كولومبيا تسلم أميركا لبنانيا متهما بالمشاركة في عملية كبرى دولية لتهريب المخدرات والسجائر

معارف غسان الفقيه يؤكدون أنه كان فقيرا ويتساءلون أين ذهبت ملياراته؟

TT

عالم غسيل المال وتهريب المخدرات والسجائر والكحول لا يعرف بالتأكيد رجلا أفقر من غسان عمر الفقيه، المهاجر اللبناني منذ 21 سنة في مدينة «مايكاو» المطلة في الشمال الشرقي لكولومبيا على خليج «ماراكايبو» المحاذي للحدود مع فنزويلا بأميركا الجنوبية.

إنه «ملياردير مديونير» تماما، لأنه كان بائسا حين كان حرا وطليقا، الا أنهم يحاسبونه الآن كصاحب مليارات وراء القضبان الأميركية. لذلك فهو مثير للفضول والتساؤلات وقصته كأفلام هوليوود، فبسببه مثلا خسر ملياردير كبير وعضو في الكونغرس الكولومبي منصبه قبل شهرين تمهيدا لتسليمه الى الولايات المتحدة بعد أسبوع، وبسببه خسر جنرال كبير بالجيش وقائد منطقة عسكرية في كولومبيا منصبه قبل أسبوعين أيضا، وقد يطالب الأميركيون الكولومبيين بتسليمه اليهم كسواه. لكن كولومبيا لا تتحدث عن غسان منذ تسليمه الى الولايات المتحدة قبل يومين، الا كمشارك في أكبر عمليات التهريب الدولية المتنوعة، في حين أنه لم يكن يملك الا ما كان يكفيه للقمة العيش ويسدد الحاجات الضرورية لثلاثة أبناء من قريبته وزوجته، سامية الفقيه، العائدة من «مايكاو» معهم نهائيا اليوم الى بيروت.

ويتحدث القضاء الكولومبي عن غسان، المهاجر وهو بعمر 17 سنة مع أبويه من قرية بعلول في منطقة البقاع الغربي، بالشرق اللبناني، كمتورط بما لا يمكن تصديقه، وكله مدون في سجلات قضائية كولومبية وأميركية فعلا، وهو مشاركته طوال سنوات بتهريب ما معدله مليونا علبة «مارلبورو» وحوالي 400 ألف صندوق «سكوتش ويسكي» يوميا الى كولومبيا، ومنها أيضا عبر «مايكاو» الصغيرة الى جارتها فنزويلا.

ويصفون مايكاو بصغيرة، لأن سكانها بالكاد 170 ألف نسمة، مع أنها واعدة وغنية بحقول الغاز الطبيعي وأفخم أنواع الفحم الحجري في العالم، ومجاورة لأسواق فنزويلا الضخمة، بحيث أصبحت لأرياف البلدين معبرا للبضائع مهما. لكنها لم تجذب سوى قلة من الحالمين بالربح السريع، ومنهم 5 آلاف لبناني، معظمهم جاءها على فترات في العقدين الماضيين من حيث كان مهاجرا في كولومبيا نفسها، أو بنما والمكسيك والاكوادور، وكلهم من جنوب لبنان ومنطقة البقاع الغربي، المغادرين للبلاد زمن الحرب الأهلية بالذات.

وتسأل بالهاتف من يقيم من اللبنانيين هناك عن السبب في قلة الاقبال على «مايكاو» الواعدة بالخيرات، فيشرح لك تاجر الثياب الجاهزة، زين ساطي، أنها ما زالت تعيش مناخات الغرب الأميركي قبل قرنين، حيث انتعش رعاة البقر وقطاع الطرق والمتكاتفون على الشر في ظل فلتان أمنى كبير، يشبه الى حد ما الواقع الذي تعيشه مايكاو، حيث أصحاب المحلات التجارية في 4 شوارع رئيسية بوسط المدينة، ومعظمهم من اللبنانيين، لا يجرأون على استقبال الزبائن الا قبل الرابعة بعد الظهر، ومن بعدها يقفلونها خوفا من المفاجآت الدموية وأعمال السطو المسلح والسرقات، ويعودون الى منازلهم، أو يمضي بعضهم الى جمعية لهم يجتمعون فيها ويتسامرون، حتى يحين ميقات الصلاة، فيتوجه 70 منهم على الأكثر كل مساء الى مسجد جمعوا مليون دولار قبل 9 سنوات لبنائه، هو «مسجد عمر بن الخطاب» الوحيد للمسلمين منهم هناك، فيؤدون الصلاة، ثم يعودون للسمر طوال الليل في مدينة استوائية المناخ وشبه معزولة عن العالم، لأن خدماتها الهاتفية لا يحسدها عليها، ولو طرزان الأدغال، فهي من الأسوأ في العالم.

