أكاديميون أميركيون يستعيدون مخططات المعماري الشهير رايت لبناء بغداد التي تخلب الأنظار بماضيها الأسطوري وإرثها الحضاري

TT

ظل الكثير من القصص، التي سمعناها في الأسابيع الأخيرة، يؤكد أن الولايات المتحدة تخوض حربا شاقة لكسب التأييد الشعبي داخل العراق، خصوصا مع القناعة المتواصلة السائدة في «الشارع العربي» من ان الغرب يحاول ان يزيل الثقافة الاسلامية. فكيف تستطيع الولايات المتحدة ان تقنع العراقيين بأن ذلك غير صحيح؟

تقول خبيرتان في الشرق الاوسط وتعملان في مكتب الكونغرس، ان الجواب على ذلك يكمن في تلك الخطط غير المعروفة بشكل جيد والتي وضعها المعماري الاميركي الشهير فرانك لويد رايت لاعادة بناء بغداد بشكل تصبح فيه عاصمة متألقة للحضارة الاسلامية شبيهة بتلك التي كانت ذات يوم تبهر العالم اجمع.

وتتساءل هاتان الاكاديميتان لماذا لا يُدعى العراقيون لتأييد الرؤية العظيمة للمعماري رايت والمتمثلة ببناء بغداد جديدة تخلب الانظار وتمتد بجذورها الى ماضيها الاسطوري؟

من المستحيل التقليل من قوة تأثير رؤية باهرة من هذا النوع على العراقيين جميعا بحيث تؤدي الى توحيد كل المذاهب الدينية والقبائل حولها، حسبما تقول ماري جين ديب التي تدرِّس التاريخ والثقافة العربيتين في بلدان مختلفة مثل المغرب والسويد مرورا ببيروت مسقط رأسها. فحسب رأيها حتى الطفل العراقي الأمي ـ بل اي طفل عربي ـ قد سمع ببغداد شهرزاد والسندباد و«الف ليلة وليلة» فكلهم يعرفون انه في وقت كانت اوروبا تتخبط في الجهل خلال عصرها الاقطاعي المظلم، كانت «بغداد موقعا حضاريا متفوقا ـ مكانا للتسامح والفلسفة والموسيقى والشعر والمعمار العظيم والعلوم. لماذا لا يمكنها ان تصبح ثانية المدينة التي كانت؟».

وتوافق مينا ميرفات استاذة الدراسات الاسلامية في مركز كلوج التابع لمكتبة الكونغرس على ذلك. فحسب ما تقوله فان التخطيطات التي وضعها المعماري الاميركي رايت هي احترام عميق للإرث الحضاري الاسلامي بعكس ما يعتقده جزء مهم من الشارع العربي من افكار حول عداء الغرب للثقافة الاسلامية. وتقول مينا: «العراقيون يظنون اننا نريد القضاء على ثقافتهم. مع ذلك فانه حينما اراد اعظم معماري اميركي ان يضع تصميما لبغداد سنة 1957 فهو لم يلتفت الى العمارة الاميركية او الاوروبية المعاصرتين بل الى العمارتين العربية والفارسية اللتين صاغتا شكل بغداد في القرنين الثامن والتاسع».

وقالت مينا ميرفات ان ادراك ذلك قد يساعد العراقيين على تجاوز ما ينظرون اليه حاليا والمتمثل بالنزاعات الآنية ومشاعر النقمة تجاه الاحتلال. واضافت ان «رؤية رايت لبغداد بحاجة الى ألا تكون الرؤية الوحيدة اذ بالامكان دعوة معماريين آخرين ومعماريين عراقيين لتقديم تصاميمهم. يجب ان يكون التركيز الاساسي منصبا على العناصر التي جعلت بغداد مدينة عظيمة في الماضي البعيد». ودفع العراقيين لجعل اعظم ما في تقاليدهم حية مرة اخرى في المدينة التي ستولد من جديد.

وتأمل ميرفات ان تنظم معرضا لتصاميم رايت لبغداد في مكتبة الكونغرس وفي بغداد وهي تأمل ان تكسب اهتمام بعض السينمائيين لعمل فيلم وثائقي عن مشروع بغداد الذي صممه رايت.

وتأتي تصاميم رايت كآخر انجاز قام به هذا المعماري العظيم بعد شوط معماري طويل كسب خلاله الكثير من الاهتمام والتقدير. كان عمر رايت 93 سنة حينما سافر الى العراق في مايو (ايار) 1957 بعد تكليفه بوضع تصاميم لبناء دار اوبرا «تساعد على تحديث» العاصمة العراقية في وقت كان العراق مملكة يحكمها الملك فيصل الثاني. لكن رايت لم يكن مقتنعا بالمكان الذي اختير لدار الاوبرا وهذا ما دفعه للسعي للحصول على تأييد المسؤولين آنذاك لبنائها بدلا من ذلك في جزيرة تقع وسط نهر دجلة. ثم قام بتوسيع اقتراحه كي يشمل بناء قاعة اجتماعات مدنية وبناء حديقة ذات مشهد ومزودة بتماثيل ونافورات وشلالات وكراج لوقوف للسيارات متكون من ثلاثة طوابق يكون على شكل زقورة، اضافة الى بناء متحفين للفن المعاصر والقديم، وحديقة بوتانية مغلقة (خاصة بالاشجار والنباتات) وحديقة حيوانات وكازينو وسوق بازار (مسقَّف) ومدرَّج ومجمع كامل لجامعة. كذلك صمم رايت بناية للبريد في مدينة بغداد القديمة. وكتب آنذاك: «نحن لدينا فرصة عظيمة هناك لاظهار اننا لسنا هدامين بل مشيدين، فيما يخص تلك القوى الاصلية التي بنت تلك الحضارة... نحن لسنا هناك لصفعهم على الوجه بل لتكريمهم».

