقد اجتماعات العناصر المتشددة.

وفي سياق ذلك، اتخذت السطات المحلية في فاس قرارات تقضي بتجميد عشرات الجمعيات التي كان ينشط من خلالها عناصر ينتمون للجماعات المتشددة.

ويطلق على الأحياء التي تهيمن عليها عناصر «السلفية الجهادية» أسماء معبرة مثل «حي صدام» وحي «الشيشان»، بينما حافظت أحياء أخرى على تسمياتها التي تنسب إلى القبائل التي يتحدر منها السكان الأوائل، وجلهم نازحون من مناطق جبال الريف ( شمال البلاد) والمناطق الزراعية التي تحيط بفاس بعد أن هجروا مزارعهم التي ضربها الجفاف.

ويعيش سكان أحياء «الجنانات» و«عوينة الحجاج» و«المسيرة» و«بن سليمان» و«دوار الطاهريين« و«دوار الريافة»، حياة تفتقد الى شروط الأمن والاندماج الاقتصادي، ويعاني شبابها بطالة شديدة، اضافة الى كونهم لا يرتبطون بعلاقات تأطير سياسي مع الأحزاب أو هيئات المجتمع المدني.

ويقول سكان الأحياء ان سطوة «الجماعات السلفية» بدأت بمهاجمة عناصر شبكات الانحراف واللصوص، وكانت تدور بينهم معارك طاحنة تستخدم فيها أسلحة بيضاء، وفي مرحلة لاحقة لجأ الطرفان للهدنة وتقاسما النفوذ في الأحياء.

ولتدعيم سلطتهم في الأحياء توخت عناصر «الجماعات السلفية» أسلوب جمع الأتاوات من السكان مقابل الأمن الذي يوفرونه لهم، ويبلغ معدلها 20 درهما عن البيت الواحد.

بيد ان هذه العناصر فرضت مزيدا من سلطتها التي طالت شبانا وشابات الأحياء الذين بدأوا يواجهون عقوبات واعتداءات بالضرب والرجم كلما رأت تلك العناصر في سلوكهم خروجا عن «الأخلاق والدين»، ووصلت بعض العقوبات الى حد قطع اعضاء من الجسم مثلما حصل لأحد سكان حي بلخياط الذي بترت يده لاتهامه ببيع الخمر.

وكان حي بلخياط قد شهد منذ اسبوعين اعتقال عبد الحق بنتاصر، العضو القيادي في جماعة «السلفية الجهادية»، الذي يعد أحد العناصر الرئيسية الضالعة في تنسيق عمليات تفجيرات الدار البيضاء. وما تزال السلطات تقوم بعمليات تمشيط واسعة في أحياء أخرى بحثا عن عناصر أخرى لاذت بالفرار منذ كشف خيوط العناصر المدبرة لحادث التفجيرات، وظهر أن مدينة فاس كانت مركزا مهما للإعداد لها.

وشهدت مدينة فاس في السنوات الأخيرة بروز شيوخ للجماعات السلفية المتشددة، من أبرزهم عبد الوهاب الرفيقي الملقب بـ«أبي حفص»، الذي اعتقل منذ ثلاثة أشهر، ووجهت له اتهامات بالتحريض على العنف وتكوين «عصابة اجرامية».

وكان «ابو حفص» كثير التنقل بين مساجد الأحياء الفقيرة لإلقاء الدروس والخطب وكان من أبرز روادها عناصر «السلفية الجهادية».

ويروي سكان «دوار جنان الأبيض» الفقير، انه كان خلال الفترة السابقة خاضعا لمراقبة عناصر متشددة، بيد ان هذه العناصر اختفت فجأة عندما شددت السلطات حملتها عليهم. وحي «دوار جنان الأبيض» كان عبارة عن بستان قبل أن يبيعه مالكه في منتصف السبعينات في شكل قطع أرض لسكانه الحاليين. وتسكن في الحي زهاء 200 أسرة داخل اكواخ جدرانها من الطوب وسقوفها من الأخشاب والقصدير (الزنك).

وتقول السعدية، ان أسرتها مثل غالبية سكان الحي استقرت في هذا الحي منذ ربع قرن، بعد ان ضاقت بهم جدران المدينة القديمة ولم تعد لديهم القدرة على مسايرة إيقاع الحياة بها وتغطية تكاليف عيش الأسرة المتألفة من 10 أبناء، ويعمل زوجها محمد، حمالا (شيالا) في أرصفة المدينة القديمة، ولا يتجاوز دخله اليومي غير المنتظم 30 درهما (3 دولارات).