في تلك المدينة عاش الفقيه، الذي يقولون إنه كان يشحن الكوكايين، البالغ سعر الكيلو منه بنيويورك 60 ألف دولار، على متون مراكب تبحر بالسر الى الولايات المتحدة، الى درجة أنه قام في إحدى المرات بتهريب طنين من «النفط الأبيض» الكولومبي دفعة واحدة الى الساحل الشرقي الأميركي، ومنه أغرق المدن الأميركية بالمخدر الشهير، في صفقة كانت قيمتها قبل عامين أكثر من 120 مليون دولار. الا أن كل ذلك مبالغات واتهامات، ففي شهادته للمحققين الكولومبيين يوم اعتقاله في 8 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، نفى الفقيه أي علاقة له بالجنرال الذي خسر منصبه، وقال إن صداقته له لم تكن سوى اجتماعية. وذكر أنه لا يعرف شيئا اسمه تهريب.

لكنهم يروون أيضا أنه كان يقوم من مكتب يملكه في «مايكاو» بغسل الملايين من الدولارات المشبوهة وتبييضها، بحيث يجعلها ترتدي حلة الشرعية فيتهرب أصحابها من الملاحقات القضائية، ويربح هو من ذلك الملايين، لذلك كان «إل توركو» كما يلقبونه ويلقبون أي لبناني مهاجر بكولومبيا «من أغنى الأغنياء» وفق ما يشيعون. ولهذا السبب سعت «الشرق الأوسط» وراء المعلومات عن غسان، لعل وعسى كانت ستقدمه الى قرائها كأغنى لبناني في العالم، فاكتشفت ما يفاجأ حقيقة: عالم المخدرات والتهريب لا يعرف بائسا سواه، ولا بريئا مثله من غسيل وتبييض المال أيضا، لكنه سقط ككبش فداء مع سيناريو هوليوودي تماما، فحين تم تسليمه يوم اول من أمس الى الأميركيين، نقلوه بهليكوبتر من زنزانة كان فيها وحيدا بسجن حماية خاصة الى قاعدة للشرطة خارج بوغوتا، عاصمة كولومبيا، حيث حطت فيها طائرة تابعة للمخابرات الأميركية (سي.آي.إيه) ونقلته مع 12 مهربا آخر لتصل بعد 6 ساعات الى قاعدة عسكرية أميركية، وزعوهم منها على سجون حماية قصوى في أماكن عدة بالولايات المتحدة، في تبادل اعتبر أكبر عملية تسليم مرة واحدة لمهربي مخدرات منذ اعادة العمل قبل 7 سنوات باتفاقية قضائية لتبادل المطلوبين بين البلدين، وجعلت الذين تسلمهم الأميركيون من كولومبيا في عهد رئيسها منذ 10 أشهر، آلفارو أوروبي، يصل الى 80 مهربا حتى الآن.

بتسليمه انتهى معه الوكيل الوحيد لشركة «فيليب موريس» منتجة سجاير «مارلبورو» الأميركية بكولومبيا، وهو عضو الكونغرس الكولومبي، سانتاندير لوبيسييرا، المعروف بلقب «رجل المارلبورو» بكولومبيا، فقد خسر منصبا بمجلس الشيوخ شغله مرات ومرات، وينتظر دوره لتسليمه الى الأميركيين الأسبوع المقبل، وكله بسبب علاقته بالفقيه. كما انتهى بعملية التسليم صديق للفقيه مقرّب، وهو الجنرال غبريال دياس، قائد الفرقة الثانية في الجيش الكولومبي وقائد منطقة «باراكينيا» العسكرية قرب مايكاو.

