رحيل بطريرك الكلدان بيداويد الرافض نزع «رتبته» قبل الدخول على صدام والمتخصص في فلسفة حجة الإسلام الغزالي

TT

توفي في بيت مري (لبنان) أول من أمس، المونسنيور روفائيل الأول بيداويد، بطريرك بابل للكلدان، عن ثمانين عاما. والراحل هو الزعيم الروحي لطائفة الكلدان الكاثوليك، أكبر الطوائف المسيحية في العراق.

وبخلاف ما هو شائع لدى البعض فإن البطريرك الراحل كان يتمتع بشخصية قوية حتى تجاه حاكم شديد كالرئيس العراقي السابق، صدام حسين، فقبل بضع سنوات، أقيم في بغداد مؤتمر لرؤساء الكنائس الشرقية، بمبادرة من البطريرك بيداويد، وكان مقررا أن يستقبل صدام رؤساء الوفود في ختام اجتماعاتهم.

قبل الدخول على الرئيس العراقي، جرى تفتيش الجميع تفتيشا دقيقا. وأخذت منهم ساعاتهم اليدوية ومحفظاتهم وغير ذلك. ثم حضر طبيب وطلب إليهم فتح أفواههم للتأكد من سلامة أسنانهم، أو ربما لكشف ما يمكن أن يخبأ بين الأسنان. وفي نهاية الأمر طلب الضابط المسؤول عن الاستقبال من رؤساء الوفود أن يخلعوا الصلبان التي يحملونها على صدورهم.

كان صليب البطريرك بيداويد الذهبي هو الأكبر. فانتفض البطريرك وقال للضابط إن هذا الطلب لا يجوز. ولما أصر الضابط على موقفه، حاول البطريرك أن يتفاهم معه بالحسنى، وقال له «إن صليبي هو بمثابة الرتبة العسكرية التي تحمل أنجمها على كتفيك، فهل تقبل بتجريدك من رتبتك؟».

أمام إصرار الضابط على خلع الصليب، قال بيداويد: «إذن، لن أدخل على الرئيس. وأرجوك أن تسلم لي عليه وتشرح له الموقف وتقول له إنني عدت من حيث أتيت».

وإزاء هذه الورطة، وخوفا من غضب صدام، تراجع الضابط الكبير عن عناده أمام عناد البطريرك، وتمت المقابلة.

ولد بيداويد في الموصل ودرس في معاهدها، ورسم كاهنا عام 1944 حيث تنقل ما بين أبرشيات كركوك وأربيل والسليمانية، قبل أن يصبح أسقفا للعمادية، ثم أسقفا ومطرانا في بيروت التي أحبها وعقد فيها صداقات وطيدة مع أهل السياسة والثقافة والفكر، قبل الحرب وبعدها. وفي ربيع 1989 انتخب روفائيل الأول بيداويد ليشغل كرسي بطريرك بابل للكلدان خلفا لبولص الثاني شيخو. ويبلغ تعداد الكلدان قرابة المليون نسمة، يقيم معظمهم في بغداد وقرى الموصل، بالإضافة إلى جالية مهاجرة كبيرة تتركز في مدينة ديترويت الأميركية.

عرف الراحل بشخصيته المتفتحة وثقافته الواسعة، وكان يتكلم ست لغات أوروبية عدا العربية والكردية. وقد حصل على الدكتوراه من جامعة أوربان في روما في فلسفة حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، ثم قدم أطروحة ثانية في اللاهوت عن البطريرك تيموتاوس الكبير ووضع المسيحيين في فترة الخلافة العباسية. كما حصل على شهادة في القانون المدني في جامعة لاتران الإيطالية.

وفي عهد البطريرك بيداويد شيد العديد من الكنائس الكلدانية في العراق وخارجه، كما أسس «دار بابل» للنشر ورعى إصدار مجلة «نجم المشرق» للطائفة في بغداد. ومما يذكر له أنه أسس كلية بابل للتدريس وتخريج رجال دين متعلمين، بمعزل عن دير تربية الكهنة التقليدي.

وأيد البطريرك بيداويد الرئيس العراقي صدام حسين خلال السنوات الأخيرة، وشن حملة في الأوساط الكنسية العالمية ضد الحصار الاقتصادي على العراق. وقد أخذ عليه قسم من أبناء الطائفة هذا الولاء المبالغ فيه. وكان يرد أن الكنيسة كانت دائما في وفاق مع السلطة الحاكمة في العراق، وأنه يعتبر صدام حسين حاميا للمسيحيين من الأهواء السياسية، وهو ما عبر عنه في حديث لوكالة «ميسنا» في العام الماضي حين قال إن مسيحيي العراق سيكونون أول ضحايا أي نزاع طائفي يقوم بين المسلمين، شيعة وسنة، وفي غياب حماية الدولة لهم فإنها ستكون نهاية المسيحيين في هذا البلد الذي شيد أقدم كنيسة في التاريخ.