وقالت السعدية ان مسؤولين من السلطات المحلية والبلدية جاؤوا الى الحي قبل 15 عاما لتسجيل السكان المستقرين في الحي بهدف تغيير أحوالهم وبناء مساكن لائقة لهم، لكن شيئا لم يحدث في الواقع.

وزار مرشحون للانتخابات البلدية في فترات لاحقة سكان الحي لاستمزاج رأيهم وقدموا لهم وعودا ببناء شقق ودور جميلة في نفس المكان، وظل سكان الحي ينتظرون الوعود.

ويقول النائب حسن الشهبي النائب البرلماني (حزب التقدم والإشتراكية) ممثل دائرة مدينة فاس القديمة والأحياء المحيطة بها في مجلس النواب إن ما زاد معاناة السكان في «جنان الأبيض» وسلسلة من الأحياء المشابهة له هو أن المواطنين لم تقع مصارحتهم بالمشكلة القائمة وبالتالي لم تأخذ طريقها الى الحل.

ويضيف أن مشكلة الأحياء العشوائية أعوص من مشكلة دور الصفيح والأكواخ، لأن الإدارة يمكنها اتخاذ قرار جريء بتغيير أحوال سكان هذه الأخيرة وتعويضهم بمساكن لائقة، أما في حالة الأحياء العشوائية فإن وجودها بأعداد سكانها الكبير وغياب أدنى ظروف الحياة الكريمة بها، يجعلها «قنبلة موقوتة»، فهي مبان مهددة بالانهيارات كلما كانت هناك سيول، أما اذا حدث زلزال لا قدر الله، فإنه لا أحد يستطيع تقديرهول الكارثة على السكان.

ويرى الشهبي أنه بقدر التهميش الذي تعرضت له مدينة فاس في السنوات الماضية وتراجع مكانتها على المستوى الوطني في ميدان الاستثمار والسياحة وارتفاع معدلات البطالة بها وتراجع دور الأحزاب في تأطير الشباب، فإن أهميتها ازدادت في منظور الجماعات المتشددة وأصبحت تتخذ منها مركزا لتوجيه خلاياها في أنحاء مختلفة من البلاد مستفيدة من الموقع الاستراتيجي للمدينة ومكانتها التاريخية والدينية.

واوضح الشهبي ان مدينة فاس تعرضت في العقدين الأخيرين لنزوح من البوادي والقرى المحيطة بها، وأدى ذلك إلى تغيير جوهري في بنية ساكنتها وأوضاعهم التي تفاقمت وارتفعت في أوساطهم معدلات البطالة لتزيد عن 30%.

واصبحت المدينة تفتقد شيئا فشيئا ملامحها العريقة وجماليتها أمام اكتساح المباني العشوائية وانتشار مظاهر الفقر والتهميش، وتضاعف عدد سكانها خلال عقدين ثلاث مرات ليناهز حاليا مليوني شخص. واضاف ان مظاهر الاكتظاظ تكمن في المدينة القديمة التي يسكنها حاليا حوالي ربع مليون شخصا أي ثلاث مرات أكثر من طاقتها الاستيعابية. كما تثار تساؤلات في أوساط سكان المدينة حول طريقة تسيير مشاريع إنقاذها التي خصصت لها مؤسسات دولية حوالي 17 مليون دولار. ونفس التساؤلات، يقول الشهبي، تثار حول طريقة تسيير مشروع بناء حي صناعي في عين النقبي لإنقاذ السكان من التلوث، ومشروع تشييد مركب جديد لصناعات الخزف بحي بن جليق واخراجها من المدينة، وهما مشروعان أنفقت عليه مؤسسة «صندوق الحسن الثاني للتنمية» منذ خمس سنوات زهاء 5.2 مليون دولار، لكن المشروعين لم ينجزا حتى الآن.

وبخصوص البدائل المطروحة لحل هذه المشاكل، قال الشهبي إن المطلوب تسهيل الإجراءات أمام المستثمرين واحداث مراقبة دائمة ومحاربة مظاهر الفساد وتغليب المصلحة العامة، والاهتمام بالتأطير السياسي والثقافي للشباب. مشيرا الى ان هناك غيابا مطلقا للأحزاب وهيئات المجتمع المدني في الأحياء الفقيرة، كما ان أدوار النخب الحزبية والمحلية والأعيان تقتصر على نسق من الحياة بعيد عن انشغالات الفقراء والمحرومين، الذين «احتضنهم» التطرف.