رسالة دكتوراه في أميركا تتحول إلى هاجس للوكالات الأمنية خشية وصولها إلى أيدي إرهابيين

TT

وصف المشرف الاكاديمي على رسالة الدكتوراه التي اعدها شون غورمان بأنها «مرهقة وغير ذات فائدة». وغورمان نفسه كان يشعر ان مجرد الحديث حول رسالته يمكن ان يكون مثيرا للملل. إلا ان ذات الرسالة الجامعية لغورمان اصبحت بعد هجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001 ذات اهمية خاصة تتسابق الشركات للاستفادة منها بل يسعى مسؤولون في السلطات الاميركية الى عدم نشر محتوياتها، كما ان عناصر شبكة «القاعدة» اذا وضعت يدها على رسالة غورمان التي اعدها لنيل درجة الدكتوراه من جامعة جورج ميسون الاميركية، فإنها ستجد من دون شك «خريطة الكنز» لاستخدامها في عملياتها ضد الولايات المتحدة.

فالطالب شون غورمان رسم على كومبيوتره المحمول خريطة بالتفصيل لكل الاعمال التجارية والقطاع الصناعي في الاقتصاد الاميركي، موضحا شبكة الألياف البصرية التي تربط بينها جميعا. فمن خلال نقرة واحدة على اي مصرف بمانهاتن يمكن لغورمان التعرف على كل التفاصيل ذات الصلة باتجاهات وأماكن خطوط الاتصالات، كما يمكن من خلال تقريب هذه الشبكات وتكبيرها على شاشة الكومبيوتر تحديد تفاصيل الحركة وحجمها من والى المستودعات في بالتيمور، على سبيل المثال. كما يمكنه ايضاً الوصول الى مجرى الاسلاك بين ولايتي كانساس وكولورادو وإحداث خراب واسع باستخدام مقص من النوع الذي يستخدم في تشذيب اسيجة الاشجار. وباستخدام معادلات رياضية يحاول الوصول الى حلقات حاسمة وخطيرة محاولا الاجابة عن السؤال: «اذا كنتُ اسامة بن لادن، أين سيكون هدف هجومي؟».

وأصبحت رسالة غورمان الجامعية جزءا من أعمال باحثين باتت اعمالهم تخضع للتدقيق لأسباب تتعلق بالأمن القومي للولايات المتحدة، اذ توضح قصة بحث هذا الطالب بصورة جلية تطورات جديدة في التوتر القديم بين المجتمع المفتوح والمجتمع الامني. يقول غورمان، 29 سنة، انه يشعر بالدهشة لتحوله من شخص عادي الى محط اهتمام غير عادي بفعل بحثه الاكاديمي، كما انه لم يرد في خياله مطلقا، كما قال، انه سيطلع مسؤولي السلطات والمديرين التنفيذيين في القطاع الخاص حول اي قضية.

وأضاف ان السلطات اقترحت فرض السرية على الرسالة التي اعدها لنيل درجة الدكتوراه، إلا ان هذا المقترح لا يجد اي نوع من القبول لديه. وتساءل قائلاً: «هل يعني ذلك ان اعيد العمل مجددا في رسالتي؟». ثم علق قائلا ان السلطات تشعر بالقلق بسبب مخاوف تتعلق بالامن القومي وهو يشعر بالقلق «ازاء الحصول على درجة الدكتوراه».

من جانبه، يعتقد ريتشارد كلارك، الذي عمل حتى وقت قريب مسؤولا عن مكافحة الارهاب عبر الفضاء المعلوماتي، ان غورمان يجب ان يسلم رسالة الدكتوراه الى مشرفه الاكاديمي ويحصل على درجته العلمية، ثم يحرقا البحث تماما، فشبكة الالياف البصرية تعتبر بالنسبة للولايات المتحدة بمثابة الجهاز العصبي، اذ ان هذه الالياف، التي لا يزيد سمكها على سمك الشعرة، تمر عبرها حركة شبكة الانترنت والهواتف الارضية والهواتف الخليوية والاتصالات العسكرية والتحويلات المصرفية والحركة الجوية والإشارات الموجهة الى مراكز توليد الطاقة وخدمات المياه الى جانب خدمات اخرى متعددة. ويقول كلارك انه يجب ان يتم تزويد الارهابيين بخريطة تفصيلية لمنشآت يمكن ان تصبح هدفا لعملياتهم.