وكان الجنرال دياس قد اعترف بانخراطه في عمليات تهريب للمخدرات وبعلاقته بالفقيه بعد تسليم وزير الدفاع الأميركي، دونالد رامسفيلد، لنظيرته الكولومبية مارتا لوسيا راميريز، شريطا سجلته المخابرات الأميركية (سي.آي.إيه) لصوت الجنرال يحدث الفقيه عن عمليات تهريب مشتركة. ومما ذكره الجنرال أنه كان قد تعرف الى الفقيه بوساطة القنصل الفخري للبنان في المدينة، علي يزده، الذي قدمه اليه كمتعاون مع الشرطة في المدينة، لذلك اتصلت «الشرق الأوسط» بيزده في مايكاو، وعرفت من صديق له هناك أنه قد غادر الى لبنان، فحصلت منه على رقم هاتفه الجوال. من منطقة سد القرعون بالبقاع الغربي، حيث يقضي بعض الصيف الآن، ذكر يزده انه لم يقم بتعريف الجنرال الى الفقيه «بل تعرف الواحد منهما الى الآخر خلال اجتماع عقدناه قبل 14 شهرا مع قيّمين على الشرطة وقوات الجيش بالمدينة بعد خطف رجال من العصابات 8 مهاجرين لبنانيين، ومطالباتهم بفدية.. يومها قررنا أن نساند الشرطة والجيش بأنفسنا، فتبرعنا لرجال الأمن واشترينا لهم سيارات للدوريات والملاحقات لحفظ الأمن هناك، ويبدو أنه تعرف الى الفقيه في الاجتماع وأصبحا صديقين» كما قال.

وذكر يزده بأنه غادر مايكاو، التي أقام فيها مع زوجته وأولاده طوال 23 سنة «نهائيا الى لبنان منذ 20 يوما فقط، والسبب أنني بدأت أتلقى تهديدات هناك من مجهولين، وبعضهم هدد بخطف أحد أولادي، فقررت المغادرة، والآن لست قنصلا فخريا، ولم تعد لي أي علاقة بالمهجر الكولومبي» وفق تعبيره.

وقال يزده إن الفقيه كان متواضعا جدا من الناحية المادية «فقد كان يعيش حياة أقل من طبيعية وبائسة في مايكاو، وأنا أستغرب كل ما يقولونه عنه وعن تهريباته الخيالية ويبالغون، فأين تلك المليارات». وروى ما رواه لـ «الشرق الأوسط» صديقه في مايكاو، زين ساطي، من أن غسان كان بسيطا، وعن جهل عمل في بعض المرات لصالح «رجل المارلبورو» الذي أكد يزده بأنه المهرّب الأكبر للملايين من علب السجاير وصناديق الويسكي، في حين أن الجنرال دياس هو وحده المهرب الكبير للمخدرات «أما الفقيه فلا أعرف سوى أنه كان شريكا مع شقيقيه، قاسم وبشير، في ملكية محلين باسم «سانيو سنتر» للثريات والأجهزة الالكترونية بمنطقة قريبة من مايكاو، التي لا أعرف اذا أسس فيها مكتبا للصرافة كما يشيعون» بحسب افاداته.

وسألت «الشرق الأوسط» عن قاسم وبشير في مايكاو، فأفاد لبنانيون بأنهما استبدلا هاتفيهما منذ أيام، ولم يعد أحد يعرف أين حطت بهما الرحال. كذلك لا أحد يعرف رقم الهاتف المنزلي أو في العمل لشقيق آخر لغسان، واسمه أحمد، المالك لمطعم لبناني في العاصمة بوغوتا، ولا حتى لشقيق له يقيم الآن في جمهورية بنما المجاورة، اسمه محمد وهو القنصل الفخري لسورية ويملك شركة للاستيراد والتصدير، أو حتى والده المقيم في لبنان. أما زوجته، سامية الفقيه، فلا يعلمون عنها وعن أولادها الثلاثة سوى أنها ستغادر معهم اليوم بالذات للعيش نهائيا في بيروت، منهية بذلك ما كان حلما بدأ في قرية بعلول الصغيرة قبل 20 سنة في لبنان، وتحول في كولومبيا الى كابوس، وفي الولايات المتحدة الى كبش فداء.