كتبت ميرفات في فصل كرّسته حول هذا الجانب من عمل ذلك المعماري الشهير عنونته بـ«بغداد رايت» في كتاب «فرانك لويد رايت: اوروبا وما وراءها»، قالت ميرفات ان رايت اقترح بناء مركز مدني في بغداد وكان الهدف هو «تقوية الهوية الثقافية في ماض تاريخي غني. ولتحقيق ذلك جمع الصورتين للفترة الاسلامية وما قبلها، مستندا كثيرا الى الاساطير والذاكرة ضمن سياقهما التاريخي. وكان تصميمه الدائري تذكيرا بصورة المدينة كما بناها المنصور، وتعكس قبابا وابراجا عالية هي استرجاع للذاكرة الاسلامية في الوقت نفسه هناك الزقورات وصفوف البيوت التي تذكِّر بالارث الآشوري وبلاد ما بين النهرين للعراق».

ومع اخذه بالاعتبار لتحديات حضرية مثل حركة السيارات والابراج المخصصة للاتصالات الهاتفية فان «رايت هيأ لبغداد مزيجا نادرا من الاحترام للماضي وتوفير المجال لتكنولوجيا المستقبل... لكن المدينة التي استحضرها في معماره هي مدينة من الذاكرة، من المخيلة، بغداد شهرزاد والسندباد ـ وهذه صور قوية جدا تمكنت من البقاء حية حتى بعد دمار المدينة بقرون كثيرة» حسبما جاء في كتاب ميرفات.

مع ذلك فان الكثير من الحكواتيين العرب قد زخرفوا بغداد عبر القرون بالمصابيح السحرية والبُسُط الطائرة. واشارت ديب وميرفات الى ان بغداد هي اكثر من بغداد القرون الوسطى بل هي اكثر من كيان اسلامي متقلب الاشكال: بل هي شيء حقيقي. اذ انها بنيت بين سنتي 726 و766 ميلادية، وساهم في بنائها 10 آلاف عبد كانوا يشتغلون تحت اوامر ابو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني من بين الخلفاء السبعة والثلاثين المنتمين الى نفس السلالة. وكان المنصور يرى نفسه معماريا وهذا ما جعله يفكر ببناء سور دائري قطره يقارب ميلا ونصف الميل. وتشع اجزاء هذه المدينة من قصر ومسجد مبنيين في الوسط كانهما جزءان في مركز البرتقالة. وللتأكد من صحة تقديراته، حسبما قال بعض معاصريه، امر المنصور بحفر خندق سطحي للسور وملئه بحبوب القطن والزيت ثم اشعال النار فيه مما مكنه من مراقبة شكل المدينة المستقبلية من منطقة مرتفعة قريبة.

لكن بغداد تلك قد تم تدميرها سنة 1258 على يد الغزاة المغول الذين احرقوا مسجدها ومناراتها ومكتباتها ثم نُهبت ثرواتها واستمر القتل لاربعين يوما. وظل العرب منذ ذلك الوقت يرثون لفقدان تلك المدينة. وقالت ديب: «ليس هناك اي مبالغة في الموقع الذي تحتله بغداد كأسطورة في المخيلة العربية... العرب يعرفون ان حضارتهم كانت عظيمة ذات يوم لكنهم لا يفهمون لماذا تلاشت هذه العظمة. الاصوليون يقولون لهم ان ذلك بسبب تعاليم الكفرة من الغرب على الرغم من حقيقة ان بغداد دُمِّرت من قبل قوة من الشرق لا من الغرب».

والتفسير الاكثر احتمالا لهذا التلاشي، حسب رأي ديب، هو ان المفكرين العظماء في العالم العربي كانوا قد قُتلوا على يد المغول. اما الذين نجوا من القتل من المسلمين مثلما هي الحال مع اسبانيا الكاثوليكية فقد تحولوا ضد العقلانية والبحث العلمي، معتبرين كل ذلك عناصر تخريب للدين الارثوذكسي. وأدى التصرف في اسبانيا الى بروز محاكم التفتيش وطرد يهود وحلول قرون عديدة من القتل وغياب التسامح. اما في العالم الاسلامي فقد زاد الانقسام المذهبي والعداء القبلي وتدهور طويل في وجه تقدم الغرب تكنولوجيا.

واليوم حسبما ترى ديب فان الشباب العرب يُطلب منهم ان يختاروا بين فهم اصولي للاسلام ذي اواصر مع ماضيهم الثقافي وبين الحضارة الغربية ذات التكنولوجيا العالية وهم يسمعون من بعض رجال الدين الاصوليين بأن الاخيرة تحاول ان تستغلهم وتهمشهم.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»