ووافقت «واشنطن بوست» من جانبها على عدم نشر نتائج بحث غورمان تحت إصرار جامعة جورج ميسون. ويعتقد البعض انه يجب ان تنشر المواقع الخطرة والحساسة حتى تضطر السلطات الاميركية والقطاعات الاقتصادية التي تتبع لها الى حمايتها. وأشار مايكل فاتيس، مؤسس «المركز الوطني لحماية البنيات التحتية» وأول مدير له، الى خطورة الفاصل الزمني بين كشف مواطن الضعف هذه وتوفير الحماية اللازمة لها، مؤكدا ان «توفير الأمن من خلال الغموض والسرية» استراتيجية لا طائل من ورائها ولا يتوقع ان تحقق مكسبا في نهاية الامر.

وأعد غورمان خريطته العملاقة باستخدام مواد متوفرة على شبكة الانترنت بدون ان يستخدم اي معلومات سرية. ويذكر ان ولعه بالخرائط يعود الى طفولته التي نشأ خلالها في عدة مناطق، وانه كان يجلس في المقعد الخلفي في سيارة الاسرة ويحاول تحديد الشوارع والاتجهات التي سيسلكونها. وبدأ غورمان قبل خمس سنوات إعداد بحث أكاديمي للحصول على درجة الماجستير في الجغرافيا، وكان يعتزم في الاساس دراسة البنيات التحتية على شبكة الانترنت والجهات الموصلة بالشبكة والاخرى غير الموصلة وقياس تأثيرها الاقتصادي.

ويقول، لوري شينتلر، الاستاذ المساعد بجامعة جورج ميسون، ان فكرة البحث طرحت على الاكاديميين المسؤولين ووافقوا عليها، مؤكدا انه لم يفكر مطلقا في اي نتائج مترتبة على المعلومات الواردة في البحث.

إلا ان هجمات 11 سبتمبر كانت كافية لإثارة قلق كل مسؤولي المنشآت التي من المحتمل ان تصبح هدفا لهجمات ارهابية اخرى. وابدى مثلاً جون ديريك، مدير الشركة المسؤولة عن توفير الطاقة لحوالي 1.8 مليون شخص في منطقة واشنطن، قلقا بالغا عندما اطلعه مراسل على عينة من الصفحات التي تحتوي على النتائج التي توصل اليها غوارن في بحثه.

وعلق ديريك قائلا ان هذه هي الاسباب التي تثير قلقا بالغا لدى المديرين التنفيذيين لشركات الطاقة الرئيسية. وأضاف متسائلا: «لذا كنا بلدا على هذا المستوى من الغباء بحيث ننشر كل هذه المعلومات ونضعها للاستخدام العام؟ هل لا يزال هذا الانفتاح امرا مجديا؟ لا اعتقد ذلك على الإطلاق».

جدير بالذكر ان ديريك تلقى في الآونة الاخيرة عرضا عبر رسالة بريد الكتروني من شركة لبيعه خريطة ملونة للولايات المتحدة تحتوى على كل انظمة توليد وتحويل الطاقة الكهربائية، لكنه رد فورا على هذا العرض برسالة كتب فيها: «مع اصدقاء مثلكم لسنا في حاجة الى اعداء في العالم».

وعلى الطرف الآخر من فضاء حرية التعبير اشخاص مثل جون يونغ المهندس النيويوركي الذي أنشأ مع صديق له موقعا على شبكة الانترنت يحتوي على صور جوية لمناطق تخزين نووية وقواعد جوية وموانئ وسدود ومخابئ سرية حكومية بالاضافة الى توضيح الطرق المؤدية الى اي مكان من موقع «مابكويست دوت كوم» Mapquest.com على الانترنت. وكان مكتب المباحث الفيدرالي (اف. بي. آي) قد اجرى اتصالا بالمهندس يونغ إلا ان الموقع لا يزال موجودا على الشبكة.

وثمة من يعتقد ان الوقت قد حان لإعادة النظر في فكرة المعلومات البريئة. إلا ان هذه هي ليست المرة الاولى التي تقحم جامعة اميركية نفسها في مثل هذا النزاع، اذ يقارن جون مكارثي، المشرف الاكاديمي على رسالة غورمان بالمعهد الوطني للتكنولوجيا والقانون التابع لجامعة جورج ميسون، هذه الفترة بالحرب العالمية لثانية عندما عمل أكاديميون في فك الشيفرات والبحوث الذرية. وكان مكارثي قد قدم طالبه غورمان لبعض الاشخاص الذين لهم صلة بمجال الامن القومي. وحول البحث نفسه قال مكارثي انه «فتح حوارا بين الاكاديميين والقطاعين العام والخاص» ليواجهوا جميعا التحدي المتمثل في ثقة كل طرف في الطرف الآخر.

وقال مكارثي ان غورمان وشينتلر عندما عرضا نتائج البحث على الجهات الرسمية طلب مسؤولو الحكومة فورا فرض السرية على البحث وعدم نشر نتائجه.

وعند عرض جزء من هذه النتائج في منتدى شارك فيه مسؤولو المعلومات في كبرى الشركات المالية بالولايات المتحدة طلب المسؤولون عدم السماح لغورمان وشينتلر بمغادرة المبنى وهم يحملون جهاز الكومبيوتر المحمول الذي استخدم في عرض هذه النتائج. فعلى سبيل المثال يمكن من خلال نقرة واحدة على كيبل متصل بمكتب في مانهاتن الكشف عن اسماء 25 من شركات الاتصالات. فالاعمال التجارية تتعامل بحساسية تجاه مثل هذه المعلومات، اذ انها لا تريد ان تفقد ثقة العملاء، ولا تريد ان تكون مسؤولة عن اخطاء امنية، كما أنها لا تريد ان تكشف الشركات المنافسة عن نقاط ضعفها. وقد حضر المسؤولان الاعلاميان من شركتي «ويلز فارغو» و«ميلون المالية» الاجتماع المذكور ولكنهما لم يدليا بأي تعليق.

وقالت كاثرين آلين، المديرة التنفيذية لـ«الامانة العامة لتكنولوجيا القطاع المصرفي» ان المسؤولين الذين حضروا الاجتماع اصيبوا بالدهشة والقلق من جراء مشاهدة التداخل والتشابك بين نظم الشركات المختلفة. وأضافت ان المسؤولين قرروا اجراء تدريب في مدينة لم يكشف عنها في وسط غرب الولايات المتحدة على صد هجوم وتفجير بمشاركة قطاع الاتصالات ونظام الاتصال القومي للوقوف على الآثار المحتملة على الخدمات المالية.

وتأمل كاثرين آلين ان يساعد بحث غورمان في حل المخاطر المحتملة بعد تحديد مواطن الضعف. وقالت انها تدرك انه ليس من الممكن ان يخصص شرطي لكل مصرف، متسائلة عن الاشياء التي يجب تأمينها.

ومن المفترض ان يركز الارهابيون اهتمامهم على سؤال الطرف الآخر. ففي ديسمبر (كانون الاول) 2001 ظهر اسامة بن لادن على شريط فيديو حاثا اتباعه على تدمير الاقتصاد الاميركي، ومشيراً من خلال الشريط الى ان «النزيف الاقتصادي في الولايات المتحدة لا يزال مستمرا». وطلب زعيم «القاعدة» في شريطه ذلك من الشباب التعرف على مفاصل الاقتصاد الاميركي وتوجيه ضربات لهذه المفاصل. ويحاول غورمان كل يوم التعرف على هذه «المفاصل» وهو جالس داخل مختبر مغلق بقفل الكتروني وجهاز لتمزيق الاوراق الى قطع صغيرة منعا لنقل أي معلومات منها، كما لم يسمح لأحد بدخول هذه المكان بخلاف شينتلر والمسؤول عن البحث، راجيندرا كولكاراني. وحرصا على عدم تسرب أي معلومات من النتائج التي توصل اليها البحث، يشرف ثلاثتهم على التخلص من المعلومات التي تشطب من البحث الى حين التأكد من زوالها تماما حتى لا تقع في يد شخص آخر. وعندما حدث خلل رئيسي ادى الى التوقف التام لجهاز الكومبيوتر ازالوا بأنفسهم القرص الصلب من داخله وجمدوه قبل تحطيمه تماما وتمرير مغنطيس على سطحه لمحو المعلومات الموجودة داخله.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»